طه حسين في عيون زوجته الفرنسية
--------------------------------------------------------------------------------
دفعت المؤامرات ضد طه حسين زوجته للعودة إلى فرنسا لبعض الوقت * حرض طلابه على «العض» على التاريخ الإغريقي لتنوير عقولهم
القاهرة.. اواخر شهر اكتوبر (تشرين الاول) 1973، الجيش المصري يجتاز قناة السويس ويرفع العلم في صحراء سيناء، وانظار العرب من المحيط الى الخليج مصوبة الى جبهات القتال الثلاث: المصرية والسورية والاردنية وقلوبهم تخفق بشدة في انتظار ما سوف تسفر عنه الحرب الجديدة ضد اسرائيل. ظهر يوم السبت 27 اكتوبر 1973، اصيب د. طه حسين عميد الادب العربي والذي كان قد ملأ الدنيا وشغل الناس على مدى خمسين عاما، بوعكة في بيته في «راستان» ولما جاء الطبيب لفحصه، زالت النوبة وعاد صاحب «الأيام» الى حالته الطبيعية. وعندئذ وصلت من الامم المتحدة بنيويورك برقية تعلن فوزه بجائزة حقوق الانسان، غير انه لم يسعد كثيرا بتلك البرقية. وباشارة من يده تعرفها جيدا زوجته الفرنسية السيدة سوزان، علق على ذلك قائلا: «واية اهمية لذلك؟».
في الليل، بعد ان غادر الطبيب وسكرتيره الخاص قال لزوجته وهو يستعيد ذكريات السنوات العسيرة التي عاشها مناضلا من اجل افكاره ضد الظلامية والتزمت: «اية حماقة؟! هل يمكن ان نجعل من الاعمى قائد سفينة؟!».
صبيحة يوم الأحد 28 أكتوبر (تشرين الاول) من العام المذكور، شرب د. طه حسين، بصعوبة كبيرة شيئا من الحليب، ثم لفظ انفاسه، وفي ما بعد كتبت زوجته تقول واصفة مشاعرها في تلك اللحظة العصيبة: «جلست قربه، مرهقة متبلدة الذهن وان كنت هادئة هدوءا غريبا ما اكثر ما اكنت اتخيل هذه اللحظة الصعبة، كنا معا وحيدين، متقاربين بشكل يفوق الوصف. ولم أكن ابكي ـ فقد جاءت الدموع بعد ذلك ـ ولم يكن احد يعرف بعد بالذي حدث. كان الواحد منا مثل الاخر مجهولا ومتوحدا، كما كنا في بداية طريقنا».
* خلال حياته المديدة (83 عاما) وعقب رحيله، كتب عن د. طه حسين وعن افكاره وطروحاته ومواقفه الكثيرة، غير ان ما كتبته عنه زوجته الفرنسية السيدة سوزان والذي نقل الى العربية بشكل بديع وحمل عنوان «معك» هو في نظري اروع وافضل وثيقة لا عن حياته الشخصية وافكاره وآرائه، فحسب، انما عن الحياة الثقافية والسياسية في مصر على مدى اكثر من خمسين عاما. وكان طه حسين طالبا في فرنسا لما تعرف على زوجته الفرنسية. وكان ذلك يوم 12 مايو (ايار) 1915، في مدينة «مونبلييه» وكانت هي مصحوبة بأمها، ولم تكن قد تحدثت مطلقا الى اعمى. اثر ذلك اللقاء الاول، اخذت تكرر من زياراتها له خصوصا لما ذهب الى باريس في العام التالي لمتابعة دراسته. وذات يوم صرحت برغبتها في الزواج منه فصعقت العائلة واخذ جميع افرادها يصيحون فيها غاضبين: «كيف؟ من اجنبي؟ واعمى؟ وفوق ذلك كله مسلم؟»، غير ان الفتاة كانت قد اختارت، ولم تكن ترغب البتة في التراجع عن اختيارها. وجاءها العون من عم لها كان قسا، فقد قال لها بعد ان تنزه مع طه حسين مدة ساعتين في حقول «البرينه»: «بوسعك ان تنفذي ما عزمت عليه.. لا تخافي. بصحبة هذا الرجل يستطيع المرء ان يحلق بالحوار ما استطاع الى ذلك سبيلا، انه سيتجاوزك باستمرار». وفي ما بعد سوف تكتشف السيدة سوزان ان عمها القس الطيب كان على حق. لذا سوف تظل تكن له اعجابا كبيرا طوال حياتها. فقد كتب لأمها يقول عند وفاته: «كان مثلنا ودليلنا ومحل اعجابنا. كان يجعل كل شيء جميلا، وكان يجعل كل شيء نبيلا. لقد كانت الحياة تغدو بصحبته فجأة حياة ارفع واخصب».
