من المكتبة الأجنبية: حسن فتحي ومفهوم التواصل في الفنون والعمارة الإسلامية كان على الباحث أحمد حميد أن يكتب لنا ذلك المونولوج الذي ألهمه به لقاؤه الأول مع المعماري حسن فتحي لندرك أن التواصل الإنساني هو البذرة الأولى لتواصل الفنون والعمارة والبحث. مما حز في نفس المؤلف وهو يدرس الهندسة طالبا في جامعة القاهرة عدم الاهتمام المنهجي بالعمارة الإسلامية. لكن عزاءه كان في الخيار الذي قدمه حسن فتحي، أيقونة المعماريين المصريين، في قدرة الفن والعمارة الإسلاميين على التطور الطبيعي واحتواء عناصر الحداثة كذلك. هكذا يتذكر ذلك اليوم الذي رافق فيه أحمد حميد ستة من زملائه دعاهم أستاذهم للقاء حسن فتحي في صومعته. على عكس الإشاعات التي ترددت في ذهن الشباب بأن المعماري الكبير كان يقيم في سويسرا على الأغلب، فإن حسن فتحي كان يسكن في ضواحي القلعة. وبعد مرورهم بالحارات الضيقة في درب اللبانة، وصلوا إلى معتكف راهب العمارة الذي كان يشغل بيتًا عثمانيًا. صرير الباب المرتفع كان يخفي وراءه هدوء الأستاذ، أو حسن بيه، كما قال لهم شعبان حارس البيت الذي قادهم إلى العليّة عبر سلم لم يكن يعتدي على المساحة المعمارية للفضاء الداخلي. ظن حميد حين وصل إلى السقيفة التي تطالع السماء من نوافذها أنه وصل إلى كهف علي بابا، فكل ما رآه من أوراق ومقتنيات كان يبدو ثمينًا بقيمته التاريخية والفنية. ليخرج عليهم صاحب البيت في عامه السادس والسبعين أنيقا في روبه يحدثهم عن العمارة، الحديث الذي خلب لب الشاب، وأغرقه في سحر الأستاذ وأعماله وأقواله التي انسابت ببطء وثبات، تهدم إعجاب أحمد حميد بعمارة لو كوربوازيه: «لم تعجبني تصميمات لو كوربوازيه لكاتدرائية رونتشامب. لقد كان يجهل أنه بتصميمه ألقى المتعبدين في اليم. فكل سقف في الكاتدرائية يمثل قلب سفينة نوح مقلوبا. إنه بمنزلة حماية للمصلين الباحثين عن الخلاص. لكن السقف المحدَّب الذي بناه لو كوربوازيه أطاح بقرون من العمارة الكنسية المقدسة. وهكذا كان هناك لهو باستخدامه المفرط للبلاستيك، وبعثرة النوافذ، داخل الجدران السميكة، كما لو كان ذلك تحطيمًا وتشتيتًا للنافذة الوردية التي كانت دائما تمثل السيد المسيح والعذراء فوق كل بوابة، منذ تشارترز حتى روان، وما بعدهما». كان ذلك درس التأمل الأول، وقراءة السياقات التاريخية والفنية للعمارة، وهو الدرس الذي قاد أحمد حميد في دراساته اللاحقة ليقدم أخيرًا هذا الكتاب: «حسن فتحي، ومفهوم التواصل في الفنون والعمارة الإسلامية، ميلاد العصرنة الجديدة» الذي كان في الأصل بحثا لنيل درجة الماجستير في العمارة من الجامعة الأمريكية في القاهرة، وقد نال الكتاب جائزتين؛ جائزة فرانك جي وايزنر (2007)، وجائزة نادية نيازي مصطفى (2010)، مثلما نال أحمد حميد نفسه جوائز دولية عن أعماله في العمارة. في الفصل الأول من الكتاب يتحدث المؤلف عن فبركة (تلفيق) وجود تضاد بين ما هو تقليدي وما هو حديث، وأن ذلك التلفيق جاء ليخدم ويطيل أمد الفنون المعاصرة قصيرة الحياة. كان المصطلح (حديث) قد اشتقه هيجل في نحو العام 1800 ليعرف به المسيحية الألمانية المشتقة من الرومانية واليونانية العتيقة. وهكذا شقت مفردة «حديث» الطريق لنفسها لتقف نقيضا لكل ما مضى لتوّه، وكان ذلك ميلادًا لطلاق بين التقليدي والحديث المرافق لأفكار التطور. وقد عدد المؤلف أنماطا من هذا التطور وأشكاله سواء بالتعليم العام، والسفر على نطاق واسع، والعلوم الجديدة، مما شكل قطيعة مع كل ما ارتبط بالماضي عكس ما جاء به هذا التطور. أما الفصل الثاني للكتاب فقد خصصه المؤلف للحديث عن تحويل الفنون والعمارة الإسلامية إلى مؤسسة من قبل صندوق أغا خان. فالمؤسسة ضمت في هيئتها