أوراق ذابلة من حضارتنا
كتبها ( دكتور ) عبد الحليم عويس
علق عليها:فيصل الملوحي
الحلقة الثالثة
من قصص سقوطنا في أوروبة
أحفاد " صقر قريش " يسقطون
خلافة ولدت من خلافة.. ولئن كان أبو مسلم الخراساني، وأبو عبيد الله السفاح قد استطاعا أن يقضيا على دولة الخلافة الأموية بدمشق سنة 132 هـ، وأن يقتلا مروان بن محمد بحلوان مصر، فقتلا بقتله الخلافة الأموية في المشرق العربي، فإن هذه الخلافة المنهارة، قد نبتت لها بذرة غريبة الشكل والتكوين في أرض تفصلها عنها بحار، وآلاف الأميال .
وقد استطاع عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان ، أن يكون فارس هذه النبتة في الأندلس، بعد مطاردة عنيفة تصلح أن تكون عملا روائيا عظيما..
ونجح " صقر قريش " العجيب في أن يهرب أمام الجنود العباسيين حتى وصل إلى[COLOR="rgb(255, 140, 0)"] بيت المقدس،[/COLOR] ومنها إلى مصر، ثم إلى المغرب بعد خمس سنوات من التجول والتخفي عن عيون العباسيين..
لقد كان يحكم الأندلس آنذاك يوسف بن عبد الرحمن الفهري نيابة عن العباسيين، وقد حاول الفهري مقاومة تسلل عبدالرحمن الداخل وتجمعاته، لكنه هزم أمامه عندما التقيا سنة 139 هـ، ودخل عبد الرحمن قرطبة، فتأسس بذلك للأمويين الذين سقطوا في دمشق على أيدي العباسيين، ملك جديد في الأندلس العربية. لم تنجح كل محاولات العباسيين في عهد جعفر المنصور في استرداد الأندلس، كما لم تنجح محاولات ملك الصليبيين" شارلمان"في استغلال الظروف والقضاء على صقر قريش، واستتب بذلك الأمر للفرع الأموي الذي تكون في الأندلس.
لقد عاش عبد الرحمن الداخل يبني من دعائم دولته ويقويها أكثر من ثلاثين سنة بعد ذلك.
فلما مات سنة 172هـ ترك وراءه دولة قوية البنيان توارثها أبناؤه من بعده.. تولاها هشام ابنه، ثم عبد الرحمن الثاني، إلى أن وصل الأمر إلى عبد الرحمن الثالث الملقب بالناصر، الذي أوصل الأندلس إلى قمة في الازدهار والتقدم .
وقد دام حكم الناصر هذا نصف قرن من الزمان. نعمت الأندلس فيه بخير فترات حياتها في ظلال الحكم العربي، وطلبت ودها الممالك الأعجمية المحيطة بها، وأصبحت قرطبة ، والمدن الأندلسية الأخرى ، كعبة العلوم، ومقصد طلاب العلم، وعاصمة الثقافة ا[COLOR="rgb(255, 140, 0)"]لإنسانية ال[/COLOR]راقية. . .
وفي سنة 350هـ مات عبد الرحمن الناصر، فتربع على عرش الأندلس من بعده ولده الحكم بن عبد الرحمن الناصر، ثم حفيده هشام الضعيف الذي تسلط عليه الحجاب. وأبرزهؤلاء الحجاب المنصور محمد بن عبد الله بن أبي عامر، الذي حكم باسم الأمويين بمعونة أم الخليفة" صبح " وتمكن من تحويل الخلافة لنفسه ولأبنائه مدة قصيرة، مكونا خلالها الدولة المنسوبة إليه، المسماة بالدولة العامرية .
ثم عادت أمورالأمويين إليهم فترات قصيرة قلقة، إلى أن قضي عليهم قضاءأخيرا في الأندلس سنة 422 هـ، وعلى أنقاضهم قامت مجموعة دويلات هزيلة في الأندلس عرف عهدها بعهد ملوك الطوائف الذي كان من أكثر عهود المسلمين في الأندلس تفككا وضعفا وانحدارا نحو هاوية السقوط .
لقد قضى على الأمويين في الأندلس عاملان بارزان - أولهما : أنهم لم يغوصوا في [COLOR="rgb(255, 140, 0)"]عمق التكوين[/COLOR] الأندلسي، أولم يقوموا بما يطلبه الموقف. وأبرز سمات هذا التكوين، وجود الأفرنج في ترقب دائم لأية ثغرة ينفذون منها، وتباين الأجناس التي تعيش على أرضهم وتستظل برايتهم، لايجمعها إلا أقوى وشيجة في التاريخ وهي قيمهم الأصيلة وسيادة العربية. ولم يكن هناك من حلّ حضاري لمواجهة هذا التكوين إلا تعميق هذه القيم وتجديدها بين الحين والحين، وإثبات وجودنا أمام الممالك الأفرنجية المتحفزة..وإصلاح يمتص المشكلات الداخلية، وفي الوقت نفسه توقف الأفرنج عند حدّهم وتجعلهم في موقف دفاع لا هجوم .
والعامل الثاني البارز كذلك، هو ترك بعض الخلفاء الأمور لحُجَّابهم أو نسائهم، مما مكن لرجل كالمنصور بن أبي عامر سرقة الخلافة دون جهد.
ومن حقائق التاريخ التي نستفيدها من الوعي به وبقوانينه، أن الدولة التي لاتفهم عوامل تكوينها، وتعمل على إيجاد حل دائم ملائم لهذه الوضعية، تشرف على الزوال.. وهذا ماآلت إليه أمور بني أمية في الأندلس بعد حياة دامت قريبا من ثلاثة قرون..
( لايغيبنّ عن بالنا أن أسباباً عديدة أدت إلى هذا السقوط، ومن المنطقي أن يقول بعض الناس إن هذه الأسباب سيئة، وكان علينا التنبّه لها.
نعمّ! ولكن فلنعلم أن أمور الحياة لاتفهم على هذا النحو دائما.
في الأندلس كان الأفرنجي إذا عاش في المجتمع، وتكلم العربية اختلط بالناس، لم نكن ننظر إلى أصل الإنسان وفصله، ولايمكن لنا أن نذمّ هذا الجانب السامي في حضارتنا، ولكن لاننكر أن غياب الحذر يطمع العدو بنا، فيندس بيننا الأعداء الذين يُخرّبون لحمة المجتمع.
نعم! انتشرت الجواري في القصور، واعتاد الأغنياء التسرّيَ بهنّ، لكنهنّ لم يكنّ من الدرجة الدنيا في البيوت، لقد كانت لهن حظوة، وأصبحن أمهات أولاد وحرات بل آمرات. في هذه الصورة يختلط الأبيض والأسود والرمادي..
دخلن البيوت، فكانت منهن المخلصات الوفيات، والمخربات الآخذات بالثأر حسب زعمهن.
نعم! ان الهوى يلعب بعقول السادة، ولكن لا تنس أن قيمة احترام الإنسان كانت ترافق ضعف أصحاب الهوى..
عندما ندرس التاريخ، ونحلل أوضاع المجتمع، علينا أن ننظر إلى الأمور نظرة أرحب..
كل ما في الأمر أن نطلب من الإنسان أن تجتمع لديه الخصلتان: قيمة احترام الإنسان، والحذر في آن.. ولكن ماأصعب هذا الحل الوسط!!
عندما خرج العرب من الأندلس طلبوا حماية من يبقى فيها حتى اليهود! قيمة نعتز بها، ولكن صنعنا المعروف في غير أهله، فهل نندم؟! لست أدري!!)