مثل
إن من تفصيل الكتاب وبيان القرآن أن المثل بكسر الميم وإسكان الثاء ليس هو عين الشيء وإنما على شاكلته ونحوه ووصفه بل قد يتأخر المثل عن مماثله تأخرا معلوما في الزمن ويختلف عنه في المكان .
ولا يخفى في حرف الممتحنة تكليف الجماعة المسلمة أن يؤتوا من رغبت عنه منهم زوجته إلى الكفار من المال مثل ما أنفق عليها يعني مهرها ولا يعني تكليفهم أن يجمعوا له المهر السابق ذاته مما أكل وتلف وفرق بين الناس .
وقد مسّ الذين آمنوا في غزوة أحد قرح مثل الذي مس المشركين في غزوة بدر ، وليس هو نفس القرح .
وهكذا كانت الرسل بشرا مثل المرسل إليهم يأكلون الطعام ويشربون مما يشربون ، ولم تخلق مدينة مثل إرم ذات العماد في بلد آخر ، ويجزي الله المؤمنين بحسنة هي الجنة مثل حسنة العمل الصالح في الدنيا
ويعني قوله ﴿ وخلقنا لهم من مثله ما يركبون ﴾ في يـس أن الله قد جعل للبشرية بعد إغراق قوم نوح سفنا مثل سفينة نوح ولا يعني تلك التي صنعها نوح بيديه .
وإن من الذكر من الأولين قوله :
ـ ﴿ ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد ﴾ هود
ـ ﴿ وقال الذي آمن يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم ﴾ غافر
ويعني حرف هود أن تخويف شعيب قومه لم يكن هزلا ولا تسلية بل قد أصابهم من العذاب مثل ما عذّب الله به المكذبين قبلهم إذ أخذتهم الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين كما أخذت ثمود .
ويعني حرف غافر أن تخويف رجل مؤمن من آل فرعون قومه لم يكن هزلا ولا تسلية بل قد أصابهم من العذاب مثل ما عذّب الله به المكذبين قبلهم إذ أغرقوا كما أغرق قوم نوح .
وإن من المثاني معه أي من الوعد في الآخرين في قوله :
ـ ﴿ فإن للذين ظلموا ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم فلا يستعجلون فويل للذين كفروا من يومهم الذي يوعدون ﴾ خاتمة الذاريات
ـ ﴿ فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود ﴾ فصلت
ـ ﴿ أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمّر الله عليهم وللكافرين أمثالها ﴾ في سورة محمد
ـ ﴿ فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم قل فانتظروا إني معكم من المنظرين ﴾ يونس
ويعني حرف الذاريات أن الله وعد النبي الأميّ صلى الله عليه وسلم في القرآن أن يصيب الذين ظلموا في آخر الأمة عذابا مثل العذاب الذي أهلك به أصحابهم وهم الذين ظلموا من قوم نوح والذين من بعدهم ، وكذلك أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم في سورة فصلت أن ينذر المعرضين عن الإسلام صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود .
ويعني حرف القتال أن الكافرين في هـذه الأمة موعودون بمثل ما دمر الله به من قبلهم من الأمم المكذبة ، ولن يجدوا وليا من دون الله ينجيهم من العذاب الموعود .
ويعني حرف يونس أن مثل أيام الذين خلوا من قبل وهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم سيأتي على المكذبين في هـذه الأمة .
وإن قوله :
ـ ﴿ أم يقولون تقوّله بل لا يؤمنون فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين ﴾ الطور
ـ ﴿ أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين ﴾ هود
ـ ﴿ أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين ﴾ يونس
ـ ﴿ وإن كنتم في ريب مما نزّلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدّت للكافرين ﴾ البقرة ، ليعني أن الذين يزعمون أن محمدا صلى الله عليه وسلم قد تقوّل القرآن وافتراه من دون الله مأمورون في القرآن أن يأتوا بحديث مثله أو عشر سور مثله أو سورة مثله أو من مثله ثم ليدعوا من استطاعوا من دون الله أي شهداءهم الذين يشهدون أن ما جاءوا به هو مثل القرآن أو مثل عشر سور منه أو سورة منه ، وأخبر الله عنهم أنهم لن يستجيبوا ولن يستطيعوا ولن يفعلوا بل سيعجزون عن الإتيان بمثله كما في قوله ﴿ قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ﴾ الإسراء .