وتم زواج المصري المسلم البصير من الفتاة الفرنسية المسيحية يوم 19 اغسطس (آب) 1917 بينما كانت باريس تعج بالجنود العائدين من جبهات القتال. وفي خريف 1919 سافر الزوجان الى مصر ليبدآ حياة اخرى هناك، حياة كانت فيها الكثير من الصعوبات والعراقيل، خصوصا في البداية.
في تلك الفترة كانت مصر تعيش غليانا سياسيا تبدى بصورة واضحة في ثورة 1919 ضد الاحتلال الانجليزي وكان الوطنيون يواجهون القمع والملاحقات والسجون. ولم يكن طه حسين مجهولا تماما في بلاده. فقبل سفره الى فرنسا، كان معروفا في الاوساط الجامعية من خلال الاطروحة التي اعدها عن ابي العلاء المعري. اما في الاوساط الصحافية فكان اسمه قد لمع بعد ان نشر مقالات في صحيفة «الجريدة» التي كان يديرها لطفي السيد وفي صحف اخرى مثل «العلم» و«السفور». وعندما عاد عين استاذا في الجامعة. ومنذ البداية اخذ يعمل بحماس وجد، باعثا في التعليم روحا جديدة، محرضا طلابه على «العض» على التاريخ الاغريقي، اذ انه كان يرى في ذلك تنويرا لعقول الشباب وثورة على المناهج التربوية التقليدية التي تكتفي بتدريس الفقه والادب العربي القديم. ولم يلبث هذا الاسلوب الجديد الذي جاء به صاحب «في الشعر الجاهلي» ان اغاظ الكثيرين من الاساتذة، ومن الشخصيات السياسية والدينية فشرعوا يحيكون المؤامرات الدنيئة ضده بهدف لجم حماسه الفياض وافساد مشروعه التدريسي.
وبسبب المشاكل المادية الحادة التي اخذت تتراكم على العائلة الصغيرة، خصوصا بعد ان اصبح لها طفلان، بنت تدعى امينة وولد يدعى مؤنس، اضطرت السيدة سوزان الى العودة الى فرنسا. وعلى مدى الاشهر التي ظلت فيها هناك، كانت تتبادل الرسائل يوميا مع زوجها البعيد. وكان كل واحد منهما يتحدث الى الآخر بدقة عن تفاصيل حياته اليومية. وفي واحدة من رسائله، كتب طه حسين يقول لزوجته: «هل اعمل؟ ولكن كيف اعمل بدون صوتك الذي يشجعني وينصحني، بدون حضورك الذي يقويني؟ ولمن استطيع ان ابوح بما في نفسي بحرية؟». وفي نفس الرسالة، يضيف قائلا: «لقد استيقظت على ظلمة لا تطاق. وكان لا بد ان اكتب لك لكي تتبدد هذه الظلمة. اترين كيف انك ضيائي حاضرة كنت ام غائبة؟» وفي رسالة اخرى يكتب لها قائلا: «كان افلاطون يفكر اننا اذ نتحاب فإننا لا نفعل سوى ان نعيد صنع ما افسده عارض ما. عندما تنفصل نفسان عن بعضيهما، تبحث كل منهما عن الاخرى، وعندما يتواجدان ويتعارفان، فإنهما لا يعودان كائنين وانما كائن واحد. انني اؤمن بذلك تماما».
وعندما تعود السيدة سوزان الى مصر، تجد زوجها لا يزال غارقا في المشاكل المادية والنفسية الناتجة بالخصوص عن تلك الحروب السرية والعلنية التي كان يشنها ضده اعداؤه داخل الجامعة وخارجها.
