مجلة"المعهد العلمي السعودي" .. ولمحات من مذكرات الشيخ عبد الله خياط
من الواضح تماما أن (السياسة) كانت تمثل (محظورا) أو خطا أحمر لا يجوز الاقتراب منه .. تبين لي ذلك وأنا أقرأ مذكرات الشيخ عبد الله خياط – رحم الله والديّ ورحمه – إمام الحرم المكي سابقا .. ويتضح الحذر من الحديث عن السياسة .. من تركيز الساعين إلى إصدار مجلة المعهد العلمي السعودي،على أن المجلة لن تتعرض للسياسة من قريب ولا من بعيد !! ومع ذلك لم يحصلوا على (إذن) بإصدار المجلة .. يقول الشيخ عبد الله ...
(مجلة المعهد العلمي السعودي :
لو لم يكن للمعهد من فضل بعد الله علي طلابه إلا أنه بصرهم بالعقيدة السلفية،وغرس في نفوسهم الأخلاق الإسلامية لكفاه شرفا وفضلا ورفعة.
غرس فيهم خلق الوفاء لماضيهم،الماضي الذي كان من أنضر عهودهم وأغلى أيامهم،فلقد كانوا حتى بعد تخرجهم واشتغالهم في الحياة العلمية وتحمل المسؤوليات كانوا يتواصلون ويتعاطفون،ويضربون للقاءاتهم مواعيد يستعرضون فيها الماضي،ويفكرون فيما يصلح شأن مجموعتهم ويرفع من شانهم.
ومن بين تلك اللقاءات لقاؤهم للتفكير في إصدار مجلة باسم"المعهد العلمي السعودي" تخليدا لذكره ووفاء بعهده،وقياما ببعض الواجب نحوه،وتقديرا لمديره وأساتذته الذين كان لهم الفضل بعد الله في إخراج طلاب إلى الحياة العملية يخوضون غمراها بعلم ودين.
تحديد موعد اللقاء :
في عام 1351هـ اجتمع خريجو المعهد بدار الأستاذ الكبير المربي الفاضل الشيخ إبراهيم الشوري،وتداولوا الرأي في موضوع إصدار المجلة،وتمخض الاجتماع عما يأتي :
1 – موافقة الجميع على مشروع إصدار مجلة باسم المعهد العلمي السعودي.
2 – يتولى إدارتها صاحب اللمحات.{الشيخ عبد الله خياط}
3 – يتولى رئاسة تحريرها الأستاذ أحمد علي الكاظمي.
4 – يقوم بتقديم الطلب إلى المقام السامي مدير المجلة ورئيس تحريرها.
وقام صاحب اللمحات والأستاذ الكاظمي بتقديم الطلب لسمو النائب العام آنذاك وأوضحا هدف المجلة،وهو نشر الثقافة العامة الدينية والأخلاقية،وعدم التعرض للسياسة من قريب أو بعيد،وأرسل الخطاب بواسطة البريد وكان ذلك في 3/9/1351هـ.
ومرت الأيام وتلتها الشهور،وأشرق عام 1352هـ فانضم إلى أساتذة المعهد سيادة السيد محمد حسين كتبي،وعلم بفكرة المجلة فاتصل بالمسؤولين عنها،ثم اجتمع بهما في داره وتداولوا الرأي في موضوعها وقر القرار على ما يأتي :
1 – أن تصدر المجلة على رأس كل شهر عربي.
2 – مهمتها نشر الأخلاق الإسلامية والدعوة إليها.
3 – مبدؤها وهدفها قول الله تعالى : ((واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا)).
4 – تكون موضوعاتها بعيدة عن السياسة.
5 – تشكل لجنة للإشراف عليها مكونة من :
أ – فضيلة الأستاذ الشيخ إبراهيم الشوري مدير المعهد ووكيل المعارف "رئيسا"
ب – سيادة السيد محمد حسن كتبي المدرس بقسم التخصص بالمعهد "عضوا".
جـ - صاحب اللمحات مدير مدرسة الباب "عضوا".
د – الشيخ ياسين فطاني سكرتير رئاسة القضاء "عضوا".
هـ - الأستاذ أحمد علي الكاظمي مدير مدرسة المعابدة "عضوا".
