خوسيه سراماجو.. كاتب البرتغال الكبيرذكريات يرويها محمد سلماوىالأهرام اليومي : 25 - 06 - 2010
كان خوسيه سراماجو كاتب البرتغال الكبير الحائز على جائزة نوبل عام 1998 من المثقفين الذين يرون أن دورهم لا يقتصر على إنتاج الكتب فقط، إنما عليه أن يدافع عن المواقف التى تقوم عليها الثقافة وتتأسس عليها مبادئ الفكر وكل المثل النبيلة التى بدونها لاتكون هناك ثفافة ولا فكر ولا فنون ولا آداب. لقد كان سراماجو الذي توفي منذ أيام عن87 عاما من أكثر المثقفين العالميين دفاعا عن القضية الفلسطينية, ولن ينسي له التاريخ زيارته إلي رام الله عام2002 وسط حصار نفسي فرضته إسرائيل علي الضفة الغربية, والتقائه بياسر عرفات الذي كانت تحظر إسرائيل علي ضيوفها لقاءه, ثم وصفه الذي دوي في العالم حين شبه مايحدث للشعب الفلسطيني علي يد الاحتلال بما حدث لليهود علي يد النازي في أثناء الحرب العالمية الثانية.
وكان سراماجو قد قاد حركة العداء لسياسة الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش وشارك مع عدد كبير من الأدباء والمفكرين في أوروبا في مناهضة غزو العراق.
ولقد التقيت بخوسيه سراماجو بعد ظهر أحد أيام شهر مارس من عام1992 بأحد مقاهي العاصمة البرتغالية لشبونة, لم يكن سراماجو قد حصل علي جائزة نوبل بعد, لكني كنت في زيارة للبرتغال بدعوة خاصة من رئيس جمهوريتها آنذاك ماريو سوارش الذي ربطتني به وبزوجته فنانة المسرح الأولي في البرتغال ماريا باروزو علاقة صداقة قوية جعلته يقبل بعد ذلك دعوتي لافتتاح جريدة الأهرام إبدو في أثناء زيارته الرسمية لمصر عام1994, حيث أقمنا له ندوة كبيرة حضرها كبار كتاب الأهرام من جميع الاتجاهات.
وقد أقام ماريو سوارش مأدبة غداء علي شرفي أنا وزوجتي بقصر بليم الرئاسي في لشبونة تحدثنا خلالها عن البرتغال ومصر والاشتراكية الدولية التي ظل سوارش يرأسها سنين طوال, كما تحدثنا عن الثقافة والأدب والمسرح والفنون التشكيلية باعتبار سوارش من أكثر جامعي الأعمال الفنية في العالم ولديه مجموعة من اللوحات تتكدس في جميع غرف شقة خاصة أفرغها سوارش لهذا الغرض.
ولقد سألت السيدة الأولي للبرتغال: إذا كان لي أن ألتقي بكاتب واحد خلال زيارتي الحالية للبرتغال فمن ترشحين؟ قالت: إذا كنت تريد كاتبا يتفق عليه الجميع فهو أنطونيو لوبو أنطونس, أما إذا كنت تريد كاتبا ليس كالآخرين فهو خوسيه سراماجو.
وقد كانت ماريا باروزو علي حق, فلم يكن خوسيه سراماجو مثل الآخرين, فقد تخلي, علي سبيل المثال, عن الأدب لمدة ثلاثين عاما بعد أن كتب روايته الأولي أرض الخطيئة(1947) وهو في سن ال25 ولم يعد إلي الكتابة الروائية إلا في عام1975 برواية تحمل عنوان في عام1993, وحين حصل علي جائزة نوبل في عام1998 لم يكن رصيده الروائي يزيد علي عشر روايات.
والحقيقة أنني لم أكن قد قرأت لسراماجو إلا رواية واحدة حين حدثتني عنه ماريا باروزو لكني أعجبت به إعجابا شديدا, تلك كانت رواية الطوف الحجري التي قرأتها ضمن قراءاتي التحضيرية لزيارة سابقة للبرتغال في يوليو عام1991 حين كنت علي موعد لإجراء حديث صحفي مع رئيس الوزراء أنيبال كافاكو سيلفا نشر في حينه في الأهرام وقد عاد كافاكو سيلفا مرة أخري هذه الأيام إلي مقعد الوزارة البرتغالية.
وأنيبال كافاكو سيلفا هو مهندس انضمام البرتغال للاتحاد الأوروبي, أما خوسيه سراماجو فكان رمزا للمعارضة في هذا الموضوع وكتب عدة مقالات قوية في الصحف البرتغالية تعارض سياسة الحكومة في هذا الصدد.