مرة سأله أحد الشيوخ:«لماذا تزوجت فرنسية؟ لو كنت حرا لشرعت قانونا يحظر على كل مصري ان يتزوج من اجنبية». وبسخرية لاذعة يرد عليه طه حسين قائلا: «ارجوك يا سيدي.. اشترع هذا القانون، فإني، استعجل الا استمع الى مثل هذا الكلام!» ويستأنف الشيخ المعمم الكلام قائلا: «لكني بعد كل شيء يا دكتور طه.. اود ان افهم الاسباب الحقيقة التي حملتك على الزواج من اجنبية فأنت مصري طيب ووطني طيب عظيم الذكاء، فكيف اقدمت على مثل هذا العمل؟» وهنا يقرر صاحب «قادة الفكر» ان يكون قاطعا في جوابه فيجيب الشيخ المعمم قائلا: «قابلت فتاة واحببتها فتزوجتها ولو لم افعل ذلك لبقيت أعزب او لتزوجت ـ نفاقا، بما انني احب امرأة اخرى ـ امرأة مصرية، وكنت سأجعل منها امرأة تعسة!»
نحن الآن في عام 1926. طه حسين يعمل بجد وحماس كعادته دائما متحديا الآلام والاوجاع التي كان يسببها له اعداؤه الذين كانوا يتكاثرون يوما بعد يوم، وبالاضافة الى الدروس التي كان يلقيها في الجامعة، كان يكتب في العديد من الصحف مثل «مصر» و«السياسة» و«الاتحاد» وفي شهر مارس (اذار) من العام المذكور، اصدر كتاب «في الشعر الجاهلي» الذي كان قد شرع في تأليفه ثلاثة اشهر قبل ذلك. وفي الحين انفجرت تلك العاصفة الهوجاء التي ستقوده الى المحاكم وستكون السبب في مصادرة الكتاب المذكور. وعن هذه الحادثة تكتب السيدة سوزان قائلة: «كان يعمل به (تقصد كتاب «في الشعر الجاهلي») في النهار ويحلم به في الليل مدفوعا بحماسة بلغت به درجة انه شرع فور انجازه بتأليف كتاب عن الديمقراطية، لكن ما حدث له ارهقه. ولم يكن يفهم هذه الاحكام البليدة وهذا التحيز الاخرق وهذا الحقد الحاسد وهذا الرياء وتلك البراعة التي نجحوا بها في تحريض اناس طيبين ضد انسان شريف وفي جره الى المحكمة بعد ان صادروا كتابه والحملات القاسية في الصحافة والشتائم والتهديد بالموت الذي كان وراء اقامة حراسة على مدخل بيتنا امام باب الحديقة خلال عدة اشهر. كل هذه الاحداث كانت تذهله وتستثير ضميره العلمي وتؤلمه كثيرا. وخلال هذه المحنة القاسية، ظل بعض الاصدقاء اوفياء لطه حسين ولم يبخلوا عليه بدعمهم المعنوي ولا بتضامنهم الصريح والواضح، بين هؤلاء لطفي السيد الذي تتحدث عنه السيدة سوزان بكل احترام ومحبة قائلة: «كان هذا الرجل ـ اي لطفي السيد ـ الذي كان دميما والذي كان وجهه المطبوع بآثار الجدري يشع ذكاء ساخرا يملك هيئة خارقة: كان كبير الجسم، نحيلا ومهذبا، كان كلامه اكثر بطئا، اذا جاز القول لي، من عينيه الحيتين. يتكلم ببطء وعلى وتيرة واحدة تقريبا (...) كنا حين نذهب لرؤيته، بعد عديد من السنوات، نجده متدثرا بل متلاشيا في قفطان واسع او اشهب او اسر، يكاد رأسه يختفي بين طيات لفة من الصوف: فقد كان سريع التأثر بالبرد. كان يجلس امام موقد النار، هادئا، يداه الدقيقتان تسبحان، كان يبدو لي صورة طبق الاصل من الفلاسفة والعلماء الاقدمين الذين تبنى حكمتهم دون اي انبهار».
وبرغم قسوة الهجومات التي شنت ضده، لم يتراجع د. طه حسين عن موقفه، وظل «شجاعا رابط الجأش» كما تقول زوجته وربما لكي يتغلب على المرارة التي كان يحس بها، انطلق بصحبة عائلته الى قرية صغيرة في «السافوا العليا» بفرنسا. وهناك انجز الجزء الاول من كتاب «الايام» في تسعة ايام!
اما المحنة الثانية التي تعرض لها طه حسين فقد حدثت في ربيع سنة 1932 التي سوف تسميها السيدة سوزان بـ «سنة المجاعة» فقد فصل عن عمله كاستاذ بالجامعة بسبب افكاره ومواقفه التحررية. وفي هذه المرة كان اعداؤه المتربصون به يرغبون في سحقه حقا، حسب تعبير السيدة سوزان التي تضيف قائلة: «لم يكتفوا ـ اي الاعداء ـ هذه المرة بطرده من الكلية التي كان عنوانا لعزتها وكرامتها وقوة نابضة فيها، وانما ارادوا ايضا احراق كتبه، فأخذوا منه بيته الذي يسكن فيه واغرقوه بالشتائم وحاولوا ان يحرموه من كل وسيلة للعيش بمنعهم مثلا بيع الصحيفة التي كان يصدرها وبانذارهم البعثات الاجنبية في مصر بالكف عن ان تقدم له عروضا للعمل».
دامت هذه المحنة الجديدة حتى عام 1934، وكانت المقاطعة تامة من جانب اغلب المؤسسات الجامعية والصحافية. وحدها الجامعة الاميركية تجرأت ودعت طه حسين لالقاء بعض المحاضرات التي لاقت اعجاب الشباب المتحمس لافكاره.
وفي هذه المرة جاءه العون من مستشرقين مرموقين من أمثال ماسينيون الذي بعث له برسالة مفعمة بالود وفيها يطلب منه ان كان مستعدا للذهاب الى الولايات المتحدة الاميركية لإقاء محاضرات في جامعاتها. وقد علق هو على ذلك قائلا: «لقد ايقظتني رسالة ماسينيون. انني استاذ معزول وعالم ممنوع عن العمل. ومن واجبي الا اشتغل في السياسة، وانما أؤلف الكتب وأسعى وراء الرزق. أما في اميركا فإنني سأكون اجنبيا وسأنظر الى حياة البلد دون ان اشارك فيها، ولن يكون عليّ ان اقوم فيها إلا بواجب محدود».
ومن الاصدقاء الذين عبروا عن تعاطفهم معه في هذه المحنة الجديدة تذكر السيدة سوزان النحاس باشا والسيدة هدى شعراوي رئيسة الاتحاد النسائي ومصطفى وعلي عبد الرازق وخليل مطران. ورغم المصاعب والمؤامرات القذرة التي كان يواجهها، تمكن د. طه حسين من انهاء كتاب «على هامش السيرة». كما ظهرت الطبعة الفرنسية الاولى للكتاب «الايام» وخلال تلك الأيام السوداء، مات حافظ ابراهيم «شاعر النيل». فحزن طه حسين حزنا شديدا وقال: «أقضي يومي في حزن لا طائل من ورائه، ذلك انه كان اكثر الناس مرحا بيد ان موته يغلفني بحزن يكاد يكون مبتسما.. هناك اناس لا يموتون كليا، خاصة منهم الشعراء، لن استمع ابدا لصوت حافظ، لكنني سأستمع دوما الى روحه، وسأراها في كل مرة اشعر، بالفرح أو بالحزن، وهو ما يعزيني قليلا».
وفي نهايات عام 1934، اعيد كرسي الجامعة الى د. طه حسين. فكانت فرحة طلابه الذين حملوه منتصرين في ساحة الجامعة «متفجرة وغامرة».
