هل تكفي "التعددية الحزبية"، لتجسيد "التشاركيَّة السياسية" الحقيقية؟!
وهل هي تكفي من ثمَّ لتجسيد "الحرية"، كحاضنة لمبدإ "تداول السلطة"؟!
أسامة عكنان
لِحُرِّيَّة الإنسان حالتان، أو لنقل صورتان تجسِّدانها، الأولى هي تلك التي تخوِّله القدرة – بموجب إنسانيته "المريدة العاقلة" – على الاختيار بين البدائل المتاحة أمامه باستخدام عقله وبتجسيد إرادته. والثانية هي تلك التي تنظم آلياتٍ تتيح له فرصةَ تنفيذِ اختياره الحر بين البدائل التي اختار من بينها عبر "الممارسة الحرة"، لأن الحالة التي يُمْنَع فيها الإنسان من ممارسة خياره الحر الذي تجسِّده الصورة الأولى للحرية، هي حالة ممكنة، وتَنْتُج عن سلوك إنساني يحجر عليها ويمنعها من تجسيد نفسها، من خلال آليات محددة تمثل "القمع" و"الاستبداد" و"الحجر" و"المنع".. إلخ..
وإذا كانت الحرية بصورتها الأولى صفةً جوهرية في الإنسان بحكم إنسانيته "المريدة العاقلة"، مُمَثِّلَة بذلك جوهر الإنسان وطبيعته، فإنها بصورتها الثانية حقٌّ يستشعر الإنسان بفطرته استحقاقَه لها بسبب انطوائه على الحرية بصورتها الأول. إنها بمعنىً آخر شكل من أشكال التنظيم المجتمعي الذي يمنعُ أيَّ إنسانٍ من أن يحجر على حرية إنسان آخر في الاختيار وفي ممارسة الاختيار.
أي أن الحرية تجسِّد نفسها عبر صورتين، إحداهما "طبع" لا سلطة لأحد عليه، والآخرى "حق" لا يجوز لأحد انتزاعه أو الحجر عليه..
وإذا كانت الحرية بمفهومها الأول تشير إلى الطبيعة الإنسانية المريدة العاقلة، فإنها بمفهومها الثاني تشير إلى اهتمام إنساني اجتماعي، لأنها بهذا المفهوم لا مكان للحديث عنها خارج الأطر المجتمعية، إذ أن الإنسان الذي يعيش وحده دون أن يخضع لأيِّ تنظيم مجتمعي، لن يحتاج إلى الحرية بهذه الصورة، لأن أحدا لا يحجر عليه أو يمنعه من ممارستها أساسا.
إن الصورة الثانية للحرية، وهي تلك التي تتيح للإنسان فرصة ممارسة مُخْرَجات الصورة الأولى لها، فتفتح أمامه سُبُلَ الإبداع والترقي بنفسه، من خلال رفع كل مُعَوِّقات حركته وتفكيره وتعبيره عن رأيه. إنها باختصار الحرية الاجتماعية متمثلة بادئ ذي بدء في حرية المعتقد والدعوة إليه، وفي حرية إبداء الرأي والدعوة إليه، وفي حرية وحق المشاركة في الحياة السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية بوجه عام.
ومن هنا سننطلق في تحليلنا لقيمة "الحرية"، الحرية بصورتها الأولى لا تحتاج في ذاتها إلى تنظيم للاعتراف بها، لأنها "طبيعة إنسانية"، أما الصورة الثانية لها فهي التي تحتاج إلى تنظيم، لذلك فإن البحث في مبررات التنظيم وآلياته وأنجع صوره هو جوهر حديثنا التالي..
