عدم وجاهة إجراءات اجتثاث رموز النظام السابق (الأحزاب مثالاً)
خلال عقدين أو أكثر من الزمن، حدثت تغيرات مفصلية في نُظم سياسية في مختلف أنحاء العالم، زالت من خلالها حالات التفرد في الحكم من حزب حاكمٍ واحد الى حالة تعددية افتراضية تشكلت على عجلٍ بعد زوال المتفرد.
فبعد انهيار جدار برلين في 9/11/1989، وتفكك ما كان يُسمى بالمنظومة الاشتراكية ومعها (حلف وارسو)، نشأت حالة هي أقرب للفوضى منها لجاهزية أُعدت في وقت مبكر. فلم يَعُد هناك لجنة مركزية للحزب الشيوعي السوفييتي ولم يعُد هناك مؤسسات تُنسق بين الأحزاب الشيوعية على مستوى البلدان التي كانت في حالة تحالفٍ ضمني أو ظاهري على الأقل.
كان الشيوعيون يفرحون إن قرءوا لكتابٍ غربيين يصفون أنظمتهم الشمولية بالخُبث، وكانوا يفرحون أكثرَ إذا وصفوا بأنهم قوى (مُرعبة). لقد أدى هذا الرضا الدفين لديهم الى تراكم قيادات طاعنة في السن ونُظمٍ متماسكة في الظاهر، وهواجس أمنية شديدة الحساسية فيما بين أعضاء تلك القيادات، فتُبعد من تدور حوله الشكوك في وقت مُبكر، وتُبقي من يُعلن ولاءه في السر قبل العلن، وهذه المهارات أتقنها من فهم تركيبة تلك الأحزاب.
وبالمقابل، كان الناس العاديون يتعلمون فن إدارة البقاء لأرواحهم على قيد الحياة، دون أن يطمعوا بأكثر من ذلك، فكان أحدهم يشعر بأنه ذرة من غبار لا وزن لها، حتى دبَّ الخلاف فيما بين أركان القيادات وتسلل الى منهجية ترتيب رؤاهم (غورباتشوف وأمثاله)، فبدأت الحياة تدُب لتحرك أطماع أو طموحات من كان يُراقب الحِراك الداخلي في صفوف القيادات.
لقد كانت نتائج انهيار جدار برلين أقوى بكثير من نتائج الحرب العالمية الثانية، لكن دون حرب هذه المرة. فتغيرت من خلالها خرائط الدول، تفكك الاتحاد السوفييتي، وتفككت يوغسلافيا و تشيكوسلوفاكية وحل الصراع القومي الممزوج بصراع عقائدي غير واضح، حتى آل الوضع الى ما هو عليه اليوم.
في بلادنا العربية، كانت خريطة تكوين أقطارها قد تكونت إبان عهد الإمبراطورية العثمانية وما تلاها من تقطيع لأوصال تلك الولايات المنهكة والمُهملة ووقوعها في أيدي مستعمرين أوروبيين، قاموا بتصليب حدود كل دولة من خلال اتفاقية (سايكس ـ بيكو)، والسماح لنُخب متفاهمة معهم، مع إعلان استقلالٍ غير (ناجز) لكل دولة. فاستلهمت تلك النُخب طرائق الإدارة وفلسفتها من المستعمرين أنفسهم، وحتى لو أزيلت تلك النُخب بانقلابات أو ثورات كما يُحب أصحابها أن يطلقوا عليها مثل تلك المسميات، فإنهم استلهموا أيضاً طرائق وفلسفة الحكم ممن أزالوهم عن الحكم.
الحزبية الحاكمة في الدول العربية
لا نستطيع إسقاط الحالة الحزبية التي فجرت ثورة الشيوعيين في روسيا، وما تلاها من نتائج في الحرب العالمية الثانية، على الحالة العربية. فلو استثنيا (تونس) وكونها أول بلد عربي لها دستور (منذ 1865)، حيث كان يُنظم تعيين وخلع (الباي)، وقد تشكل فيها في أوائل القرن العشرين (وهي تحت الاحتلال) الحزب الدستوري، والذي ساهم في تأسيسه بشكل رئيسي الشيخ (عبد العزيز الثعالبي) الذي كان (عروبياً إسلامياً) يربط نضال التحرر لدى المغاربة مع المشرق العربي. وكان يتنقل بين بغداد ودمشق، وحضر مؤتمر القدس، وفضل الإقامة بالقدس بعد أن نفته سلطات الاحتلال الفرنسي.