ومهمة هذه اللجنة هي تزويد المجلة بالمقالات والأبحاث،وعموم الطلبة في المعهد وكذا المتخرجون منه يعملون لصالح المجلة ورفع مستواها.
ويتولى العمل في هذه المجلة :
1 – مدير المجلة "صاحب اللمحات"
2 – رئيس التحرير "السيد محمد حسن كتبي"
3 – سكرتير التحرير "الأستاذ أحمد علي الكاظمي"
4 – أمين حسابات المجلة "الأستاذ عبد الحميد حامد" رحمه الله.
وبقدر تلهف الجميع ليوم إشراق هذه المجلة فقد ظلت الأيام تمر دون أن يسمع عنها ما يبشر بيوم صدورها حتى كان عام 1354هـ دخل على صاحب اللمحات في مدرسة حارة الباب شرطي من مركز الشرطة في نفس الحي وصوت حذائه مزعج مقلق،بل ورؤيته كانت غريبة في المدرسة خاصة،وقد جاء ليصطحب المدير إلى المركز،ويقول له : أنت مطلوب الآن فقم معي. ولم يكن صاحب اللمحات قد سار إلى جانب شرطي يوما ما يقتاد كما يقتاد المجرم،والناس في الحي يشهدون هذا المنظر الغريب ويتهامسون "سحبوا المدير إلى المركز".
وكان في المركز ضابط لم يتنازل حتى برد السلام أخذا بمبدأ العظمة الكاذبة التي يتقمصها بعض الناس لا لشيء. وفي الحال أبلغ المدير أنه مطلوب الآن إلى الأم العام،ولم يشأ صاحب اللمحات أن يستوضح منه احتقارا له،وذهب توا إلى الأمن العام،وهناك وجد ضابطا آخر بدأه بقوله : هل أنت عبد الله خياط؟،فرد عليه بالإيجاب. فقال : إن المجلة التي طلبتم إصدارها باسم المعهد لم توافق عليها النيابة.فأعطاه صاحب اللمحات ظهره احتقارا لعجرفته وصلفه،وأظن أنه لم تكن مأساة لرجل أدين بشيء أبشع من هذه المأساة التي عاشها صاحب اللمحات مع الشرط ورؤسائهم،إلا أن المدان كان يوضع في يديه "كلبشة"،ويسحب من حارة الباب إلى مقر الأمن العام بجوار الحرم مخفورا.
وبالمناسبة مناسبة هذه المأساة يذكر صاحب اللمحات أنه أقبل على المسجد الحرام ليخطب خطبة الجمعة،فصاح بالسائق شرطي المرور قائلا : "ارجع وراك حرك بسرعة". قال السائق : إن معي خطيب الحرم،فرد عليه الشرطي بنفس الرد الأول : "ارجع وراك حرك بسرعة" فأطل الخطيب على الشرطي،وقال له : أنت مسؤول،وسوف أعود الآن من حيث أتيت وأقدم فيك شكوى : قال الشرطي : انزل من السيارة وامش على رجلك. وكانت المسافة بعدية،وما انتهت المأساة إلا بصياح العريف على الجندي : "خله خله". فاستجاب مرغما وهو يبدي غيظه وحنقه لعدم تنفيذ أمره.
وكم لبعض أفراد الشرط من مآس مع الناس فليت سعادة مدير الأمن العام يتفضل بوضع برنامج للتوعية بأدب السلوك يتعلمه أفراد الشرط ليحسنوا معاملتهم للناس،ويأخذوا بتوجيه الإسلام حيث يقول رب العزة : ((ادفع بالتي هي أحسن))...){ص 47 – 49 لمحات من الماضي : مذكرات الشيخ عبد الله خياط) / عبد الله بن عبد الغني خياط / الرياض / دارة الملك عبد العزيز / الطبعة الأولى / 1425هـ }.