عند اندلاع الحرب الكونية الثانية، اعلن د. طه حسين عن مناصرته الصريحة والواضحة لفرنسا ولدول الحلفاء. وعندما زار الجنرال ديغول الذي كان آنذاك قائدا للمقاومة الفرنسية القاهرة في شهر نيسان / ابريل 1941، وتحدث في الجامعة الاميركية استقبله د. طه حسين الذي كان يراقب اذاعة «فرنسا الحرة». ولم تؤثر فواجع الحرب واحداثها الاليمة على نشاط صاحب كتاب «الايام» فقد انشأ جامعة الاسكندرية، وواصل الكتابة في الصحف وأسس مجلة «الكاتب المصرية» التي كان يهدف من خلالها الى «ان يقيم اكثر ما يمكن القيام به من الصلات بين الثقافة الغربية ومصر والعالم العربي». لذا جاء اليها بكل الشباب الذين تنوروا بأفكاره، واطلق جيشا من المترجمين من عدة لغات بهدف نقل الاعمال الكبيرة الى اللغة العربية.
عقب انتهاء الحرب الكونية الثانية، اصبح بيت طه حسين قبلة مشاهير الزوار الفرنسيين منهم بالخصوص، وكان اندريه جيد الذي تربطه بالسيدة سوزان قرابة عائلية أول هؤلاء. وقد استقبله د. طه حسين في مكتبه ومنذ البداية احس كل من العملاقين بالود تجاه الآخر. ومتحدثة عن ذلك، كتبت السيدة سوزان تقول: «كان طه يعجب بجيد ولكن من بعيد قليلا، فهما لا يتشابهان كثيرا، غير انهما ما ان التقيا حتى تفاهما على الفور اثر مناقشة عفوية كان فيها كلاهما على رأي واحد. واظن ان كلا منهما قد عرف عن الآخر هذا الانفتاح الروحي النادر والبساطة الكلية». وذات مساء قرأ اندريه جيد في الصالون الصغير روايته The See فتأثر د. طه حسين بذلك شديد التأثر واثر ذلك قام بترجمة الرواية المذكورة الى اللغة العربية.
وجاء جان كوكتو ايضا الى بيت طه حسين. وقبل ذلك اتصل به هاتفيا ليقول له: «انتظر بفارغ الصبر ان اقبلك». وعند وصوله، فعل ما قاله في الهاتف. وقد وصفته السيدة سوزان قائلة: «كان يختار الجلوس حين يدخل الصالون ليس على مقعد وانما على درجة طويلة من الخشب تحاذي الفتحة ذات الباب الزجاجي التي تنزل منها الى الحديقة. كنت اجلس قربه وابقى مأخوذة استمع اليه وهو يلوح بيديه الذكيتين اللتين كانتا تتحركان بشكل لا يصدق، واللتين كانتا ترسمان امامه أشكالا غير مرئية».
كما زار بيت طه حسين كل من اديث بياف المغنية الشهيرة ذات القامة القصيرة والعينين الزرقاوين الصافيتين والمخرج المسرحي الكبير لوي جو فيه.
ونظرا للشهرة الواسعة التي اصبح يتمتع بها مصريا وعربيا وعالميا، عين د. طه حسين وزيرا للتربية والتعليم. فكانت هذه الفترة من أهم الفترات في حياته، فقد انجز العديد من المشاريع التي كانت تراوده قبل توليه الوزارة اذ اسس كلية جديدة للطب وكذلك جامعة جديدة هي جامعة ابراهيم التي اصبحت تسمى الآن جامعة عين شمس، وأنشأ المعهد الاسلامي في مدريد، اما في العاصمة اليونانية اثينا فقد بعث كرسيا جامعيا للغة وللثقافة العربيتين. كما جعل التعليم اجباريا وزاد من عدد المدارس الابتدائية، خصوصا في الارياف. وقد احبه الناس بسبب هذه الانجازات العظيمة لذا كانوا يهتفون له عندما يمر في الطريق: «يحيا وزيرنا، يحيا صديقنا، يحيا ابو المساكين.. ذلك الذي ينورنا!».
ولما قامت ثورة الضباط الاحرار بزعامة جمال عبد الناصر في صيف عام 1952، استقبلها د. طه حسين بتوجس وصمت. وحتى لا يصبح اسيرا لما يحدث آنذاك في الشارع على المستوى السياسي بالخصوص غرق في كتب التراث الاسلامي يستخلص منها تاريخ الخليفة علي بن ابي طالب وبنيه.