على الرغم من أن الفكر الإنساني الحديث والمعاصر قد جعل من التعددية السياسية مُمَثَّلَةً في التعددية الحزبية، أهم مظهر من مظاهر الحرية الاجتماعية وأهم مظهر من مظاهر الديموقراطية. وعلى الرغم من أنها بالفعل كذلك، في ضوء الفلسفات المتاحة والسائدة لتأطير وتنظيم "الحرية"، فليس في هذا ما يَمنعنا من التأكيد على أن تركيز "الحرية" و"التشاركية" السياسيتين في قضية "التعددية الحزبية" وقصرهما عليها ينطوي على تضليل ومغالطة.
إن الحرية قيمة عظيمة تطال كلَّ مرافق الحياة في المجتمع، وليست "التعددية الحزبية" سوى مظهرٍ من مظاهر الحرية. إن "آلية الحكم" و"إدارة الدولة" في مجتمعٍ ماَّ، يُفْتَرَض فيها أن تكون تَجميعا مكثفا على مستوى القمة لكل مظاهر "الحرية" ولكل آليات "التشاركية السياسية" الممكنة والمتخيلة في ذلك المجتمع، الأمر الذي لا يصح معه أن تُهيمن على هذه "الآلية/آلية الحكم"، وعلى تلك "الإدارة/إدارة الدولة"، فكرةٌ واحدة هي فكرة "التعدًديَّة الحزبية".
إن الأحزاب السياسية هي تعبيرات حديثة عن تركيز الآراء والمواقف والرؤى السياسية المتوافقة، كي تكون فاعلة وكي لا تذهب هدرا بسبب تَشَتُّتِها. وليس في هذا ما يعطي التواجدَ الحزبي – رغم ضرورته ديمقراطيا – حق التَّحَكُّم في "آلية الحكم" وفي "إدارة الدولة".
ومع أن "التعددية الحزبية" تعكس نموذجا متقدما من نماذج تطبيق "الحريات الديمقراطية". ومع أن إخضاع آلية تنظيم الحكم وإدارة الدولة للمحتوى الحزبي للمجتمع – كما هو واقع أرقى نماذج الديمقراطية المعاصرة – فيه تجاوز لكل المعاني القديمة والبدائية والثيوقراطية والمطلقة للحكم، فإن هذا لا يعني أنها النموذج المثالي والأسمى لاستيفاء المواطنين حُرِّيَّتَهم الكاملة ومشاركَتَهم الفعلية في قيادة المجتمع. إنَّها مرحلة عليا من الحرية والديمقراطية، لكنها مع ذلك ما تزال قاصرةً عن تحقيق وتجسيد "آلية حكمٍ" و"إدارة دولة" تكفل الحرية والديمقراطية والمشاركة الشعبية الحقيقية والدقيقة وعلى أوسع نطاق.
إن تأكيدنا على أن "آلية الحكم" و"إدارة الدولة"، يجب أن تستندا إلى صيغٍ جديدةٍ تكفل تكثيف كل علاقات الحرية من أدنى المستويات إلى أعلى المستويات، لتصب في تحديد مواصفات وأداءات قمة "هرم السلطة" السياسية في المجتمع، يجعل من منظومة العمل الحزبي القائمة على "التعددية التشاركية" في النموذج الديمقراطي الذي نتصوَّره – مع التأكيد على، ولفت الانتباه إلى أننا نستخدم كلمة ديمقراطية بمعناها الاصطلاحي المعروف، وهو "حكم الشعب" بأوسع فضاء ممكن لهذا الحكم – مجردَ مظهر واحد من مظاهر الحرية والمشاركة الشعبية في الحكم.
إن مجموعةً من الملاحظات الموضوعية حول واقع مُمارسة المجتمعات لحريتها من خلال آلية التعددية الحزبية تَتَكَشَّف لنا، دافعة بنا قسرا إلى التأكيد على أن قصورا ذاتيا يقوم في جوهر هذه الآلية، يُفْقِدها بعضاً من زخمها الديمقراطي، بحيث يجب تفعيلها كآلية، برفدها بِما من شأنه أن يُعَوِّض هذا الهدر المتحقق بسبب تلك الملاحظات التي يمكننا الإشارة إليها فيما يلي..
