مصر.. يا أمّ الدنيا
عدنان كنفاني
أنا لن أقف مدافعاً عن السيد حسن نصر الله، أو عن حزب الله، ولن أتكلم بلسانهم، ولن أزيد عن الإشارة بفخر إلى إنجازات حزب الله والمقاومة في جنوب لبنان التي استطاعت أن تحقق انتصاراً ناجزاً على الكيان الصهيوني وآلته الحربية المدمّرة التي اجتاحت عدد من المرات جحافل الجيوش العربية خلال حروب كثيرة ومتتالية أوصلت شعوبنا العربية إلى هزائم مذلّة، كما أوصلت صنائع الصهيونية إلى سدد الحكم في كثير من أقطارنا العربية، ما ساعد على تثبيت الكيان الصهيوني، وتوسيع سطوته واحتلاله بأشكال متنوعة غايتها استغلال خيرات الشعب العربي، والامتداد على أرضه لتأسيس دولة كبيرة "ما زال دستورها لم يضع حدوداً لها حتى الآن" لتكون قاعدة لتأديب المنطقة بكاملها، وصولاً إلى الصين وروسيا وغيرها من الدول المرشحة للصعود إلى سقف العالم، ولصالح المشروع الإمبريالي الحليف الاستراتيجي للمشروع الصهيوني الذي هو في صلب المشروع الأمريكي.
وقد بات ذلك كله أكثر من معلوم ومعروف، ولكن تأبى النفوس الضعيفة، والمنحرفة، بل والعميلة إلا أن تكون خادمة لذلك المشروع، وأشد إخلاصاً في خدمته من أصحابه، ومن عجيب القول أن هؤلاء يتمكنون بوسائل كثيرة ومشبوهة، أن يحتلوا سُدَد الحكم، وأن يأتوا "بزلمهم" وجوقتهم ليكونوا أبواقاً وأدوات تنفيذ.
أنا لا أفهم كيف يطلّ علينا "جنرال" سابق في جيش من جيوش دولنا العربية ليتحفنا بكمّ من الشتائم القبيحة، ويفرش أمامنا قدرة العدو الهائلة على تدميرنا، شارحاً بإسهاب صنوف الأسلحة التدميرية القادرة على حسم أي معركة، ولا أفهم كيف يمكن لأمثال هؤلاء الذين كانوا "في فترة تاريخية ما" يقودون جيوشاً عربية، أن يملكوا الإصرار على المواجهة والانتصار.! ولا أفهم كيف يمكن أن يتعاملوا مع الأفراد في جيوشهم ما داموا لا يملكون أي أمل في تحقيق انتصار أو على الأقل درجة صمود في وجه العدو.!
لكنني الآن بدأت أفهم أن هؤلاء أنفسهم هم السبب في هذا الكم من الهزائم التي تعرضت لها أمتنا العربية..
تطل علينا تلك الأبواق المنفوخة "تخمة وغروراً" ليكسروا أي أمل يشدنا للصمود، ويبشرونا أن مهما فعلنا وصمدنا وقاتلنا وضحينا فليس أمامنا غير الانكسار والهزيمة..!
يبدؤون بتوجيه سيل من الشتائم التي لا يمكن أن تصدر إلا من المنحرفين أخلاقياً لشخص رمز من رموز المقاومة، الذي حقق مع المقاومين المؤمنين الأشداء نصراً تاريخياً لم يسبق للعرب مجتمعين أن يحققوه..
يتناولون وهم يتحدثون حبوباً لتهدئة الأعصاب، أو لتزودهم بقدر من التخدير الحسي، ويجنحون بعدها إلى أمر غاية في الخطورة، فهم بكل تصميم يؤلبون الشعب العربي على المقاومة، ويكيلون لها التهم، ويمارسون الكذب العلني دون وازع أخلاقي ولا إنساني، ويقدمون الولاء على طبق من ذهب لعدونا، الذي يوغل في دم أبنائنا ونسائنا وأطفالنا، وكأنهم الناطقين باسم العدو.
يهاجمون المقاومة، ويساوون بينها وبين الإرهاب، بل ويجاهدون كي يتسلل إلى قناعات الناس بأن المقاومة لن تجلب للشعب غير الخراب، وكأن هذا العدو الذي نحارب هو الخير والصلاح بعينه، ويسيّلون على مسامعنا من محطات فضائيات عربية.! أن لا جدوى من فعل المقاومة، ولا جدوى من الصواريخ التي تطلقها المقاومة، متناسين أن تلك الصواريخ التي يتحدثون عنها، هي التي صححت إلى حد ما كفتيّ ميزان الرعب على الكيان الذي لا يوفر وسيلة ولا سلاحاً إلا ويطلقه ليغرقنا في الرعب.!
