كعادتي ، بعدَ انتِهاءِ عملي اصطَحَبتُ علبةَ سجائري الوطنيةِ وزجاجةَ خمري الوطنيِّ أيضاً ، وجلستُ أمامَ التلفازِ أقارعُ محطاتِهِ الإخباريَّةَ التي يكفيني أنَّها عربيَّةٌ مُمَانعةٌ مقاومةٌ لأرى فيها وطني .
اقتحمتْ زوجتي عَلَيَّ خَلْوَتي المُزمنةَ وسألتْني إنْ كنتُ سأرافقُها لتُباركَ زواجَ ابنةِ صديقتِها ، وعندما لم تأخذْ مِنِّي حَقَّاً ولا باطلاً قالتْ وهي تغادرُ :
- أراكَ " رِجْلاً إلى الأمام ، ورِجْلاً إلى الخلفِ " .
سمعَ ولدُنا الأصغرُ طارقٌ عبارتَها فدخلَ عَلَيَّ يحملُ رغبةً أَدْرَكْتُهَا فيه قبل أنْ يُعلنَها ، فهو صديقي وبينَنا حواراتٌ وسجالاتٌ لا تُحْصى في الشِّعرِ والأدبِ ، فالشِّعرُ - بِناءً وفكراً – يُشكِّلُ طَبقَنا اليوميَّ ، وهوَ الشَّاعرُ الذي لمْ يبلغِ الرابعةَ عشْرَةَ منْ عُمْره وقد نَظَمَ ديواناً من الشِّعرِ عَلى بحورِ الخليلِ بنِ أحمدٍ الفراهيديِّ . سألَنِي طارقٌ :
- ماذا يعني " خطوةٌ إلى الأمامِ وخطوةٌ إلى الوراءِ " ؟
- يَعني أنَّكَ " ساكنٌ سلبيّ " .
- ماذا لو سِرتُ " خطوةً إلى الأمام وخطوتينِ إلى الخلف " ؟
- يعني أنَّكَ " تسيرُ إلى الخلف " .
- إذاً : إذا سِرْتُ " خطوتينِ إلى الأمامِ وخطوةً إلى الخلفِ " فأنا " أسيرُ إلى الأمام " ؟
- بل " ترجِعُ إلى الأمامِ " .
وخوفاً منْ أنْ يسألني طارقٌ سؤالاً جالَ في خَلَدي ، أظهرْتُ ضَجَري وطلبتُ منهُ المُغادَرَةَ لمُتابعةِ دروسِهِ ، ولكنَّه ألقى سؤالَهُ بكلِّ براءةٍ :
- ولكنْ هل نَبني وَطَناً " بخطواتٍ أماميَّةٍ خلفِيَّةٍ " وأخرى " خلفية أمامية " ؟! لِمَ لا تَكونُ كلُّ " خطواتِنا إلى الأمام " ؟!
- .......... ؟!
- وكيفَ يَسيرُ رئيسُنا ؟
- رَئِيْسُنا والقِلَّةُ مَعَهُ " يَسيرُونَ إلى الأمامِ " ، بينَما الكثيرونَ مِمَّنْ حولَه " يرجعونَ إلى الأمامِ " .
ابتَسَمَ طارقٌ بألَمٍ ، بينَما وبعدَ أنِ اطْمَأْنَنْتُ إلى أنْ لا أحَدَ حولي مِمَّنْ يرجعونَ إلى الأمامِ أجهزتُ على ما تبقَّى في زجاجتي فَرُحْتُ في " غيبوبةٍ يَقِظَةٍ " ، مررْتُ بها على قائدٍ لا زلتُ أرى فيهِ أمَلَ الأجيالِ العربيَّةِ فَنَقَلتُ لهُ تساؤلاتِ أحَدِ براعمِ هذه الأجيالِ بكلِّ أمانَةٍ ، لكنِّي لم أنتَظرْ منهُ قولاً قد يُؤلمُهُ فأعَكِّرَ صَفْوَ مسكَنِهِ في قلبِي .
نَظَرتُ إلى طارِق الذي كان يُتابِعُ رحلةَ " غيبوبَتي اليَقِظَةِ " بإشفاقٍ ، فَنَقَلتُ لهُ مُلَخَّصاً مِمَّا احْسَسْتُهُ يَقيناً :
- الرئيسُ يُقْرِئُكَ السَّلامَ يا بُنَيَّ ، فانْتَظِرْ " شَمْسَ الغَدِ القريبِ " .
- وأنَا أُقْرِئُ رئيسيْ وقائِدِيْ وأَمَليْ أَزكى السَّلامِ والتَّقْدِيْرِ والإجْلالِ ، أمَّا وقَدْ ثَمِلْتَ يا أَبَتِ وأوقَدَ السُّكرُ عقلَكَ فاسْمَحْ لي بِأَنْ أعودَ إلى دَرْسيَ لأُعِدَّ لِشُروقِ الغَدِ عُدَّتَهُ .
- إذاً وافِنِيْ بِزُجاجَةٍ أخرى قَبْلَ أنْ " تَرْكُلَ أفكاري تِلْكَ الخُطُواتُ الرَّاجِعَةُ إلى الأمامِ " .
- أَهُنالكَ رؤيا أُخرى ؟
- معْ " غَيْبوبةٍ يَقِظَةٍ " أُخرى .
المحامي منير العباس
0947613808
alakhtalalhomsy@hotmail.com
الأحد -16-1-2011