-
معمر الخطيب في ذمة الله
ــــــــ وفاة شقيق زوجتي المهندس معمر الخطيب ــــــــ
موقفانِ في حياتي لا أنساهُما أبدا .
أحدُهما موقف والدة زوجتي وهي تودِّعُ ابنها الذي مرِض في ديار الهجرة فعاد إلى أمه عليلاً فرعته أربعين يوماً ثم أسلم الروح بين يديها .
الابنُ حين تضيعُ أمه فإنه يتركُ قطعةٌ من ماضيهِ القديمِ متعلقٌ بها .
أما الأم فحين يرحل ابنها فإنه رحيلٌ لمستقبلها لأنها كانت تنتظره لتراه يكبر ، أما هو فكثير من الأبناء ينتظرون موت أهاليهم .
كم هو الفرق شاسع وكبير .
توفي شقيق زوجتي ( معمر الخطيب ) يوم الجمعة الماضي 7 / 2 / 2020 ، وعمره 45 عاماً .
أمُّه أميَّةٌ لا تقرأ ولا تكتب . . . لكنها بموقفها العاطفي كانت شاعرةً تكادُ أن تسبِقَ كل شعراء العالم عاطفةً وهياجا .
وقد كتبتُ منشوراً منذ يومين وسألت من يرغب بأن أروي ما حصل في مراسم التشييع والدفن والعزاء ؛ فأشار علي العديد بالرغبة في ذلك ، وها أنذا ألبِّي .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــ
معمر يا غالي
معمر الخطيب
رحمه الله
توفي ظهر يوم الجمعة 7 / 2 / 2020
أنصح أصحاب الدموع السخية والقلوب الرقيقة ، وأنصح الأمهات والأبناء والآباء وكل من له عين تدمع ألا يتابع مطولا هذا الكلام ، وأن يكتفي بمقاطع منه فقط .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لابد من أن أشير قبل البدء إلى أن ( معمر الخطيب ) كان معجزة في أدبه الجم وأخلاقه الحميدة وتعامله المتميز مع الأقرباء والأصدقاء والجيران . . . وقبل كل ذلك تعامله الممتاز مع زوجته ؛ ليس أدلّ على هذا من حزن زوجته الشديد جدا عليه . . . زوجته التي حين توفي ارتمت عند قدميه وهي تشيد بأخلاقه وحسن تعامله .
ــــــــــــــــــــ
بعد سنين طويلة أمضاها هذا الشاب معمر الخطيب في بلاد الغربة ، هو وزوجته وبناته الثلاث ، وبعد لهفة وشوق عاتٍ تبادلته عائلته المؤلفة من أب وأم وعدة أخوة ، أخذت أمه ترسل له ترجوه وتلح عليه بالعودة . . . وكانت تستعجله فيستمهلها وتستسرعه فيستبطئها . . .
ثم سمعنا أن معمر مريض مرضاً شديداً ، وأنه لا يقدر على تحريك يده اليمنى ورجله اليمنى ، فحار الأهل وجزعوا ولم يخبروا الأم لأن قلبها ضعيف وحنانها طاغ ، لكنها كانت تشعر وتسألهم :
أخبروني ما به معمر . . . بالله عليكم . . . معمر في شي .
فأذعن أخ من أخوة معمر وأخبرها بأن ابنها مريض ؛ فسكتت وأوجمت كمن انكسر قلبه .
وكان معمر في ديار الغربة يرفض العودة لكي لا يفجع صدر أمه بمرآه هذا . . . ولكن حين ألح عليه المرض أذعن وقبِلَ بالعودة .
وصلت السيارة ونزل منها اثنان وحملوا معمر ووضعوه على الكرسي المتحرك ، وكان معمر طوال الطريق يبكي حسرة وحرقة ، يبكي على أمه التي غاب عنها منذ اثني عشر عاما كيف ستراه بهذا المنظر . . . لكنه كتم بكاءه بمجرد وصوله إلى دمشق .
كان البيت ضمن حارة مغلقة على يسار الطريق والباب في صدر الحارة . . . وكانت الأم قد وقفت على الباب تترقب القدوم ، ما إن سُمع صوت الأقدام حتى التهف قلبها وقالت : معمر . . . قالتها في لهفة وأسى .
وما إن التفت الكرسي نحو اليسار حتى ظهر وجه معمر السمح المبتسم ووراءه صاحب التكسي يدفعه ، فهرعت إليه الأم وصاحت بأعلى صوتها : معمر ما بك يا حبيبي .