اللمحة الثانية التي نقتطفها من مذكرات الشيخ،من رحلة إلى الشفا ... في الطائف ... وبعد أمنيات كثيرة بإنشاء مصحة لمرضى الصدر .. وتعبيد الطرق .. وإنشاء مدارس .. إلخ... وبينما كان الشيخ وأحد رفاقه يتحدثون عن تلك الأمنيات .. (إلا وأشعة الشمس قد أصلتنا بحرها فعدنا أدراجنا يتقدمنا الأدلاء الخريتون،وعلى الرغم من أن الطريق أضحى لدينا مألوفا إلا أن الحاجة كانت ماسة إلى الأدلاء لتخليصنا من الأحراش وهدايتنا إلى أقرب المسالك وأسهل المنافذ لنصل إلى الموضع الذي أقمنا فيه،وكان من أدب الأدلاء أنهم يسيرون خلفنا،ويتركون لنا الحرية في اختيار الطريق،وعندما يلاحظون أننا سوف نتورط في مزلق أو نحيد عن الجادة المطروقة يوجهنا أحدهم في بساطة وسماحة : "من هنا يابا". بساطة وسماحة لا يعرفها أو يتعشقها إلا من سكن هذه الأجواء الفطرية الطليقة،وعاشر أهلها وتذوق بذوقهم،ولقد نسينا يومها أو تناسينا الألقاب إذ لم يطرق سمعنا طوال اليوم غير كلمة"يابا"فلا فضيلتكم،ولا سعادتكم ولا سيادتكم ولا حضرتكم،ولا شيء من تلك النعوت التي أصبحت من مستلزمات الحضارة،فذكرني ذلك بقول معالي الأستاذ محمد عمر توفيق في إحدى كلماته التي كان يكتبها في جريدة البلاد تحت عنوان"ذكرى"حين تحدث عن الألقاب ووصفها بأنها : "طراطير توضع على رؤوسنا في بادئ الأمر،ثم لا تلبث أن تغدو هذه الطراطير من ملتزمات حيانا بحيث لو نزعت لشعرنا بالنقص،فما أسعدنا لو نزعنا هذه الطراطير من تلقاء أنفسنا،وعدنا إلى عهود الفطرة وعشنا مع البساطة والسماحة،فما أجمل أن يدعى المرء باسمه مجردا،وأن أوغلنا في التعريف أضفنا اسم الأب إلى الاسم أو الكنية،ولن نحتاج بعد ذلك إلى إضافة طراطير جديدة".وعدنا إلى موضع مقامنا .. ){ص 284 - 285}.
من "الطراطير / الألقاب"إلى حديث الشيخ عبد الله عن الشيخ محمد بن مانع،والذي كان مديرا للمعارف في فترة من الفترات .. فبعد إغلاق مدرسة الأنجال عاد الشيخ إلى مكة .. (مستشارا للتعليم إلى جوار فضيلته {محمد بن مانع} وفي الغرفة الخاصة به وقفت على الكثير من مواهبه العلمية،والسيرة التي كان يسلكها في عمله،وعلى سبيل المثال لا أنسى أن فضيلته كان يقابل كل مراجع من المدرسين أو مديري المدارس بسؤال علمي لعله يكشف عن مقدرته العلمية،كان إذا غشي مجلسه مدرس أو مدير يواجهه بمجموعة من الأسئلة في حدود اختصاصه،فإن كان اختصاصه في اللغة العربية قال له : "أعرب هذا المثال،أو اقرأ هذه العبارة صحيحة". وهكذا فإن كان مسددا في إجابته وقليل ألئك الذين يصادفهم التوفيق لأن لكل قادم دهشة،إذ لم يدر بخلده أن مدير المعارف سوف يضعه موضع التلميذ يختبره في حصيلته،إن كانت الإجابة مسددة أثنى عليه ونظر في طلبه،وإن كانت على العكس ردد على مسامعه : لا،الفِكْر خَوّان. ثم أوضح الإجابة ويغادر المسؤول المعارف وهو يعض بنان الندم لإخفاقه في الإجابة،(..) ومن الطريف أن مراجعا قدم عليه في مطلب عاجل فواجهه بسؤال في النحو وآخر في الفقه وكان المدرس حاد المزاج فَجَابَه الشيخ بقوله : " يا مولانا هل تحسبني عالما مثلك،إنني مدرس ،في حدود اختصاصي ناجح،ولديكم تقارير المفتشين عني إن كنتم في شك من مقدرتي،ولم تسند إليّ هذه الوظيفة إلا باجتيازي الاختبار،فهل الاختبار ما برح يلاحقني وأمام مدير المعارف أيضا؟". وطال الحوار بينهما فقمت بوساطة خير أنهت الأمر وخرج المدرس وهو يردد : حسبي الله ونعم الوكيل،إنا لله وإنا إليه راجعون".