1 – ما من مجتمع تُمارَسُ فيه التعددية الحزبية التشاركية كآلية للوصول إلى امتلاك سلطة إدارة الدولة، إلاَّ وتكشف لنا خبرةُ مراقبته ومتابعته، عن تدنٍ ملحوظ في نسبة المشاركة الشعبية في ممارسة الحرية من خلال هذه الآلية. سواء كان هذا المجتمع متقدما أو متخلفا، عريقا في تقاليده الديمقراطية والحزبية أو غير عريق، إلاَّ باستثناءات قليلة، يمكن عَدُّها على الأصابع لتأكيد القاعدة. وتتفشى هذه الظاهرة أكثر ما تتفشى في الدول النامية عموما. فلا يوجد شعب تزيد نسبة مشاركته في الانتخابات عادة عن "60% - 80%"، في الحالات المتقدمة جدا، أما في الغالبية العظمى من المجتمعات، فإن المشاركة لا تصل حتى إلى نسبة "50%"، وتقل إلى ما دون ذلك بكثير في معظم الدول.
فإذا كان معظم البشر يتصرفون بلامبالاة مريبة حتى في لحظات التعبير عن حريتهم، التي تمثل الانتخابات السياسية أرقى نماذجها المعاصرة، متنازلين عن حق ممارسة هذه الحرية، مع أنهم يعلمون علم اليقين أن أولئك الأشخاص الذين سيصلون إلى السلطة سيتحكمون في مصائرهم، وكأنهم بالعزوف عن مشاركتهم يستسلمون لما سيُفْعَل بِهم دون مقاومة أو اعتراض.
فهل يَكْمُنُ الخلل في فكرة مُمارسة الحرية من خلال آلية "التعددية الحزبية التشاركيَّة" ذاتِها، بحيث يُمكننا القول بأنها فكرة قاصرة عن إقناع كلِّ الناس بجدواها وبكفاءتها في التعبير عن إرادتهم، لأن بعضهم أو معظمهم يرون أن هناك بوابات أخرى غير "التعددية الحزبية التشاركية" للتعبير عن تلك الحرية، أو ربما لأن بعضهم أو معظمهم يرون أن حرياتهم هم شخصيا لا يمر تجسيدها والتعبير عنها عبر هذه البوابة بالذات، لذلك لا يرون أنفسهم معنيين بالمشاركة في فعلٍ لا يجسِّد حريَّاتهم كما يفهمونها، بل وكما يستشعرونها؟!
أم أن الخللَ كامن في طبيعة البشر أنفسِهم، بحيث يُمكننا القول بأن تفاعلَهم مع النظام السياسي بوصفه بوابةً لتحديد المستقبل والمصير يحظى بالفتور الفطري والطبيعي، لأن الطبيعة البشرية هي على هذا النحو، وهو ما يعني أننا لو تصورنا آليات أخرى أكثر قدرة على إقناع الناس بجدواها، فإنهم سيبقون مع ذلك سلبيين إزاءها وكأن شيئا لم يحدث؟!
في واقع الأمر، فإن ظاهرة العزوف عن المشاركة في ممارسة الحرية من خلال "الانتخابات" القائمة على مبدأ "التعددية التشاركية" بكل أشكالها، تتجلى أكثر ما تتجلى في الدول التي تتصف بواحدة من الصفتين التاليتين..
- الاستعصاء على التنوع السياسي الحقيقي، وعلى التَّداول الموضوعي ذي الدلالة للسلطة، حتى لو كانت تلك الدول متقدمة ومتحضرة وتحظى الديمقراطية والتعددية فيها باحترام وقداسة. عندئذٍ يشعر المواطن بأن مشاركته في الانتخابات للاختيار من بين البدائل المتاحة، ليس من شأنه أن يُحدث تغييرا جوهريا يستحق في نظره الذهاب إلى صندوق الإقتراع.
