" البوح الجميل
في جدول .. "قبل الرحيل"
رؤية نقدية
د. بيومي الشيمي
الشعر هو سلطان اللغة ، هو التاج الذي تضعه فوق رأسها ، تتباهى به في كل الأزمنة والعصور ، وهو الشعور الجميل الذي يعبر به الإنسان عن مكنون نفسه ، وعما يجيش بها من انفعالات مختلفة ، من فرح وحزن ، من حب وكره ، من ولَهٍ وصبابة وفتور ، من وفاء وغدر ، من معاناة وقسوة ورحمة ، من وصال وهجر ، ما يكابده من شوق إلى الحبيبة ، أو الوطن حين يفتقده ، أو يشعر بالغربة وهو بين أحضانه ، وكذلك هو وسيلة للمدح أو للذم .
ومن هذا المنطلق نجد الشاعر العربي السوري عدنان البرازي قد اتخذ الشعر دربا يتجول خلاله ليبث وأشواقه ، وهمه ؛ فالشعر هو هيكل الحب الذي اتخذه لنفسه ، وصدق من أطلق عليه " شاعر الحب " .
عدنان البرازي هو شاعر يصنع قصائده إما من ذهب أو لُجَيْن ، يصنع منها لوحات رائعة التكوين ، خلابة المنظر ، من خلال عاطفة جياشة ، وهو يقهر أدواته ، ويتغلب عليها ؛ لتخرج قصيدته راض ٍ عنها ، مُرْضِـية للمتلقي ، تامة المعني ، والفكرة ، ذات جَرْس موسيقي بديع .
هو شاعر ذو أذن موسيقية ، يسكن في صدره شيطان القريض ، يصيغ شعره ، الذي يمتاز بوحدة الموضوع ، وهو يدقق في اختيار مفرداته ، التي في مجملها واضحة ، غير مجهدة للمتلقي ، ويغوص في بحر اللغة لينتقي لآلئه :
أنا البحر في أحشائه الدر كامن
فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي
وإني أرى أن عدنان أحد الصَّـيادين المهرة الذين يحلو لهم الغوص ؛ كي يبحث عن الدرِّ الكامن ، ويختار منه ألفاظه الشعرية التي قد تكون مثل رقة النسيم ، أو قد تكون صاخبة ، هادرة كعباب البحر ذي الأمواج المتلاطمة .
هو شاعر ذو نظرة ثاقبة ، شعره قوي النسيج ، رصين العبارة ، بليغ الأداء للبيان ، يمتلك اللغة ، ولا تملكه ، يطوعها لأسلوبه طواعية تامة .
هو شاعر بديع الصور ، والخيال ، عميق الشعور ، والوجدان ، ملتهب العاطفة ، والإحساس ، والقلب .
هيا بنا نغوص في بحره الخضم ، الذي يشدنا شداً نحو الأعماق ، لنفتح أصدافه ، ونكشف عن لآلئه البديعة ، وأثناء تجوالي وجدت صدفته الأولى ، التي تحمل اسم ديوانه " قبل الرحيل " :
دعنا نودع بعضنا قبل الرحيـل
فالشمس في حزن تميل إلى الذُّبول
وانعم بما تلقى بعيدا عن فؤادي
... من نعيـــم بين عذَّالي قليل
فطباع قلبك غير طبعي أنت غيري
... فاللقاء غدَا علينا مســتحيل
هنا يضع الشاعر نفسه مكان امرأة مضطرة إلى الرحيل عن حبيبها ، وتطلب منه الوداع ، لأن شمس الحب قد تحولت إلى نبت أصفر اللون ، وتُبَيـِّن أن سبب هذا الرحيل هو أن حبيبها قد فضَّل عليها عذَّالها ، وفي استنكار واضح ، تطلب منه أن ينعم بينهم ، وأنه سوف يعرف الفرق بين ما كان عليه معها ، وما سيجده لديهم ، وترى أن لقاءهما أضحى مستحيلا ، لأن طباعهما مختلفة .
كل الوسائل قد فشلن بصـلحنا
ونأى عن الإصلاح من كان الخليــل
ويئست في بحثي عن الأمال في
دنيــاك . عدت من الفلاة بلا دليـل
ضاع الضياء بمقلتيك وودعت
عيناي في دنيا الهوى شـمس الأصيـل
يرى الشاعر إن كل وسائلها بينها وبين حبيبها قد فشلت ، وأن كل من تدخل للإصلاح بينهما قد باء بالفشل ، والسبب أن نور الحب بعينيه قد رحل ، ولكنني أرى في البيت السابق تناقضا واضحا ح كيف يضيع الضياء الذي بعينيه ، بالرغم أن الشاعر وصفه أنه شمس الأصيل في دنيا حبها وهواها .