المانحة لجائزة العمارة مستشارين عالميين وهيئة هيكلية متعددة الجنسيات، كان فيها حسن فتحي أول مستشاريها، أما قادة العالم في ميادين الفن والعمارة فكانوا أساتذتها الزائرين، وكان هناك نقاد، وبناءون، ومخططون، ومعلمون، ومفكرون، كما كان فيها مؤرخون بينهم مؤرخو الفن والعمارة ممن كانوا شهودًا عيانا قادمين من عمق القرون على حاضر التصميم في سياقه التقييمي البيئي والمجتمعي. يناقش المؤلف في هذا الفصل بعد شرحه لتأثير الجائزة في تغيير الاتجاهات النقدية للعمارة الإسلامية، آليات التحول بين القرنين التاسع عشر والعشرين، ضمن إطار بناء هوية جديدة، وعدَّ الكاتب «عالم مهرجان الإسلام» بداية حقبة جديدة لرؤية الفن الإسلامي، حيث قام المهرجان بدوره في الارتقاء بجماليات الإسلام من التقاليد الهامشية التي سكنها وأسكنته، إلى العالم الحديث، جعله تقليدًا ممارسًا حيًا وجماليًا في آن. وكانت الجائزة الشرفية الأولى الممنوحة باسم رئيس المؤسسة من نصيب حسن فتحي في العام 1980. كان دور حسن فتحي في وضع مفاهيم الجائزة محوريا، لأن الجائزة مثلت استجابة إلهية لدعائه في أن تحظى العمارة الإسلامية بمن يرعاها. يصف أحمد حميد مثله الهندسي الأعلى حسن فتحي بأنه خلاصة مكثفة للذكاء وقدمته الأدبيات نموذجًا للعصرنة والحداثة، ورآه الفقراء والمعوزون الذين ألهموه معماريًا، بطل روايتهم الممثل لحياة العادات والتقاليد. لم يشأ حسن فتحي لنفسه أن يكون بنَّاءً لكلاسيكية إسلامية جديدة، بل أراد أن يقفز معماريًا بأفكار جديدة، وأن يختبر الفن والعمارة الإسلاميين موضوعيًا. كان منهجه جديدًا، لم يكن ناشئا من مدرسة معمارية سابقة عليه. وعكس كثير من الحداثيين، لم يكن له أستاذ يدرس على يديه. آمن حسن فتحي بأنه في جوهر العمارة الإسلامية تكمن الحداثة، وينشأ التحديث. وبدأ حسن فتحي يطور هذه النظرية بنجاح، وهو ما ترصده 206 صفحات لهذا الكتاب الذي صدر بالإنجليزية عن قسم النشر في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، 2010. ويضم الكتاب ثروة من الكنوز الخطية للمعماري حسن فتحي تمثل رسومًا تخطيطية لعدد من الفضاءات المعمارية التي تعبر عن رؤيته. على أحدها، وبالإنجليزية كتب حسن فتحي بقلمه الحبر: كم أتمنى لو أن مخططي البيوت عاملوا منازلهم كأوراق شجر في مهب الريح. لكان عليهم أن يدرسوا تلك الأجزاء الصورية كما يقود عازف الريح تلك الأوراق ليعطيها أشكالها الراقصة. إن أوراق الخريف هي قطعة من فن الباليه رأيتها ترقص على أنغام شوبان. إن الرجل في أزيائه الإغريقية ببرج الرياح يطارد على المسرح نساء يرقصن يجعلن الريح تنطلق نحوهن وهن يعدون أمامه. وكل حين يرقدن في أشكال تصويرية فوق المساحات الأرضية. تسبح العين في كتاب أحمد حميد (حسن فتحي، ومفهوم التواصل في الفنون والعمارة الإسلامية، ميلاد العصرنة الجديدة) وهو يستعرض أعمال حسن فتحي: حديقة حيية بحجاب ومشربية تخلق الغموض في إدراك الجمال، تفصيل من جدار ببيت حسن فتحي تكشف عن جماليات موتيفة جدارية تمثل نافذة مبتكرة، رسمان تخطيطيان لضريح ومتحف المجموعة التذكارية للزعيم جمال عبدالناصر، إضافة إلى العديد من البيوت القروية، سواء بالأسود والأبيض، أو الألوان، ونحو 70 صورة سواها، حتى يختتم حميد كتابه بقراءة المشهد المعاصر للفن والعمارة الإسلاميين الحديثين. وكأن الرحلة التي بدأت في درب اللبانة لدى المؤلف اتسعت لتشمل العالم، فهكذا كان حسن فتحي مؤسسا وملهما لتيار جديد أثبت قوته وفرادته في عالم العمارة الخالدة.-----------------------------* معماري من مصر.تأليف: أحمد حميد* المصدر مع الرسوم الهندسية:http://www.alarabimag.com/arabi/Data/2011/3/1/Art_97811.XML