للصمود مقوماته ،وأدواته ، يستمد منها التواصل ،والعنفوان ،والصبر ، ويقاتل مدفوعاً بأبجدياته ، وحتى لا تنكسر إرادة الصمود ،فإنه يحتاج للزيت الذي يوقد مشاعل الأمل بالبقاء .
إنها قصة صمود أطلت بليلة غائمة من ليال النكبة ،التي أعد لها الرجل الأبيض ،القادم من اتفاقيات سيكس – بيكو ،وزلزالها الذي دون بسلم الانتداب للشعوب الغير مؤهلة للحياة ، كما أقرت مواثيق عدالتهم .
هذه الليلة التي لا زالت ذاكرة اللاجئ ترسم ألامها بدماء أبنائه ،وجراح حنينه لوطنه ، وفراقه لترابه .
يعود ثمان وخمسون عاماً بذاكرة التاريخ ، ليقرأ استغاثة ونداء من تطحنهم طواحين الزمان المقنعة بالوشاح الأسود ، لتدون بسجلات "الأونروا " شطب لاجئ من سجلات المساعدات الإنسانية .
تبدأ القصة من نداء واستغاثة لكاتبه وشاعرة فلسطينية " سارة رشاد " وهي تدون علي صفحات التاريخ استغاثة لجوئها الذي فقد ذاكرته ، بفقدان الوالد والأخ ، ولكنها تبعثه للحياة كلما بحثت تتفحص هويتها وانتمائها ، لتجدها مدونة علي صفحات وثيقة سفرها الصادرة من جمهورية مصر العربية ، والتي وهبت ميزات لا توهب لغيرها " بعدم الاعتراف بها من صادرها " .
سارة رشاد تستغيث بالكلمة والصوت ، بعد ثمان وخمسين عام ... طحنت به آلاف الاستغاثات ، التي وريت التراب ، ولم تهز سوي جنبات القبور التي طوت وخزات الضمير ، كما وأدت استغاثات اللجوء في جرش ، وصبرا وشاتيلا ،وغزة ، وها هي بغداد تستصرخ وتستغيث .
من هنا إلي هناك استغاثات من فقدوا وطن ، ومن لاحقتهم نيران الغربة والفراق ، الباحثين عن ملجأ آمن يخط رحلة العودة المنتظرة مع قدوم جيوش التحرير ، التي لا زالت تحقق التوازن العسكري ،وتحشد السلاح للمواجهة ، مواجهة العودة ،ونصرة وطن اسمه فلسطين .
فأي استغاثات تلك أيتها الفلسطينية تستغيثي لأمة غابت عنها شمس الحقيقة ،وأظلمت سمائها بغيوم سوداء كاحلة ، لا يخترقها الضوء ، وقلوبٍ صماء " لا تصغي ولا تسمع أي نداء " ، فكلما تذكرت اللجوء ، دونته عنوان عريض يزتان بالألام ، وشكلت أحرف هجائه بالدماء والجراح ، وعلينا أن نستكمل أبيات قصيدته ... صامدون كغصن الزيتون .
فأهل القبور ينتظرون الحساب ، بين أيدي الرحمن ، ونحن أبناء اللجوء ننتظر الحساب كعقاب علي لجوئنا ، من أولئك الذين يتلحفون بالأقنعة السوداء ، يتضاحكون .. يتسامرون ، يتلذذون .. علي صرخاتنا ، وصهوات عذاباتنا ، كأنغام تشدو ألحان عذبة تنطرب لها قلوبهم وأذانهم .
فلمن نستغيث أيتها اللاجئة ، فالمعركة حامية الوطيس ، يقودها وزراء يتباكون علي شرف التمثيل في المؤتمرات ، ويعلنون خلافاتهم عبر وسائل الإعلام لنصفهم اللاجئين ، قادة يرسمون الموت بشوارع ومخيمات الوطن ،لأن قضيتهم اسمي واكبر من استغاثات اللاجئين . وأمة تحيا عاجزة ، تضمد جراحها ، وتكفف دموعها ،وتداوي همومها ، لا تملك سوي الدعاء والاستغفار .