التف مجموعة من الليبراليين التونسيين على أفكار (الثعالبي) وكان من بينهم (الحبيب بورقيبة) وأسسوا حزباً اسمه (الحزب الدستوري الجديد) عام 1934، لقد بقي (بورقيبة) في الحزب أميناً عاماً، وانشق عنه رفيقه (د. محمد الماطري) الذي كان رئيساً للحزب، وقُتل في عهد تزعمه للحزب اثنان من بايات تونس الذين كانوا من أنصار (الثعالبي) وهما (محمد الناصر) والباي الآخر (محمد المنصف) والزعيم العمالي (فرحات حشاد). ولقد سُقنا ذلك الإيجاز للتأشير على إشكالية الإقرار بأهلية الحزب الدستوري الذي امتد بقاؤه لغاية ثورة (البوعزيزي).
أما باقي الدول العربية فعهدها بالأحزاب يقترن بمشهد تغيير الحكم، فقد يتسلم الحكم مجموعة من أعضاء حزب ما، كما في حالات العراق، وسوريا، واليمن الجنوبي (قبل توحد الشطرين). أو أن حركة ما تضم في صفوفها أطيافاً مختلفة من الأفكار السياسية، كما في حالة الجزائر ولحد ما حركة فتح. وفي كل الحالات تتهافت مجموعات واسعة غير أصيلة الإيمان للتقرب من مركز الحكم والالتصاق به طمعاً بتحسين مواقع أشخاصها، فتختفي المعالم الأيديولوجية من الأداء السياسي وتحل محلها معالم (الهواجس الأمنية) التي تباشر بإقصاء من لا يتوافق مع النظام.
حزبية مخفية في دولٍ لا حزب لها
التحزب في أحد أشكاله هو التقرب والتكتل لجماعة متقاربة فكرياً، وهو بالتجاور والتكتل كمصطلح لغوي (عندما نقوم بتجزئة كتاب الى أجزاء وأحزاب). وفي الدول التي ليس بها حزبٌ مُعلن ينطق باسمها، فإنه يكون لها حزباً مخفياً قد لا يكون له اسم كما في معظم الدول العربية، أو قد يتوارى وراء اسم حزب حاكم لكنه هو من يمارس الحكم. وتكون التعيينات للمواقع القيادية من جماعاته التي قد لا يكون لها صفة تنظيمية.
مع مرور الزمن، يصبح لهذا التيار (أو الحزب المخفي) أتباع وجماهير عريضة، تبادر الى الخروج بمظاهرات التأييد، وتبادر للتحرش بمن يعارض سياسات النظام، بتكليف ممن هو أعلى منها أو بتطوع منها وكأنه (خروج عن النص في الأعمال المسرحية)، وهذا السلوك قد يكون في الدوائر الأمنية، وقد يكون في إعاقة ترقيات بعض العاملين، أو تعطيل معاملات مراجعين لا يبدو على هيئاتهم القبول والرضا تجاه نظام الحكم.
سيبدو المشهد من النظرة الأولى استحالة التعايش بين الفئتين الموالية، والمعارضة، أو الصامتة التي أتيحت لها الفرصة أن تنهي حالة صمتها. ففي حالات التغيير كما حدث في (تونس ومصر) و (قبلها العراق، وإن اختلفت أدوات التغيير)، ستكون المطالبات بإقصاء كل ما يمت بصلة للعهد السابق.
عدم وجاهة المطالبات بالإقصاء
الحجة القوية تهزم الحجة الضعيفة، والقوة الغاشمة تستنهض القوة المضادة لها والتي قد تهزمها. هاتان مسلمتان علميتان ينسحب منطقها على الأداء السياسي.
في الخمسينات من القرن الماضي، عندما كانت ترفع شعارات لا للصهيونية ولا للإمبريالية ولا للرجعية. وعندما كان يتم تأميم مصنع للدخان أو للتعليب، فإن أموال العرب قد تم تهريبها الى الخارج، ولم يفكر أصحابها بإعادة أجزاء منها إلا منذ أحداث 11 أيلول/ سبتمبر 2001، حيث بلغت حجم الأموال المعادة والمستثمرة في بلدان عربية أكثر من 1.5 تريليون دولار.
إن عمليات الإقصاء ستزلزل البنيان الاقتصادي والاجتماعي في المجتمعات العربية، وستؤجل عمليات تداول السلطة بشكل يرضي الجميع أسوة بالدول المتقدمة في العالم، وهي بنفس الوقت ستولد نوايا الثأر في كل مرة.
والبديل عن تلك المشاكل، هو القبول بالآخر، وفتح صفحات قرارات الدولة أمام أبناء المجتمع (الشريك الأكبر في الدولة)، من خلال إعلام حديث، وتنظيم انتخابات حرة ونزيهة، وعندها سيعرف المواطن الغث من السمين، وسيقصي من لا يخدمه ويضعه أمام قضاء عادل، ويقدم من ينفعه.