ثم جاءت روايته العظيمة الطوف الحجري التي تخطت المعارضة للانضمام للاتحاد الأوروبي إلي تجسيد الهوية البرتغالية التي يراها سراماجو تنتمي إلي أمريكا اللاتينية أكثر مما تنتمي لأوروبا.
تبدأ الرواية بحدوث ظاهرة طبيعية غريبة هي اختفاء أحد الأنهار الكبيرة الآتية إلي الأراضي البرتغالية من فرنسا, ثم يلي ذلك ظهور شق ضخم بين شبه جزيرة أيبريا التي تضم إسبانيا والبرتغال والقارة الأوروبية, ويتزايد هذا الشق إلي أن تتحول أيبريا إلي جزيرة منفصلة تماما عن أوروبا, ثم يكتشف سكان الجزيرة أنها أخذت تتحرك كالطوف الحجري في المحيط الأطلنطي بسرعة أخذت تتزايد حتي وصلت إلي مائة كيلو متر في الساعة.
وتحدث في كل من البرتغال وإسبانيا حالة من الذعر العام والقلق علي مصير البلاد إلي أن يكتشفوا أن جزيرة إسبانيا والبرتغال الطافية في المحيط قد استقرت في النهاية عند شواطئ أمريكا اللاتينية.
وبهذا المعني فقد عبرت رواية الطوف الحجري عن موقف سراماجو بأن الانتماء الحقيقي للبرتغال وإسبانيا هو مع دول أمريكا اللاتينية ذات الثقافة الإسبانية البرتغالية المشتركة.
ورغم الضجة التي أثارتها رواية الطوف الحجر عند بداية نشرها عام1986, حيث اعتبرت أكبر وثيقة إدانة لسياسة الحكومة إلا أنني حين قابلت سراماجو كان حريصا علي أن يؤكد لي أن الهدف من روايته لم يكن مجرد الإعلان عن موقف سياسي وإنما كان اهتمامه الأول ككاتب روائي هو البشر, وقال: إن الطوف ما هو إلا موقع الأحداث لكن الروايات لاتتحدث أبدا عن الأراضي وإنما عن الشخصيات التي تعيش عليها.. والشخصيات في هذه الرواية يرتبطون بعلاقات وثيقة مع ثقافة أمريكا اللاتينية, فهي ثقافة نابعة من اللغة المشتركة والتاريخ الثقافي المشترك, بل والحاضر المشترك أيضا الذي يجمع بين إسبانيا والبرتغال وسائر دول أمريكا اللاتينية.
ويعتقد سراماجو أن مثل هذه الروابط الوثيقة لا وجود لها بين البرتغال ودول أوروبا الأخري ذات الأصول الأنجلوساكسونية أو الجرمانية أو الغالية, ناهيك عن أصول دول أوروبا الشرقية الصربية والسلافية وغيرها.
وقد قال لي: الحقيقة أن أوروبا كلها بحاجة ماسة إلي الاتجاه نحو الجنوب, ثم أضاف: يجب أن نخرج عن برجنا الشمالي لنبدأ في التعامل مع الجنوب كما يجب وليس كما يريد بعض رجال السياسة, فالغالبية العظمي من أقراننا في هذا العالم هم سكان الجنوب.
ولعل تلك الكلمات التي قالها لي سراماجو قبل ما يقرب من عشرين عاما كانت مقدمة للمواقف العظيمة التي اتخذها بعد ذلك إزاء القضية الفلسطينية ومعاناة الشعب العراقي تحت الاحتلال الأمريكي.
وكان سراماجو واضحا وهو يقول: إن آفة الحكام تكون حين يهتمون بالسياسة وينسون البشر, بينما البشر هم كل شيء ليس فقط في الأدب وإنما أيضا في السياسة.
والبشر الذين هم أبطال رواية سراماجو الطوف الحجري ينقسمون إلي أجانب من رجال الأعمال الأوروبيين الذين جاءوا يستثمرون في البرتغال بعد فتح أبوابها للاتحاد الأوروبي, فهؤلاء يتركون البلاد بمجرد انفصالها عن القارة الأوروبية, حتي إذا ما وصلت الجزيرة الطافية إلي أمريكا اللاتينية لم يكن بها غير سكانها الذين لم يتركوها, وهؤلاء يخرجون ليرقصوا في الشوارع ابتهاجا بهذا الوصول.