ومثال ذلك، الولايات المتحدة الأميركية. فسواء اختار المواطن الأميركي مرشحَ "الحزب الجمهوري" أو "مرشح الحزب الديمقراطي"، فإن هامش الفروقات بين برنامجي الحزبين ضيِّقٌ للغاية. كما أن فكرة تداول السلطة بمعناها الواسع بالانتقال من حزب إلى آخر من هذين الحزبين تبدو فضفاضة وضبابية وغير ملموسة وفاقدةً للدلالة التأثيرية التي يستتبعها التدَّاول الحقيقي للسلطة عادة.
خاصة وأن الحزبين لا يختلفان كثيرا في ما يتصورانه حقوقا يجب أن تُعْطى للمواطن الأميركي بوجه عام. فلماذا إذن يُقحم هذا المواطن نفسه في عملية مرهقة، ولماذا يُشغل نفسه بها مادامت النتائج متقاربة إلى درجة تبدو بالنسبة إليه وكأنها متشابهة؟! ولهذا السبب فإن نصف الشعب الأميركي على الأقل لا يشارك في اختيار رئيسه، فيما تعتبر الفئة الأكبر من المشاركين في الاختيار، من أولئك التابعين سياسيا بشكل أو بآخر إلى واحدٍ من الخندقين.
- عدم الثقة في النظام السياسي ككل. وهذا يحدث عادة في الدول المتخلفة التي دخلت متاهة الانتخابات السياسية كديكور سياسي تتزين به في عالمٍ يضفي نوعاً من الاحترام على الدول التي تسمح بهوامش حرية من هذا القبيل. وعندئذ فلماذا يذهب المواطن لإعطاء صوته لمن لا يستحقه، أو لمن لن يفيدَه في شيء. بل لماذا يفكر مجرد تفكير في إعطاء صوته لمن يعرف جيدا أنه يستغل هذا الصوت ليصل إلى كرسي حكمٍ سيجلده وسيسرقه وينهبه من فوقه، معطيا لسرقته ونهبه وجلده نوعا من المشروعية بإخفائها وراء لافتات المشاركة الشعبية في الانتخابات.
أي أن المواطن يحمي نفسه بهذه السلبية بحسب ما يدفعه إليه لاوعيه السياسي. وقد تُسهم التجربة المريرة في تعميق هذه السلبية لديه. إنها التجربة التي جعلت من "80%" إلى "90%" ممن يحق لهم الانتخاب من شعب مثل الشعب المصري خلال حكم نظام "حسني مبارك" يعزفون عن مجرد الحديث عن موضوع الانتخابات في بلدهم، ناهيك عن مبدأ المشاركة فيها نفسِه.
2 – نلاحظ في الدول التي تمارس العملية الانتخابية بكل مستوياتها الرئاسية والبرلمانية والمحلية، تفاوتا إيجابيا في نسبة المشاركة كلما تم الهبوط نحو الأسفل في سلم المحتوى الانتخابي. فمبدأ العزوف عن المشاركة يتجلى أكثر ما يتجلى في "الانتخابات الرئاسية"، ليتقلص هذا العزوف في "الإنتخابات التشريعية/ البرلمانية"، ليزداد تقلصا في "الانتخابات المحلية/مجالس البلديات". أي أن المواطنين يشتركون أكثر ويعبرون عن حريتهم بإقبال أَشَد، كلما تدنى المستوى الذي يُطرحُ عليهم للتعبير من خلاله عن تلك الحرية ومُمارستها.
ما معنى هذه الظاهرة الغريبة التي يُفْتَرض ألاَّ نقفَ عندها دون استنباط دلالاتِها؟!