ويستمر الشاعر في طرح هم ِّ هذه المرأة ، مبينا يأسها ، وتعاستها في حبها له ، وأن كرامتها فوق حبها ، وأنها لن تعود إليه مرة أخرى :
عندي الكـرامة فوق حبي مثلـما
قال الحكيـم فأبرأ القلب العليـل
أنا لن أعود إليك فالعمــر الذي
قد ضاع مني ليـس بالعمر القليل
لقد ضاع عمرها كله معه ، في حبها له ، ولكن ما فعله معها من خسة ونذالة ، كافيا لتبتعد عنه .
لا تحسب الزمن الذي يأتي سيصلح
فالخسـيس النذل لا يغدو نبــيل
ترى هنا أنه لن يتحول إلى النبل والشهامة ، وترى أن سبب ذلك هو ما اختاره له والده :
واصنع كما أمر العجـــوز أبوك
واختر طفلةً تغنيك عن حبي الجميل
لكنها بعد كلمة " آسف " منه تعود إليه مسرعة :
قلت : اسمعيني آسف قالت : صهٍ
فبكيت ، فانتفضت .. إلى قلبي تميل
وهذا هو الحب الذي وصفه في قصيدته " هذا هو الحب " :
الحب نبض للحيــاة ونعمــة الله القديــر
الحب في الأعماق نبع دافقٌ .. ثرٌ .. غريــر
يهب الوجـود جماله ويثير في النفس الحبور
يا لجمال ما قلت يا عدنان .. نعم الحب هو النبض الذي بدونه تفقد الحياة بهاءها ورونقها ، ويغور ماؤها ، وتموت كل معانيها ، إنه نعمة قد نعمها الله علينا – سبحانه وتعالى – للبشر ، كي يهنأوا بعيشهم ، هو النبع الفياض المتدفق ، الذي يمنح الدنيا جمالها ، ويبعث السعادة والسرور في النفوس . ما أجمل الحب الذي يملأ قلوب كل الناس ..
وتراه في الشيخ المسن وفي الشباب وفي الصغير
وكما يكـون مع الغني يكــون أيضا للفقيــر
الحب ليس حكرا على فرد دون الآخر ، ولا فئة دون فئة ، إنه يلهب قلب الشيخ الذي قد براه العمر ، كما يخترق قلب الشباب ، فيثير عواطفهم ، ويشعل مشاعرهم ، وكذلك يكتوي به قلب الغني ، ويرتوي به قلب الفقير .
ويستطرد الشاعر في كلامه عن الحب مبيـِّنا ما يفعله لنا وبنا ، ( وبه نصد الوهم و... ، وهو المبدد للغيوم ، يزيل أمراض الصدور ، ويزول عن أفاقنا شبح التجهم والغرور ) .
ويرى الشاعر الحب في كل شيء : في الشمس ، في الأفق ن في الطيور ، في النهر ، والشجار ، والأزهار ، والحقول ، وشدو البلابل ، والحدائق ، وفي صفاء ماء الغدير ، بل هو الوجود المستنير :
والحب في هذي الحياة هي الوجود المستنير
وفي نهاية قصيدته يدعو إلى العيش في حياة العشق الجميل :
لنعش حياة العاشقين بساحة المولى القدير
الحب يا حبي الكبيـر مثل الضيـاء للضرير
وفي تجوالي بين ضفتي هذا البحر ن وفي قاعه نجد الأصداف متناثرة متنوعة ، فهناك " بربك لا ترحل " ، وهي مقابلة للقصيدة الأولى في هذا الديوان ، نجد أصدافا متنوعة لكنها جميعا أصداف الحب ، وأكاد أشعر أن هذا الديوان صدفة كبيرة متنوعة اللآلئ ، نجد فيها ما يمثل اللوعة ، والصد ، والهجر ، والوقوف على الأعتاب ، والهم الذي يزيحه الحب ، وعن الغرام والهيام والعشق ، وكلها لآلئ متفاعلة مع بعضها البعض لتسلب لب المتلقي ، وتذهب به في يسر وسهولة .
وبين هذه اللآلئ وجدت أن إحداها مختلفة عن الأخريات ، وهي تحمل عنوان " حبيبتي يا أمي " ، يتحدث فيها عن الأم التي هي مصدر الحنان ، والأمان ، والدفء ، والحياة ، وأنه حين فقدها ، ضاع منه كل شئ .
فقدت الحبيــب بفقد أمي فما عـاد لي من يخفف همّيِ
وما عاد لي بين هذا العباب مـرفـأ أمن بصــاخب يمِّي
وما عدت ألقى من الناس عينا لتحرس خطوي عليه تسمِّي
فقدت الحنان ودفء الأمان وحبا تسـامى بـروحي ودمَّي
يرى أنه بفقده لها ، لا يجد المرفأ الذي يرسو عليه حين يحتاج ، ولم يجد من الناس ، من يحل محل أمه ، لأنه فقد الحب الذي بين جوانحه .