في نفس هذا العام، عام 1952 حضر د. طه حسين العديد من المؤتمرات الدولية التي انعقدت في بعض الدول الاوروبية، وخلال جميع هذه المؤتمرات كان يؤكد في جميع الخطب التي ألقاها على ضرورة تدعيم واثراء الحوار بين الشرق والغرب، وبين العالم الاسلامي والعالم المسيحي. ففي فلورنسا قال: «ان واجبنا يتجلى في عقد روابط الاخوة بين العالم الاسلامي الذي أمثله هنا ـ بما انه بوسع اصغر مسلم، اذا قال الحق، ان يقوله باسم الجميع ـ وبين العالم المسيحي الى كل الناس، ذلك انه لا وجود في نظر الله لشرق او لغرب، ولا للجنوب أو للشمال، وانما العالم والناس. وعندما يمنح الله العدالة للناس فإنه لا يمنحها للمسيحيين فقط أو المسلمين فقط، وانما لجميع الناس، انني اطالبكم بمحاسبة انفسكم». وقد علق احد الصحافيين الايطاليين على خطاب د. طه حسين قائلا: «كان كلامه، بل اكثر من ذلك شخصيته نفسها تستأثر بانتباه الجميع. ذلك ان الدين والثقافة قد أوجدا فيه نقطة التوازن والاتحاد الكاملين». وفي خطبه تلك كان د. طه حسين يؤكد ايضا على الدور التنويري المنوط بالكاتب وبالمثقف عموما، وهو يقول في ذلك: «الكتابة هي ايضا العمل.. كل كاتب وكل فنان لا يستطيع التقدم الا بالاخلاص.. شأنه شأن بطل دانتي يحمل المصباح معلقا الى ظهره سيضيء طريق الذين يتبعونه..».
وبالرغم من ان الرئيس جمال عبد الناصر منحه «قلادة النيل» في عام 1965، فإن نظامه تعامل مع د. طه حسين ببرود شديد ربما لأنه كان يهاجم بعنف «الانتصارات المزيفة والمؤسسات المنخورة» وقد كان على حق فالضباط الاحرار بزعامة جمال عبد الناصر كانوا قد جاءوا بشعارات جميلة وبراقة، غير ان السياسة التي كانوا يطبقونها على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والتربوي كانت كارثة حقيقية بالنسبة لمصر وللمصريين. ومع ذلك لم يظهر د. طه حسين الذي منع من الكتابة في صحيفة «الجمهورية» لسبب لم يكن يدريه، اهتماما كبيرا بهذه الاجراءات التعسفية ضده، وظل يواصل نشاطه وكأن شيئا لم يكن، فالى جانب تعاونه مع اليونسكو في مشروعها الكبير: «الشرق ـ الغرب» كتب شهادة عن الشاعر الايطالي أو نغاريتي الذي ولد وعاش في الاسكندرية، والذي التقى به مرات عدة في روما وفلورنسا والبندقية. وكان حريصا على الالتقاء بكبار الشخصيات السياسية والفكرية التي تزور القاهرة مثل الرئيس والشاعر السنغالي ليوبولد سيدار سنغور والمستشرق المعروف بلاشير وآخرين.
ذات مرة كتب طه حسين الى زوجته سوزان يقول: «بدونك اشعر اني اعمى حقا. اما وانا معك، فإني اتوصل الى الشعور بكل شيء، واني امتزج بكل الاشياء التي تحيط بي». وعندما رحل هو عن العالم، كتبت هي تقول: «ذراعي لن تمسك بذراعك ابدا، ويداي تبدوان لي بلا فائدة بشكل محزن، فأغرق في اليأس، اريد عبر عيني المخضبتين بالدموع، حيث يقاس مدى الحب، وامام الهاوية المظلمة، حيث يتأرجح كل شيء، اريد ان ارى تحت جفنيك اللذين بقيا محلقين، ابتسامتك المتحفظة، ابتسامتك المبهمة، الباسلة، اريد ان ارى من جديد ابتسامتك الرائعة..»
معك: سوزان طه حسين، ترجمة بدر الدين عرودكي، دار المعارف 1982.
حسونة المصباحي - الشرق الأوسط - 27.10.2003
__________________