هؤلاء المنفوخين تخمة وغروراً، وهم يتعاطون حبوباً دوائية أو مخدرة أو للهلوسة يحاولون بخبث منقطع النظير إيهام العالم والشعب أن كلمة السيد حسن نصر الله مسيئة لشعب مصر، "وهنا بيت القصيد" في مسعى لشحن الشارع المصري البطل ضد المقاومة، ونحن جميعاً "ولا نريد من أحد أن يزايد علينا، أو يدرّسنا"، نعلم يقيناً أن شعب مصر العظيم يعاني من الكبت والقهر والاستلاب والظلم، ونعلم يقيناً أن شعب مصر العظيم كان دائماً الحضن الدافئ للعرب جميعاً، ونعلم أن مصر هي أم الدنيا، وهي الأصالة والتاريخ والقيمة، نعلم أن مصر هي مصر الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، أن مصر كانت الصخرة التي تتحطم على عتباتها كل المخططات التي تستهدف العرب جميعاً.
الحكومة في مصر هي المعنية بما نقول في كل الأحوال، ومن خلال مواقفها المعلنة والسريّة، ومن خلال دعمها الكامل للغزو الصهيوني، تماما كما يقول شعب مصر نفسه، وهذه الملايين التي تصرخ في الشوارع، وهذه المؤسسات المدنية والنقابية التي تنزف قهراً، ولا تستطيع أمام سطوّة القمع والقوّة والسجن والاعتقال، وأمام هراوات الأمن المركزي بعد أن جيّرت الحكومة المصرية نصف جيش مصر وضمهم إلى قوات الأمن المركزي وحفظ النظام، لا تستطيع أن تملك من أمرها شيئاً غير البحث عن رغيف العيش، والأمان، والعدل..
هؤلاء المنفوخون تخمة، يركضون في معرض حديثهم إلى أمور أخرى أكثر خطورة، فيذكون نار الفتنة الطائفية، ويفرّقون العرب أشتاتاً، ويوهمونا أن الصهاينة أصدقاء وأشقاء، أما إيران فهي العدو، ومنها يأتي الخطر والمدّ الفارسي.!!
هذه هي إذن الوسيلة في العزف على أوتار جديدة ومتجددة لبثّ الفرقة، وتقسيم الشعب، وقتل الوعي، وتسويق ثقافة الانهزام..
إن في بعض الإعلان عن تكذيب خبر ما يدلّ على صحته، وبخاصة إذا صدر ذلك الخبر من أشخاص لهم قيمتهم الاعتبارية، والمنصبية، وقد ورد الخبر الغريب على لسان "ساركوزي" نفسه، ولا أريد أن آتي بشهود آخرين، كـ شهادة السيد محمد حسنين هيكل مثلاً..!؟
أنا أيضاً لا أفهم، "كما لم يفهم هيكل" لماذا شاركت حكومة مصر في حصار الشعب الفلسطيني.؟
ولا أفهم "كما لم يفهم هيكل" لماذا كان معبر رفح العربي وهو الباب الوحيد والمفترض أن يكون شريان الحياة لغزة، هو السلاح الذي طعنت فيه حكومة مصر شعب غزّة المظلوم.!؟
ولا أفهم أيضاً ذلك الإصرار على تدمير وإنهاء المقاومة..؟
ولا أفهم ذلك الإخلاص المواظب على التمسّك بالاتفاقيات المذلّة.؟
ولا أفهم كيف تقوم حكومة مصر بكيل الكذب والتهمات الجائرة ضد حماس، ومن خلالها إلى كل الفصائل المقاومة.؟
ولا أستطيع أن أفهم ما هو الهدف النهائي من كل هذا السلوك المهين.؟
لكن ما أفهمه جيداً أننا تعلمنا من دروس التاريخ ونضالات الشعوب أن الأنظمة التي تتجاهل رأي شعوبها، وتسعى لقمعهم وكتم أصواتهم، إلى زوال، وستمضي بلا رجعة في وقت قريب، وسيستعيد شعب مصر العظيم موقعه الطليعي، وأصالته وقيادته وحضوره.
وحتى ذلك الوقت الذي ننتظره جميعاً كي نمسح عن جباهنا ذاكرة مرحلة أساءت إلى شعب مصر، أقول: حتى ذلك الوقت، والمقاومة لا تطلب من حكومة مصر مدداً أو نصرة، أو دعماً.. بل تطلب أن تخرس هذه الألسن الهزيلة، فقد قرفنا من التباهي الأجوف، ومن طمس الحقيقة التي باتت ساطعة كالشمس، يراها كل عاقل.
والنصر للمقاومة.
ـ ـ ـ