من الواضح أن "السياسة" التي تعَوَّد معظمُ الناس على مَقْتِها والعزوف عنها والهروب منها، إما خوفا وإما بُغْضًّا، وعلى اعتبارها لعبةَ الكذب والدجل، ومهنة الأفاَّقين والوصوليين وأكثر الناس انتهازية، حتى في الدول المتقدمة والمتحضرة، تتجلى أكثر ما تتجلى في فكرة "الرئاسة"، ثم يقل تَجَلِّيها في فكرة "النيابة"، ليكاد يختفى في فكرة "المجلس المحلي أو البلدي". أي أن المواطن يعتبر أنه حيثما وُجِدَت السياسة فعليه أن يغيب ويَمتنع عن المشاركة، لأن مشاركته ستكون إسهاما منه في شرعنة الكذابين والوصوليين. ولأن العنصر السياسي بمعناه الفج والواضح والصارخ يكاد يختفى من برامج المرشحين للمجالس البلدية، باعتبارها برامج خدمات مباشرة، هي كل ما يهم المواطن المقموع والمحروم في واقع الحال، فإننا نرى إقبالا أشد عليها.
وإذن فليس تقلُّص المشاركة في الانتخابات الرئاسية وبشكل أقل البرلمانية في ضوء هذه الملاحظة الهامة، راجعا إلى كونها أمراً لا يحظى بالحماس الفطري لدى البشر من حيث المبدأ، بل إلى كونها لا تمَسُّ مساسا حقيقيا - وفق رؤية المواطن - حياتَه اليومية واحتياجاته واحتياجات أسرته الحياتية.
فمادام هناك بشر يشاركون في الانتخابات، فلا شك إذن في أن هناك أسبابا موضوعية أدت إلى إحداثِ شرخٍ جعل الغالبية لا تشارك فيها. ومادام هناك إقبال على المشاركة في المستويات الأدنى منها حتى من قِبَلِ من يعزفون عن مثل تلك المشاركة في المستويات الأعلى، فلا شك إذن في أن هناك أسبابا موضوعية تجعل المشاركة في العملية الانتخابية عندما تطبعها السياسة بطابعها الخاص متدنيةَ المستوى.
ولأن المواطن يرى السياسيين وهم يتبارون في قضايا يَنظر إليها باعتبارها تَرفا ولا يفهم كيف يُمكنها أن تحقق مصالِحَه، ويستذكر بشأنها خبراتٍ مريرةً تؤكد له أن كل هؤلاء السياسيين أدعياء وكذابون، فإنه يزداد نفورا من المشاركة في الانتخابات عندما تكون سياسية الطابع.
هذا يعني أيضا أن المواطن بسبب أن السياسيين يُمارسون عملهم السياسي باستعلاءٍ في العادة، فينفصلون عنه ويتكبرون أو يتحاشون التعرف على مشكلاته الحقيقية المتعلقة بأخص خصوصيات حياته، فإنه يبقى غير واعٍ بأن المجلس البلدي نفسه يُمارس السياسة، وبأن كل قضاياه هي في نهاية الأمر قضايا ذات طابع سياسي، لمجرد أن هذا المجلس تعامل معه عن قرب وبتواضع.
وكأن السياسة ترسخت في لاوعيه بوصفها دائرةً للعمل المعقد والاستعلائي الذي لا يلتفت إلى مشكلاته الحقيقية، خلافا لدائرة الخدمات التي تطغى على لعبة المجالس البلدية. وهذا سبب آخر للمشكلة، يعمقها ويوسعها ويُصَعِّب حلَّها ويفسر في الوقت ذاته جذورها العميقة.
3 – من الملاحظات الهامة التي تحضرنا حول مبدأ التعددية الحزبية والمشاركة في مُمارسة الحرية السياسية على أساسها، هي رؤيتنا – خاصة في الدول المتخلفة، دون أن تنجو منه أحيانا كثيرة حتى أكثر الدول تقدما ورقيا وعراقة في التقاليد الديمقراطية – لظاهرة الانقطاع بين الناخب والمُنْتَخَب، ليس من الناحية الشكلية فقط، بل من الناحية الموضوعية أيضا، وهذا هو الأهم. أما المضمون الذي تنطوي عليه هذه الملاحظة من الناحية الجوهرية، فيرتكز إلى واقع موضوعي فعلي لا يُمكننا التغاضي عنه أو تَجاوزُه، نلمس أنه كامن في بُنْيَة الفكرة الانتخابية ذاتها.
إن هناك افتراضا طوباوياً مفادُه أن المرشحَ المُنْتَخَبَ يمثل منتخبيه وإراداتِهم، ويعبر عن مواقفهم ورغباتِهم على وجه الحقيقة، ماداموا قد اختاروه لينوب عنهم في المؤسسات الرئاسية أو النيابية أو حتى المحلية. وهذا افتراض فيه قدر لا يستهان به من المغالاة. فالأصح أن نقول أن على الناخبين أن يرضوا بِمن اختاروه وبِما يقوله أو يفعله ماداموا قد اختاروه، لا أنه يُمثلهم ويُمثل مواقفهم وأفعالهم وإراداتِهم تَمثيلا حقيقيا.
ولكن ما معنى هذا الكلام؟! وما الدليل عليه؟!
في الواقع لا يوجد إنسان على وجه الأرض يستطيع أن ينوبَ نيابة حقيقية ومطلقة عن شخص آخر، ويُمثل إرادتَه الفعلية كما تَتَكَوَّن وتتشكل هذه الإرادة المتقلبة والمتغيرة في كل لحظة ومرحلة ووقت. فهذا أمر مستحيل. ناهيك عن أن يُمثلَ شخص واحد آلاف أو عشرات الآلاف أو الملايين من الأشخاص على هذا النحو. وليست هذه هي الفكرة القائمة في مبدأ الإنابة بالانتخاب، ولا حتى في مبدأ الإنابة والتوكيل في القضايا المدنية كما تتيح ذلك القوانين المعمول بها عادةً.
فحشدُ الأحداث التفصيلية التي تحدث خارج إطار العقد المتفق عليه والمبرم بين المُنْتَخِب والمُنْتَخَب، أكثر بكثير من أن يشملَها تَصَوُّرٌ مسبق، وهي على قدر من التنوع بحيث يستحيل تطابق رؤية الناخب والمنتخَب فيها على الدوام. ولأن السلطة الحقيقية هي للمُنْتَخِب وليست للمُنْتَخَب، فهذا يعني أن الموقف الحقيقي الذي يجب أن يُعتمد في الحالات التفصيلية والطارئة التي نتحدث عنها كي يكون موقفا قانونيا ومشروعا من الناحية التأصيلية، إنما هو موقف الناخب.
ولكن كيف يتسنى ذلك في ظل واقعٍ يكشف عن حالة إنابةٍ بعقدِ انتخابٍ وتوكيلٍ لا ضمانة على أن تتطابق بموجبه مواقف المنتخَب مع مواقف الناخِب؟!
إن الفكرة في مبدأ الإنابة بالانتخاب تتجلى في أن عدداً من الأشخاص ارتأوا أن شخصا معينا يستطيع أن يُمثلهم في المجلس المحلي أو في البرلمان أو في سِدَّة الرئاسة، بناءً على ما سمعوه وما فهموه من أقواله وتصريحاته. لذلك فهم قد قرروا انتخابه ليمثلهم على هذا الأساس، رغم إدراكهم لحقيقة أن التفاصيل الدقيقة لمجريات الأحداث في الواقع السياسي ليست واضحة بالقدر الذي يضمن أن يكون رأيه وموقفه فيها مطابقا تماما لما سيكون عليه رأيهم هم حين تَجَلِّيها في الواقع.
وإذن فانتخابهم له ينطوي علاوة على التطابق بين ما أعلنه وبين ما يريدونه مِما هو معلن ومصرَّحٌ به أمامهم وعلى مسامعهم، على عنصر الثقة في أنَّ تَصَرُّفَاته إزاء المواقف التي ستطرأ بالضرورة بحكم طبائع الأمور، ستتطابق مع ما يتوقعونه، وإن لم يحصل ذلك التطابقن فهم معنيون وملزمون بِتَحَمُّلِ النتيجة، لأنهم هم من اختاره.
هذه هي الفكرة القائمة في مبدأ القبول بالانتخاب والتوكيل.
ولكن من الواضح أنها فكرة لا تحقق الغايةَ القصوى التي قام عليها مبدأ التوكيل والإنابة بالانتخاب في العملية السياسية. إلاَّ أن الحل ممكن من الناحية النظرية التي يجب أن تتجسد في أشكالٍ عملية تتجاوب مع إمكانات كل مرحلة من مراحل صيرورة المجتمعات.
على آلية الحكم أن تتيح فرصة حقيقية للتواصل بين المشرِّع الحقيقي الذي هو الناخب، والوكيل عنه الذي هو النائب أو الرئيس أو حتى عضو المجلس البلدي، كي يتمكن الأول من توجيه الثاني لما يريده على وجه الحقيقة في الحالات المتغيرة والتفصيلية، خاصة وأن المُوَكِّل يحق له تغيير إرادته جذريا، فهو صاحب الحق الأساسي الذي بناءً عليه أَعْطَى التوكيل، والذي له حق تغيير فحواه ومضمونه دون مراجعةٍ من أحد، بينما الوكيل أو النائب لا يملك سوى التنفيذ، وإن لم يعجبه الأمر فليتخلَّ عن دور الوكيل وليتنحَّ، كل ذلك لأجل أن يكون التعبير عن الحرية عبر التمثيل تعبيرا حقيقيا يَتَّسِمُ بالموضوعية، ولأجل أن تُتاح الفرصة للناخب في إلغاء عقد التوكيل إذا أخل النائب بمضمونه، أو إذا رأى هو أن أمرا مستجدا تطلب تغيير إرادته التي عليه بطبيعة الحال أن يبلغَها إلى وكيله كي ينفذها هذا الأخير فورا وبلا إبطاء.
4 – من الطبيعي أن الشخص الذي تمَّ انتخابه نيابة عن موكليه حتى لو كان رئيسا للسلطة التنفيذية، ليس بالضرورة أن يكون قاموسا ومعجما وموسوعة معرفية تَملك خريطة تفصيلية وحلولا وتصورات لكل صغيرة وكبيرة في المجتمع. بل إن طبائع الأمور في زمن كالذي نحن فيه، حيث شاع منطق التخصص، أن تغيب عن ذهن الكثيرين تفاصيل بل وأحيانا عمومياتٌ تتعلق بتخصصات لم يُلِمُّوا بها. والسياسيون عادة شأنهم شأن غيرهم، على قدر من التعليم والثقافة يُمَكِّنُهم من التحكم في زمام تَخصصاتِهم إذا كانوا فيها من المتفوقين، فيما يحتاجون إلى آراء المتخصصين فيما لا يَمتلكون حوله معلومات تفصيلية، حتى لو كانت لهم رؤيتهم السياسية العامة في كيفية التعامل معه.
ولأن أكثر الناس علما باحتياجات وتطلعات شريحة معينة من المجتمع وبطريقة التعامل مع قضاياها بالشكل الأنسب، هم أهل الخبرة من أبناء تلك الشريحة، فقد كان من الطبيعي ألا يُحْرَم هؤلاء من حق وضع خبراتهم بين أيدي السياسيين المنتخَبين، ليُزَوِّدوهم أَوَّلاً بأول وحسب المستجدات بِما يلزم للتعامل مع مشكلاتهم وقضاياهم، وكي لا يضطروا إلى التعامل معها بمستوى معلوماتهم ومعارفهم القاصرة، خاصة عندما يتم الدخول إلى الجانب التقني من البرامج المطروحة، والذي يتطلب أكثر من مجرد قرار سياسي.