أتحسب أن فضيلته حقد عليه؟ لا،بل استدعاه في اليوم الثاني وقضى حاجته ..){ص 353 - 354}.
نختم "لمحات اللمحات"هذه بموقفين .. لأستاذين من أساتذة الشيخ"عبد الله" .. الأول هو الشيخ محمد بن علي البيز .. (وحدث في حصة شيخنا البيز عندما كان فضيلته مشتغلا بالنظر في الكتاب لتقرير مدلول عباراته،حدث أن اجتاز المعهد بائع بليلة يرفع صوته بالتنويه عن بضاعته ونوافذ المعهد لم ترتفع عن الأرض إلا قليلا،فاستدعى طالب بائع البليلة واشترى منه وأعطاه الثمن،وأخذ يلتهم البليلة بشره فتعالت ضحكات الطلاب،مما لفت نظر فضيلته،فقام من منصة الأستاذ إلى حيث يقعد الطالب فانتصب له الطالب وحياه بتحية عسكرية كما يحي الجندي رئيسه معتذرا بقوله : عفوا فإني لم أشرب اليوم مذقة لبن،أو أطعم تمرة. واختار الطالب اللبن والتمر دون سائر القوت لأنهما طعام الأستاذ أيدور بخلدك أن فضيلته اشتد على الطالب في المؤاخذة أولا لضياع الفائدة،وثانيا لاختلال نظام الفصل واشتغال الطلاب بالضحك وخروجهم عن اللياقة أمام الشيخ؟ لا لم يكن شيء من ذلك،ولكنه كعادته وجريا على خلقه أخذ يردد على مسامع الطالب : الله يهديك،الله يهديك. قد يفسر بعض الناس ذلك بضعف المعلم وعدم قدرته على التأثير في الطلبة بشخصيته أو بحزمه (..) لا إنه لم يكن شيء من ذلك،فشخصية فضيلته قوية ..){ص 324}.
ومن الأستاذ"البيز" إلى أستاذ آخر .. وتعامل "آخر" ..أما الأستاذ فهو فضيلة الشيخ سليمان أباظة الأزهري .. (.. فإذا سمع مثلا في الفصل صوتا غريبا كفتح درج مقعد من مقاعد الطلبة خلع نظارته من عينه وترك النظر في الكتاب،والتفت إلى الجهة التي كانت مبعث الصوت،وخاطب الطلبة بقوله : "الحركة دي من النيحا دي،فمن الذي قام بها؟ ومن هو باعثها؟". وعندما يصمت الطلبة يبدأ بإخراجهم من الفصل واحدا إثر الآخر،وقد يُخرج أكثر الفصل إذا لم يعلم بمصدر الحركة أو الذي قام بها،ولقد أخرج ذات مرة عشرة من الطلاب وبقي معه في الفصل خمسة،ومر بهم مدير المعهد فلم يستطع حل الأزمة،ومضى في طريقه خشية من غضب الأستاذ إذ يرى ذلك تدخلا في غير صلاحيته،وبالمناسبة أذكر أن طالبا أمره الأستاذ بالخروج من الفصل فامتنع فترك الأستاذ المنصة وأقبل على الطالب ليخرجه بالقوة،فهرب الطالب إلى ناحية أخرى في الفصل فلحق به الأستاذ حتى أمسك به،ودفعه من الفصل دفعة شديدة،ثم قال الأستاذ كلمته المأثورة : "الدهن في العتاقي". بالهمزة لا بالقاف... ){ص 339}.
ومع العتائي التي فيها الدهن ...أوالدهن الذي في العتائي .. أنهي هذه الرحلة الممتعة في مذكرات الأستاذ أحمد علي الكاظمي .. والشيخ عبد الله خياط .. رحم الله والديّ ورحمهما رحمة واسعة .. وآن لي أن أعيد الكتابين إلى مكتبة الجامعة ..
س/ محمود المختار الشنقيطي – المدينة المنورة في 5/1/1433هـ
((سفير في بلاط إمبراطورية سيدي الكتاب))
Mahmood-1380@hotmail.com