وتظهر نزعة السخرية اللاذعة التي اشتهرت بها كتابات سراماجو في هذه الرواية حين تصدر دول المجموعة الأوروبية التي طالما عارضت انضمام البرتغال إليها, بيانا شديد اللهجة تعلن فيه احتجاجها علي انفصال إسبانيا والبرتغال عن أوروبا, كما يصدر حلف شمال الأطلنطي بيانا آخر غامضا لا يفهم منه إن كان الحلف مع الانفصال أو ضد. أما بريطانيا فقد سعدت سعادة كبيرة, لأن جبل طارق المتنازع عليه بينها وبين إسبانيا قد ظل في مكانه وسط مياه البحر الأبيض المتوسط بعد أن انفصلت عنه شبه جزيرة إيبريا فلم يعد ينازع بريطانيا فيه أحد.
ويتجه سراماجو في روايته إلي الشباب الأوروبي الذي يبدأ الكثير منه في مختلف الدول الأوروبية التعاطف مع انفصال إسبانيا والبرتغال, مما يتسبب في مصادمات عنيفة مع قوات البوليس التي تري في ذلك خروجا علي السياسة الرسمية لدول أوروبا.
ولا شك في أن معارضة سراماجو انضمام البرتغال إلي المجتمعات الرأسمالية للاتحاد الأوروبي تعود في جانب منها إلي انتماءاته السياسية, فهو عضو بالحزب الشيوعي البرتغالي, وحين فاز بجائزة نوبل عام1998 كان أول فائز بالجائزة يحمل بطاقة عضوية بأحد الأحزاب الشيوعية.
ووقت التقيت سراماجو في أحد مقاهي العاصمة البرتغالية كانت النظم الشيوعية قد تفككت في العالم بسقوط حائط برلين, وحين ذكرت له ذلك قال: إن الأفكار الكبيرة لا تسقطها بضعة أحجار وقعت في برلين أو في غيرها, وقد ظل علي موقفه هذا لسنوات تالية, ففي العام نفسه الذي فاز فيه بجائزة نوبل كان مدعوا لمعرض فرانكفورت الدولي للكتاب, حيث ألقي محاضرة بعنوان لماذا مازلت شيوعيا؟!.
وكان خوسيه سراماجو رجلا طويل القامة, نحيفا إلي حد ما, فقد معظم شعر رأسه, وهو يضع علي عينيه نظارة طبية كبيرة, وقد تحدث إلي بالفرنسية بلكنة برتغالية واضحة, وحين سألته أين تعلم الفرنسية؟.. قال لي: حيث تلقيت كل تعليمي فلم أفهم, فأضاف: في الشارع.
نشأ سراماجو في عائلة فقيرة واضطر للعمل منذ نعومة أظافره واعتنق الشيوعية في شبابه إلي أن انضم رسميا إلي الحزب الشيوعي عام1969, وقد كان لسراماجو دور نشيط داخل صفوف الحزب, خاصة في الفترة التالية لسقوط ديكتاتورية سالازار عام1974, وحين تحولت بلاده بعد ذلك إلي اليمين الرأسمالي, لم يتنازل عن مواقفه الراديكالية, وكان لاذعا في نقده السياسة البرتغالية حتي إنه وصف لي رئيس الوزراء أستاذ الاقتصاد كافاكو سيلفا بأوصاف لا أستطيع نشرها دون التعرض للمساءلة القانونية, فقد كان يري فيه نموذجا لمن لايعرف تاريخ بلاده ولا تراثها, وكل شاغله هو الانضمام إلي المجتمع الرأسمالي الموالي للولايات المتحدة, وهو علي استعداد لتطبيق كل ما يطلب منه لتحقيق ذلك.
وقد شهدت السنوات الثلاثون التي ترك فيها سراماجو العمل الإبداعي نشاطا سياسيا مكثفا أخذ كل وقته, لكن الأديب عاد يؤكد نفسه مرة أخري فأصدر في السنوات الأخيرة روايات اعتبرت جميعها من روائع الفن الروائي في العالم, وقد كانت آخر رواية قرأتها له هي العمي التي تعتبر في رأيي امتدادا للخط الفكري الذي جسدته رواية الطوف الحجري, فبعد سنوات من صدورها انضمت البرتغال إلي الاتحاد الأوروبي ونست أو تناست هويتها الخاصة التي تحدث عنها سراماجو في الطوف الحجري, وهكذا جاءت رواية العمي لتصور لنا مجتمعا أصيب كل من فيه بالعمي ما عدا بطلة الرواية وهي سيدة عجوز تري وحدها ما لا يراه الآخرون, أما نحن ممن تابعوا إبداعات كاتب البرتغال الكبير ومواقفه السياسية والإنسانية النبيلة فشهود الآن علي الرحلة الأخيرة لطوفه الحجري الذي استقر الآن إلي الأبد في عالم الخلود.