شــئتم أم أبيتــم .. إنهـا اللغـة الخـالدة، وهي الأقـدر على التعبيـر مطلقــا علــى الأرض في شـتى المجـالات
أيها الســادة على اختـلاف اختصاصــاتكــم، وتنــوع مهنكـم وتوجهاتكـم، وتبايـن ألســنتكم. مستــشرقين أم مســتكشـفين، مخترعين أم باحثيـن، علمـاء أم أدبـاء، شـكسـبيريين أم دانتييــن، أسـاطين في التقنيــة أم روادا في الفضـاء .. مهما اختلفت اختصاصاتكــم أو مباحثكـم أو منابـع علومكــم، تظـل العربيـة ســيدة اللغـات، وتظـل الأقـدر على التعبيـر بشـكل تتصاغـر أمامـه باقـي اللغـات رغـم إنجازاتهـا وغـزارة نتاجهــا.
لم يدفعنـي إلى قول ماقلت عصبيـة أو نزعـة من نـوع أو شـكل معيـن. إنهـا الحقيقـة ليس إلا. الحقيقـة التي عاينتهـا بنفسـي مع تجربـة زادت مدتهـا عن خمسة وعشــرين عامـا، قمت خلالهـا بتعريب الآلاف من الصفحـات في مجـالي الكمبيوتـر والالكترونيـات. وشـملت هـذه التجربـة القيـام بتعريب كتب ومحاضـرات، وأبحـاث ونشـرات، ومدونـات ومواقـع، ضمـن الحقليـن الأكاديمـي والعمـلي.
وأقـول تعريبـا لأنه يسـتحيل كتابـة العلـوم أو التقنيـات باللغـة العربيـة وفـق طرق وأسـاليب الترجمـة الحرفيـة. إذ لابـد من التصـرف في كل النواحـي لإخـراج النص (مضمونـا وتعبيـرا) وفـق اسـلوب يمكّــن القـارى أو الدارس من تقبلـه والإفـادة منه وفق الشـكل الأمثـل.
ابتـدأت رحلتـي مع التعريب مع بدايـة عام 1982 عندمـا عملت بصفـة باحث في مدينـة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنيــة في مدينـة الريـاض بالمملكة العربية السـعودية، وكنت آنئـذ حديث التخـرج .. إذ تخرجت من جامعـة دمشـق أحمـل إجـازة في العلوم الرياضيـة والفيزيائيـة بتفـوق عــالي نلت بموجبـه المرتبـة الأولى ضمن مجموعـة الخريجيـن لعـام 1981. وظل اسـمي مدرجـا في لوحـة الشـرف لبضعـة أعـوام أخـرى تلت.
وتمكنت بموجب القوانين السـائدة في ســوريا في ذلك الوقت من الحصـول على شــهادتي كوني الأول في امتحانات البكالوريوس .. الأمـر الذي سـاعدني على العمـل مع مدينـة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنيــة (وهي بالمناسـبة صـرح علمـي ضخـم ذو مفـدرات كبيـرة يمثـل مركـز البحث الأول والأكبـر والأقـدر على مستوى المملكـة والمنطقـة بشـكل عـام). ثم مالبثت أن تعاقـدت مع جامعـة البترول والمعـادن بالظهـران (وهي إحـدى الجامعـات القديـرة والجديـرة مما هو مصنف عالميـا) كمحاضـر في كليــة الحاسـب والمعلومـات، وقد سـاعدني تفـوقي (بشكل كبيـر) على الالتحـاق بهذه الجامعــة. وكانت كليـة الحاسـب يومئـذ تحت مسـمى قسـم علوم وهندسـة الحاسـب الذي يتبــع بــدوره كليـة تسـمى: كليـة العلوم الهندســـية.
وهنـا كانت الصدفـة. فجامعـة البترول والمعـادن تعتمـد اللغـة الانجليزيـة في الدراسـة والتدريس والكتـاب والخطـاب. ومن غيـر المألـوف أو المسموح أن يتم التعاطـي باللغة العربيـة على المستوى الأكاديمـي أو البحثـي وفـق اي من الأشــكال. ورغـم أنني كنت مؤهـلا للتدريس باللغـة الانجليزيـة بشـكل جيـد جـدا، ومارسـت ذلك بجـدارة، إلا أنني صـدمت وفوجئت بواقـع عملـي غريب تمثـل في الرغبـة الشديدة والملحـة من طـلاب الفئـات التي كنت أدرسـها (وكان أغلبهـم من السنة الأولى أو السنة الثانية) بأن أنقـل إليهـم المعلومـة العلميـة (رياضيـات أم فيـزياء أم علوم كمبيوتـر) بلغتهــم الأم .. اللغـة العربيـة !!
وكـان هذا الأمــر محيـرا جـدا بالنسبة لي. إذ كـان علي الاختيـار بين الهدف المنشود المتمثـل بضـرورة تفهـم الطـلاب للمعلومـة العلميـة بشـكل لايقبـل اللبس، وبيـن طبيعـة الواقـع ضمن الجامعـة التي تحتـم اسـتعمال الانجليزيــة بشـكل كامــل لايمكـن تجــاوزه. فمـا كان إلا أن حاضـرت باللغـة الانجليزيـة وسـمحت بنفس الوقت للطـلاب بمناقشـة المسألة أو البرنامج باللغـة العربيـة بعـد المحاضــرة .. الأمـر الذي انعكس إيجابـا شـديدا على الطـلاب، وزادهـم تقديـرا لهذه المبـادرة التي لم تكـن مألوفـة في ذلك الوقت إذ كـانت نسـبة المدرسـين والأسـاتذة من الأجانب الغربييـــن أو الشــرقيين ممن لايمت إلى لسان الضـاد بصلـة، هي النسـبة العظمـى.