ويسرد لنا الشاعر ما كان من أمه منذ طفولته ، من حنو عليه ، والوقوف إلى جانبه في الملمات تناصره ، وتشد أزره ، حتى اشتد عوده ، لكن يستدرك الشاعر أن هناك من أعطى له بعض الحنان :
ولكن عزائي بأني وجدت ببعض الحنان بخالي وعمي
وفي نهاية خريدته يدعو الله أن يسكنها جنة الخلد :
دعوت إلهي ومازلت أدعـو
وطـول حياتي ومادام نسْمي
بألف دعاء لرب الجنـــان
بأن تسـكني جنة الخلد أمي
وأرى أن في القصيدة بعض الأخطاء العروضية مثل :
وما عاد لي بين هذا العباب مرفأ أمن بصــاخب يمِّي
نجد أن التفعيلة في الشطر الثاني غير سـليمة ، ولو وضعت كلمة ( مرافئ ) بدلا من كلمة ( مرفأ ) لاستقام الوزن . ومثلها :
وفي إخوتي وهم منك بعضي وربِّيَ أوصى .. بوصل رحمي
نجد أن التفعيلة الأخيرة في الشطر الثاني غير سـليمة ، وضعها ( فعْلُن ) بدلا من ( فعولن ) .
وهناك الكثير من حرف الباء الزائد ، والذي لو حذف لاستقام المعنى بدونها ، منها : ( ولما صحوت وجدت بأني ) ، نجد أن الباء في ( بأني ) زائدة يمكن الاستغناء عنها ، ويســتقيم المعنى ، وكذلك ( وضمي برأسي لصدرك ضمي ) ، باء ( برأسي ) زائدة ، و باء ( بأني ) في ( ولكن عـزائي بأني وجدت ) ، وكذلك بــاء ( ببعض ) في ( ببعض الحنان بخالي وعمي ) .
كما أن هناك خطأ إملائيا قد يكون ناتجا من النسـخ ، في ( تعيد إلي مَضَئـِي وحسمي ) ، وصحيحها ( مضائي ) .
حقيقة أن الغوص في بحر عدنان البرازي متعة حقيقية ، لكن لضيق المساحة الممنوحة لي ليس لدي سوى أن أخرج من هذا اليم متألما لخروجي ، وأستطيع أن أقول أننا أمام شاعر فيـَّاض ، عطـَّاء ، قد أثبت وجوده على الساحة الأدبية في مصر ، ولقد شهد له الكثير من الشعراء والنقاد الأماجد أمثال : محمد التهامي ، وجدي شبانة ، يسري العزب ، د. عبد الولي الشميري سامية عبد السلام ، الورداني ناصف ، وغيرهم .
وفي نهاية شهادتي ، أشهد وأقر أنني قد استمتعت طويلا بأشعار عدنان البرازي ، سواء في المنتديات الأدبية ، أو من خلال دواوينه المطبوعة أو المخطوطة ، والتي زادت عن الثلاثين ، وإنني أحييه من قلبي ، وأقول له :
يا شــاعر الحب سر دوما إلى الفجر
وانثر هوى العشق في جوانحي تسري
الشـعر في قلبك الأيـام تـُجليـــه
فيســتوي في الأرض بلا كســـر ِ
ويرتقي ســحب الحيـــاة في ألق ٍ
ويعتلي أفق الســماء في يســـر ِ
ومن قصـــيدك يشدو الطير مجتمعا
يهــــزُّ سمع الأكوان .. بلا أمـر ِ
فالأرض من هولـــها وقفت ولم تَدُر ِ
هل عطـِّلـَتْ في مدارها بلا ســحر ِ
كذا السَّــــماء قد انتشت وزخرفها
وأقسـَـمت أن ترتــوي إلى الفجر ِ
والنجم يــــهوي يقبل القصيد هوىً
ويرفع البشــرى بصادق الشــعر ِ
وتشرق الشمس في غسق الدُّجى فرحا
مُرْسـلة عذرها فــورا إلى الــبدر ِ
آسـفة يا بــــدر العشق يـأمرني
وقـد مـلا قلـبي ولـم ولـن أدري
والظلمة الظلــــماء كلـها نصعت
والبدر يرضى بما جرى وما يـجري
يا شـــاعري الشعر إلهام برحلتنا
من بـادئ الدنيـا لموعد الحشــر ِ
الشـعر عشــــق بلا خطيئة تبدو
وفيــهِ ما فيــهِ من كـرٍّ ومن فرِّ
يا شاعري في ربوع الكون سر لا تقف
وارفـعْ لواءك في مـواطن الفـخر ِ
أنت الإمــــام لأهل العشـق قاطبة
تروي به الأرض من شـبر ٍإلى شبر ِ
فكن لنا نجـــوى نُعلي بها صوتا
وكـن لـنا كلُّ مرغــوبٍ ومفـتخر