وحسب التراث الإسلامي أن العجز الذي سيصيب الإنس والجن عن الإتيان بمثل القرآن ولو ظاهر بعضهم بعضا وأعانه هو عجزهم عن الإتيان بمثل أسلوبه ونظمه وفصاحته وبلاغته ... وكذلك لن يستطيع الإنس والجن ، غير أن عجزهم عن الإتيان بمثله يعني أن لن يستطيعوا أن يأتوا بكتاب من عند الله يصدّق دعواهم أن القرآن الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هو مفترى من دون الله .
إن كتابا منزلا من عند الله هو وحده الذي يقع عليه الوصف بأنه مثل القرآن ، وسورة منزلة من عند الله هي التي يقع عليها الوصف بأنها مثله ، وكذلك عشر سور مثله وحديث مثله ، وللذين يعترضون أن يتأملوا قوله ﴿ ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ﴾ البقرة ، وإنما يعني بمثل الآية التي يقع نسخها إنزال آية أخرى من عند الله تحلّ محلّ الأولى ، وهـكذا فلن يصح نسخ الكتاب المنزل بالحديث النبوي .
ويعني حرف الطور أن الذين يزعمون أن النبي الأمي صلى الله عليه وسلم قد تقوّل القرآن لن يسلم لهم زعمهم قبل أن يأتوا بحديث مثل القرآن أي منزل من عند الله يعلن تصديقهم في زعمهم .
ويعني حرف هود ويونس والبقرة أن الذين يزعمون أن النبي الأمي صلى الله عليه وسلم قد تقوّل سورا أو سورة من القرآن ، لن يسلم لهم زعمهم قبل أن يأتوا بسورة أو بسور منزلة من عند الله تتضمن تصديق زعمهم فيما زعموا .
إن الله أذن لليهود الذين يزعمون خلاف ما تضمن القرآن أن يأتوا بالتوراة إن كانوا صادقين وليتلوا منها تصديق زعمهم الذي خالفه القرآن ليكون لهم حجة كما في قوله :
ـ ﴿ كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين ﴾ عمران
ـ ﴿ وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ﴾ البقرة
ويعني أن التوراة دليل كاف إذ هي مثل القرآن كل منهما كتاب منزل من عند الله .
إن الله قد أرسل كل رسول بآيات خارقة معجزة من جنس ما بلغه الناس المرسل إليهم من العلم والأسباب ، ولتكون الآيات الخارقة مع الرسل بها هي الحق الذي يقذف به رب العالمين على الباطل فيدمغه فيزهق حينئذ كما في قوله ﴿ بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ﴾ الأنبياء ، وكذلك قذف بالحق مع موسى على الباطل مع السحرة فدمغه فزهق من حينه ، ويعني أن لو كان القرآن باطلا أي مفترى من دون الله لأنزل الله كتابا من نوعه يدمغه فيزهق وهو دلالة إعجاز القرآن كما في قوله :
ـ ﴿ فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا وقالوا إنا بكل كافرون قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين ﴾ القصص
ـ ﴿ أم يقولون افتراه قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا ﴾ الأحقاف
ـ ﴿ أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين ﴾ هود
ـ ﴿ أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين ﴾ يونس
ـ ﴿ وإن كنتم في ريب مما نزّلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين ﴾ البقرة
ـ ﴿ أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين ﴾ الطور
ويعني حرف القصص أن الحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من عند ربه وهو القرآن لم يؤمن به بعض المكذبين بسبب أن لم يؤت محمد صلى الله عليه وسلم مثل ما أوتي موسى من الآيات الخارقة للتخويف والقضاء التي أرسل بها إلى فرعون وملئه ، فزعموا أن موسى ومحمدا افتريا التوراة والقرآن فخوطبوا في القرآن أن يأتوا بكتاب من عند الله يثبت صدقهم إن كانوا صادقين ، وليتبعن محمد صلى الله عليه وسلم كل كتاب منزل من عند الله .
ويعني حرف الأحقاف أن الذين يزعمون أن القرآن مفترى من دون الله لن يملكوا من الله شيئا يصدقهم في دعواهم أي لا يستطيعون أن يأتوا من عند الله بشيء ومنه بعض سورة من مثل القرآن ولا أن يأتوا بآية خارقة من عند الله تثبت صدقهم .
وإن دلالة أمر المكذبين بدعوة من استطاعوا من دون الله وشهدائهم الذين يشهدون لهم أن كتابا مثل القرآن أو مثل بعضه هو من عند الله يصدقهم في زعمهم أن القرآن مفترى من دون الله ليعني أن المفتري على الله كتابا أو آيات بينات مفضوح في الدنيا معذب فيها كما هي دلالة قوله ﴿ قل إن افتريته فعليّ إجرامي ﴾ هود ، ومن المثاني معه في قوله ﴿ وإن يك كاذبا فعليه كذبه ﴾ غافر ، وقوله ﴿ ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين ﴾ الحاقة ، أي أن المفتري على الله سيفتضح ويعذب في الدنيا بإجرام الافتراء على الله .
وحرف غافر من قول رجل مؤمن من آل فرعون يعني أن موسى إن يك كاذبا على الله فلن يحتاجوا إلى قتله بل سيؤاخذه الله في الدنيا بكذبه .
ومن العجب أن تجاهل المفسرون وغيرهم دلالة قوله :
ـ ﴿ قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم ﴾ الأحقاف
ـ ﴿ فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا ﴾ البقرة
ويعني حرف الأحقاف أن من القول أن سيصبح غيب القرآن شهادة في الدنيا ليعلم العالمون في آخر الأمة أن القرآن المنزل على النبي الأمي هو من عند الله ، ويومئذ سيشهد شاهد من بني إسرائيل وهو عيسى ابن مريم ـ كما بينت في كلية الكتاب ـ على مثل القرآن أي سيشهد على ﴿ في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة ﴾ عبس ، ومن المثاني معه قوله ﴿ فلا أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون تنزيل من رب العالمين ﴾ الواقعة .
إن الحديث النبوي الصحيح ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه لحديث صحيح غير أنه لا يقع على الحديث النبوي ، إذ ليست الأحاديث النبوية مثل القرآن كلام الله المتعبد بتلاوته وتدبره ، ولو كانت الأحاديث النبوية مثل القرآن لما نهى النبي الأمي صلى الله عليه وسلم في حياته عن كتابتها وأمر أن تمحى وأن لا يكتبها أحد من الصحابة ، ودل أمره بكتابة القرآن ونهيه عن كتابة أحاديثه على أنها ليست مثل القرآن .
نعم لقد أمر النبي أن نأخذ عنه مناسكنا وأن نصلي كما كان هو يصلي ويعني أن المسلمين مكلفون بالعبادات كما كان النبي يؤديها وكما علّمهم ويسع المسلمين جميعا اتباعه فيها إذ لا يشترط في الاتباع المعاصرة ، وزاد المتفقهون فجعلوا من وضوئه وصلاته وصيامه وسائر العبادات فرائض ومندوبات ، ولست أدري من أين لهم هذه التفرقة ؟
أما الأحاديث النبوية التي تضمنت نبوته كما بينت في كلية النبوة فإنما هي إخبار عن الغيب وهي من الوحي كذلك وبيّن بها النبي الأمي صلى الله عليه وسلم القرآن الذي تضمنها كلها .
وأما سنة النبي فهي التكاليف التي كلفه بها ربه في الكتاب المنزل كنهيه عن الشرك وعن الغلول وكأمره بالتسبيح وبالصلاة والزواج وأن تطلق النساء لعدتهن وبيّنتها في تأصيل جديد للفقه .
مرتقى أهل القرآن العظيم - المشرف العام الحسن محمد ماديك • مشاهدة الموضوع - المثل بكسر الميم وإسكان الثاء في المعجم