دخلوا جميعا إلى البيت . . . وبدأت رحلة السهر الطويل ، فقد كان إخوة معمر يتداورون العناية به في النهار ، وكانت الأم لا تنام فتسهر مع ابنها طوال الليل ، والولد غائب عن الوعي يصحو أحيانا ويغفل أخرى .
وفي يوم الخميس 6 / 2 / 2020 قالوا إن معمر تعبان ، فدخلت الأم ونظرت إليه نظرة وتأوهت بحسرة وشدة .
وفي صباح اليوم التالي الجمعة 7 / 2 / 2020 تعب معمر كثيرا ، فاجتمع حوله أهله ثم شهق شهقة واحدة وفارق الحياة .
الدفن في محافظة أخرى والطريق طويل .
اجتمعت العائلة كلها حول الأم لتخفف من مصيبتها .
جاء المغسِّل وقاموا بتغسيل المتوفى وكفَّنوه ، ثم بدؤوا بتقبيل وجنتيه وجبينه من أجل الوداع .
كان وجه معمر بعد أن توفي متوردا وليس مصفرا وكان منظره لا يوجي أبداً بأنه متوفى . . . وأشهد أني أنا شخصيا ذقت طعما لدى تقبيل وجنتيه وجبينه أشهى وأحلى من طعم العسل .
ولما انتهى الرجال من ذلك جاء دور الأم .
جاء دور الأم في وداع ابنها .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــ
هنا سأتوقف عن الرواية وأترك مقطعا فارغا لعدم قدرتي على وصفه .
. . . . . .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــ
ثم جاءت سيارة دفن الموتى . . . فخرجوا حاملين المتوفى في النعش الكبير . . .
ولما خرجت الأم كانت نساء يساعدنها في السير . . . وكانت تبكي وتبكي وتبكي ، حتى إنها لم تعد تعرف الأشخاص الذين تراهم ، فتراها تقبل على أي شخص ، وتنظر في كل العيون ، وكأنها تبحث بيننا عن ابنها المفقود ، أو كانها تبحث عمن يردُّه لها . . . إنها لا تتكلم ولكن تصف حالتها بالدموع . . . لقد باتت تشعر أن الكل يفهمها .
إنها تنظر إلينا وكأنها إنسانة غارقة في اليم وتطلب النجدة . . . ولكن أنَّى لأحدنا أن ينجدها . . . لا مفرَّ من الموت . . . الموتُ يأتي بغتةً .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
وحين خرجنا جميعا من البيت وسرنا في الحارة لنصل إلى موكب التشييع أصرَّت الأم إصراراً شديداً أنها تريد أن تصعد أمام نعش ابنها في سيارة دفن الموتى . . . وركضتْ نحو السيارة التي تضم نعش ابنها وأمسكت بها ، ( إنها تظن أنها ستجلس معه كما كانت تسهر معه وهو مريض وكما كانت تسهر معه وهو طفل . . . ولكن . . . )
آه من ولكن . . .
لقد هدَّت ( ولكن ) كيانها ، لقد جعلتها قبراً يمشي .
وأشهد أن ثلاثة رجال لم يتمكنوا من إبعادها عن سيارة دفن الموتى .
إنها تريد أن يعود إليها ابنها .
آااااااه .
آااه .
ثم وافقت بصعوبة على أن تصعد في سيارة أخرى . . . وفي الطريق كنت أتابع سيارتها ، وكنت أصيخ السمع إليها فأخال نفسي أني أسمع صوت بكائها رغم أني أركب في سيارة أخرى .
كانت السيارة التي تحمل أم معمر تسير ببطء ونحن وراءها فأراها كأنها تقذف من حولها حمما بركانية من الحزن الملتهب .
تسير حاملة بين جنباتها تلك الأم التي ملأ الحزن قلبها وفاض على من حولها حتى غدا الجميع يبكون . . . حتى أولائك الذين لم يروا ( معمر ) في حياتهم أخذوا يبكون لهذا البكاء الشديد .
بكاء ونواح وعويل لو وُزِّع على العالم لامتلأت الدنيا بالحزن .
ولما وصلنا . . .
لما وصلنا توقفت سيارة دفن الموتى أولاً ثم توقفت السيارات الأخرى ، وترجلت الأم من السيارة . . . ترتدي سوادا قاتما فاحما ، لم تعد تصيح بعد أن ملأت الدنيا صياحا .
وصلنا إلى البلد ، وعلى باب البناء صعدت الأم الدرجات الخمس المؤدية إلى بيت ابنها الثاني ، وتم إنزال النعش وإدخاله إلى البيت وسط جمهرة كبيرة من النساء . . .