فالموقف السياسي قد يتعطل أحيانا بسبب صعوبات فنية، لذلك فإذا حُرِم السياسيون من رؤى الفنيين وأصحاب الاختصاص، وأصروا على مواقفهم السياسية رغم الصعوبات الفنية، فإن المسألة قد تصبح مدعاةً للسخرية ومثيرةً للشفقة.
هذا يقتضي إذن أن تتولد في المجتمع مجموعة آليات رسمية وقانونية تتيح الفرصة لجعلِ خبرات أهل الاختصاص في المجتمع من جميع الشرائح الاجتماعية تدلي بدلوها في العملية السياسية، بشكلٍ يوسع دائرة الحريات المُماَرَسَة، ولا يتعارض مع حق السياسيين في تطبيق برامجهم في الوقت ذاته.
والنتيجة من كل ما سبق تتلخَّص في التالي..
لكي تتحقَّقَ "الحريَّة الإنسانية" في المجتمع، من الزاوية القادرة على إنجاز أعلى درجات التجسيد لمبدإ "التشاركيَّة السياسية"، يجب أن يًصار إلى اعتماد آليات "تصعيد تكثيفية" من أدنى المستويات المجتمعية إلى أعلاها، لكل ما يمكنه أن يرفد مبدأ هذه "التشاركيَّة"، من "بنى" و"مؤسسات" و"هياكل" و"تنظيمات" مجتمعية، ومن "ثقافات" و"مكونات ذهنية" فردية، تنطوي بحكم طبيعة مُخْرَجاتِها المضمونية، على ما من شأنه أن يُثري عملية "التشاركية" في "الحكم" وفي "إدارة الدولة". وهو الأمر الذي يتطلب ما يلي..
1 – إنتاج المجتمع وهيكلته بأكمله بأشكال متنوعة من "البُنى" و"المؤسسات" و"الهياكل" و"التنظيمات"، يعكس كلُّ شكل منها جانبا من جوانب "هوية المجتمع" التي تتطلب التعبير عنها وتجسيد مطالبها بكلِّ حرية، كي تكون مَعْبَرا للحرية المُعَبِّرَة عن "التشاركيَّة السياسية" بأوسع نطاقاتها الممكنة..
2 – إنتاج كافة الآليات الممكنة والقادرة على التخلُّص من عنق زجاجة الخلل والقصور الكامنين في مبدأ "قبول الإنابة بالانتخاب" بشكله الراهن، للتخلُّص من ثمَّ من كلِّ أشكال الانقطاع المتصوَّرَة والمحتملة، بين الناخِب والمنتخَب، ضمانا لاستمرار التواصل التام بينهما، تكريسا لأكثر صُوَرِ التمثيل عبر مبدإ "قبول الإنابة بالانتخاب"، موضوعيةً ودلالةً وتأشيراً على "التشاركيَّة السياسية"..
3 – إنتاجُ ثقافةِ "تشاركيَّةٍ سياسيةٍ" تقوم على وضعِ الحلول الموضوعية لأزمة "ممارسة الحرية" لجهة "التشاركيَّة السياسية"، والقائمة في ذهن "المواطن/الناخِب"، والناتجة في الأصل عن البون الشاسع الراسِخ في ذهن هذا "المواطن/الناخِب" بين "المطلب السياسي" و"المطلب الخِدْمي"، وذلك بشكل يقلِّص المسافة بين هذين المطلبين، في بنيته الذهنية وفي ثقافته المتعلقة بالربط بين استشعار الحق في "الحرية المجتمعية"، وبين الاندفاع بموجب ذلك الاستشعار نحو "التشاركيَّة السياسية"، بحيث تترسَّخ في ذهنه بموجب هذه الثقافة، فكرةُ أن "المطلب السياسي" و"المطلب الخدمي" هما وجهان لممارسةٍ واحدةٍ، هي تلك التي تُجَسِّدها "التشاركيَّة السياسية".