وحتى المدرسـين العرب (في ذلك الوقت .. ماعـدا الذين تعلمــوا العلم أساسا باللغـة العربيـة .. وهم في الغـالب خريجـو الجامعـات السـورية تحديـدا) كانـوا غير قـادرين على الدمـج بين المفهـوم العلمـي وكيفيـة التعبيــر عنه باللغـة العربيـة، لأنهـم تلقــوا علمهــم أساسا وتعلمـوه في جامعاتهـم ضمن بلدانهـم (وإن كانت بلدانـا عربيـة) باللغة الانجليزيـة.
إن سـردي لجــزء من الواقع الشـخصي لايهـدف إلـى إدراج سـيرتي الذاتيـة على صفحـات المنتـدى، بـل إن الهـدف من هذا الســرد هو توضيـح الصـورة من أجـل نقـل واقـع حقيقي يعتبـر بمثابـة برهـان دامـغ ناتج عن تجربـة عمليـة لمستها على الواقـع. ونـتاج التجربـة تمحـور حول جانبيـن: الأول يتمثــل بالجـدوى القصـوى، علميـا ودراسـيا وتدريسـيا، الناتجـة عن دراسـة العلـوم من قبـل الطـالب بلغتـه الأم. والثـاني إثبـات أن اللغـة العربيــة لســان قـادر بشـكل قـوي جـدا على استيعاب كل اصنـاف العلـوم والدراســات بكل ماتحمل الكلمـة من معنـى.
وعلى هذا الأساس، وأمـام هذا الواقـع قمت بتحــد واضــح، كان الخصـم فيـه نفســي، من أجـل إثبـات هذه الحقيقـة. وبـادرت على الفـور (وخـلال فتـرة لم تتجـاوز شـهورا ثلاثـة) بتعريب دقيـق من الناحيتين العلميـة واللغويــة لكتـاب شــهير من أمهـات الكتب التي لايمكـن للطـلاب في كليـات علوم الحاســب أو هندسـة النظـم تجـاوزه، لا.. بل كـان المدخـل الرئيسـي إلذي يتوجب عبـوره إلى السـنوات المتقدمـة .. ناهينـا عن أنـه معتمــد في كلتــا المرحلتيـن .. البكالوريوس والماجسـتير.
وكـان هذا الكتـاب يتعلق بما يدعـى بلغـة البرمـجة الخوارزميـة Algorithmic Programming Language وهي اللغـة التعبيريـة الأسـاسـية للبرمجـة التي ينطلـق المبرمـج من خلالهـا إلى تطبيـق برامجـه على لغات البرمجـة التقنيـة المعروفـة أكاديميــا مثل الـ Pascal والـ C - Language .. الخ. وقـد كان عـدد صفحـات هذا الكتـاب يتجــاوز أربعمائـة صفحـة. ولاأكـون مبالغـا لو قلت لكـم بأن التعريب الذي أنجــز لهـذا الكتـاب أحـاله إلى مرجـع علمـي قديـر مفصـل يتقبلـه الدارس أو الباحث العربـي بشـكل غير مسـبوق. وكـان ذلك بالنسبة لي بمثابــة إثبـات راسـخ جديـد يؤكـد النظريـة في ظـل برهـان حقيقي وعملـي.
إن الحديث في حقيقـة يعرفهـا الجميـع، ويقـر بهـا كــل أهـل العلـم بـأن تدريس العلـوم أو غيـر العلـوم باللغـة الأم هو الأجـدى، هو حديث طويـل وصحيـح لايحتـاج لخوض أو برهـان كونـه من البداهـة بمكـان. ولكنـي أؤكـد بـأنه إذا كانت اللغـة الأم (بغض النظر عن تلك اللغــة) هي جسـر العبـور إلى غايـة الفهـم والإدراك .. فما بالكــم (باللــه عليكم) فيمـا لو كانت تلك اللغـة على مستوى اللغـة العربيـة التي يعلـم جميعنـا قدراتهـا ورحابتهـا؟
اختـم كلامي هـذا بتوصيـة مختصرة لكل من نالـه شــرف اللغـة العربيـة. ومفـاد توصيتــي: احرصـوا على هذا الكنـز الثميـن، فواللـه إن هذه اللغـة قـادرة على التفصيـل والتعبيـر وفـق مستوى ونوعيـة لاتصـل إليهـا اللغـات الأخـرى مهمـا بلغ حجـم التقـدم. وليس فقـر مكتبتنـا العربيـة، وخاصـة فيما يتعلق بالجانب العلمي أو التقني منهـا، إلا نتيجـة لعـدم الاكتـراث من قبـل الكثيــر من أهـلهــا. وليعلـم جميعنـا بأن ماتفتخـر به كل الأمـم، والأمـة اليابانيـــة تحديـدا، هـو اعتمـادها الصــارم للغتهـا الأم في كل المناحـي.
ويزيـد البرهـانَ رســوخ يتمثـل في التقـدم الهائـل الذي حققته اليــابان خـلال ثلاثة عقـود بــدءً من نقطـة الانهيـار بعد الحرب العالميـة الثانيـة. ولنتذكـر أو نراجـع مايقـر به اليــابانيـون علنــا من أن اعتمـادهم للغتهـم كان أحـد اهم اسـباب تقـدمهــم. ولا أدل على ذلك من النظـم الأكاديميـة التي تفرضُ على الخـريج في اليــابان ترجمـة كتاب أو أكثـر خـلال مرحلـة دراسـته الأكاديمــية يحـدده له معهـده أو جامعتـه كشـرط لحصولـه على شــهادة التخرج، أو كمـادة منجحـة ومرسـبة من ضمن المـواد.
هشـام الخـاني