ثم بعد قليل خرج النعش مرة أخرى يحمله عدد من الرجال وقبل أن يصعدوا بالنعش إلى السيارة ظهر صوت الأم من النافذة وهي تصيح :
معمر . . . معماااااااااااار .
فالتفتنا جميعا إليها فصاحت :
معمر يا غالي . . . . معمر يا غالي . . . وكررت هذه العبارة عدة مرات وسط ذهول الرجال خارج البيت والنساء في الداخل .
في هذه اللحظات تذكرت أمي التي رحلت منذ خمس سنوات ، وتذكرت بكائي عليها ، لكن الفرق كبير جدا بين ابن يبكي على أمه وبين أم تبكي على ابنها .
تذكرت أني تمنيت يومذاك لو افتديت أمي بنفسي ومتُّ أنا بدلاً عنها . . . تماما كما تتمنى اليوم هذه الأم ، أم معمر ، أن تموت بدلاً من ابنها . . .
وبينما أنا كذلك فوجئت بأن أم معمر لم تحتمل أن ترى ابنها يُحمل بالنعش إلى سيارة دفن الموتى ، فشقت لنفسها طريقا وسط النساء وهرعت إلى جموع الرجال وأمسكت بتلابيبهم ورجتهم بأن ينزلوا النعش إلى الأرض ، وفي وسط ذهول الجميع أرادت أن تفتح النعش ، وحاول الجميع منعها ؛ لكن أحد الحكماء أشار عليهم بأن يتركوها لتفرغ أعصابها وتريح أحزانها ، ففتحت النعش ورمت بنفسها فوق صدر ابنها المتوفى .
ويا للعجب . . . يا للعجب كيف تمكنت رغم ضعفها وحزنها من أن ترفع جسد ابنها وتضمه إلى صدرها ، ومن العجب الشديد أنه وضعت يدها خلف رأسه تماماً كما كانت تفعل منذ خمس وأربعين عاماً حين كان طفلاً ؛ وكانوا يلفون الطفل بقطعة قماش بيضاء يسمونها ( القنداقة ) . . . فظهر المنظر وكأنها تحمل ابنها الطفل الذي كَبُر ، لكنها هذه المرة تحمله إلى القبر بدلاً من أن تحمله إلى الحياة الرغيدة .
هنا لم أتمكن أنا من متابعة هذا المنظر الرهيب فأشحت بوجهي . . . وتذكرت قول الشاعر بشارة الخوري :
عِشْ أنت إنّي متُّ قبلك . . . . . . وأطلْ إلى ما شئتَ صدّكْ
وحياةِ عينكَ وهي عندي . . . . . . مثلما الإيمانُ عندَكْ
ما قلبُ أمِّكَ إن تفارقَها . . . . . . ولم تبلغ أشُدَّكْ
فهوتْ عليك بصدرها . . . . . . يومَ الفراقِ لتستردّكْ
بأشدَّ من خفقان قلبي . . . . . . يوم قيلَ خفرتَ عهدكْ
لقد هوت هذه المرأة على ابنها وضمته إلى صدرها ظناً منها أنها يمكن أن تسترده .
عدت فنظرت إلى الأم التي تضغط بيدها على ظهر ابنها المتوفى ليلتصق صدره بصدرها .
يا للهول . . . أيُّ حزن هذا .
أيُّ حزن .
ثم أخذوا النعش منها فعادت تسير إلى الوراء نحو البيت . . . وبكى بعض الرجال ضعاف القلوب .
زوجته تبكي وبناته يبكين . . . ولكنْ بكاءً ليسَ كبكاءِ الأم .
وبعد أيام عاد أفراد أسرة معمر من البلد لكن الأم ترفض أن تعود معهم وتقول إنها تخشى أن ترى سريره فتعاودها الذكرى .
أيُّ حزن هذا ومتى وكيف سينجلي .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــ
أما أنا فإنني أؤكد أنه مهما مضى من الزمن لا يمكن لي أبداً أن أنسى منظر هذه الأم وهي تصيح من النافذة :
معمر يا غالي .
ماتزال هذه العبارة يطوحُ صداها في أذني .
رحمك الله يا معمر .
وهدَّأ قلبك يا حماتي العزيزة .
الموت حق والدنيا أم .
عزائي الشديد إلى حماتي وزوجتي وأشقاء معمر . . . وإلى كل من كان يعرفه .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــ
أعتذر ممن لامست دموعهم . . . لكني سألتهم : هل أروي ، فقالوا : نعم .
-
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى