صمت شعبي أم قلة حيلة ؟
في المجتمعات البدائية، يبدي كل عضو في المجتمع رأيه بما يجري حوله، ويستطيع معرفة كل الدخلاء على مساحة ذلك المجتمع المحدود، كأن يتعرف أهل الحي على غريب يدخل الحي، وينشغل كل من يراه بمعرفة دوافعه لدخول الحي، وسرعان ما يفلح في معرفة تفاصيل دخوله، وإن لم يعرف فإنه يستنهض همم الآخرين في مساعدته لمعرفة ومعالجة وجود ذلك الغريب، وإن كان الغريب تائها فإن من في الحي يوجهه نحو وجهته السليمة، وإن كان ضيفا أو قاصدا خدمة ما فسرعان ما يقوم أهل الحي بتلبية طلبه، وإن كانت نواياه خبيثة فإن يقظة أهل الحي ستعالج وجوده أو تحاول، كما تقوم أجهزة المناعة في الجسم بمحاصرة ميكروب غريب .. هذا في المجتمعات البدائية ..
في النصف الأول من القرن العشرين، كان أفراد المجتمعات العربية ينقسمون الى قسمين ( وطني ولا وطني) .. لوضوح الخنادق فهذا خصم غريب ونواياه سافلة وهذا من أبناء الوطن الرافضين لذلك الغريب الخبيث ..
تطورت الرؤى وتداخلت، فهذا معتدل وهذا واقعي وهذا راديكالي وهذا ليبرالي وهذا رجعي الخ .. حتى غدا أبناء الأمة وكأنهم يركبون سيارات غير متقنة الصنع في شوارع مزدحمة بسيارات متشابهة في رداءة مصنعيتها ودون رقيب أو ناظم لحركة تلك السيارات ..
كان الناس يخرجون للشوارع ويتظاهرون ويعبرون عن سخطهم لما يجري في الجزائر وفلسطين وجنوب اليمن والمحميات في الخليج ويتظاهرون ضد الأحلاف المشبوهة، وكان قسم منهم يعلق آمالا على حكومات ظن أنها قادرة على التعبير عما يدور في خلده، حتى جاءت نكبة حزيران 1967 فخسر المواطن رهانه على أي حكومة عربية (حتى لو كانت وطنية) ..
ثم علق المواطنون آمالهم على ردة الفعل الثورية، فكان مع المقاومة الفلسطينية، وأي تغيير في أي حكم عربي، فتشعبت فصائل المقاومة، واختلفت الحكومات الوطنية فيما بينها، وبقي يراهن على أن هناك فرصة تاريخية للملمة كل الفصائل الوطنية وخلاص الأمة مما هي فيه ..
وتوالت الأحداث، وكثر الانشطار فيما بين الفصائل الوطنية. وبالمقابل لم يترك أعداء الأمة من صهاينة وإمبرياليين الفرص إلا واستغلوها أحسن (أو أسوأ) استغلال، حتى تعمقت هزائم الأمة .. وأصبحت الواقعية (أعقل) حالة ممكن أن يتعاطى معها أي نظام حكم (قطري) عربي ..
لم تؤخر المظاهرات احتلال العراق، ولم ينفع الحديث عن الكيل بمكيالين وانحياز الغرب لأعداء أمتنا (فكل ذلك أصبح معروف) .. ولم تفد الشتائم والحوقلة مما يشاهد مواطننا ما يجري في فلسطين المحتلة، شعب فلسطين الذي لم يعد يعلق آمالا حتى على مشاعر أشقاءه المفلسين من أي حل يفيد قضيته ..
فيتكلم الناس عن صمت شعبي غريب، ويتساءلون : ماذا جرى للشارع العربي؟ وماذا جرى للحكومات العربية؟
وتأتي الأجوبة (الحكومية) : نحن دولة لنا سيادة وبينها وبين العدو اتفاقية، ولم يشاورنا أحد على خوض حرب مع العدو الصهيوني، ولو شاورنا لقلنا له : إن الظروف الدولية ليست في صالحنا، وكذلك موازين القوى!
أما أجوبة المثقفين الذين يفلسفون تصرفات حكوماتهم : ألم تتوقع حماس تلك النتيجة؟ ويدخلون بتفاصيل في منتهى الدقة، شاكرين ـ في سرهم ـ حماس وفتح التي أوجدتا لهم مخرجا ليتملصوا من مسئولياتهم الأدبية والوجدانية تجاه قضية الأمة المركزية (فلسطين) ..
أما المواطن فيبقى يحوقل ويشتم فاقدا الحيلة لنصرة أخوة له حتى لو بالكلمة، ألم يدرك أبناء الأمة أنهم حتى لو أصبحوا مليار نسمة، لن يفيدهم عددهم إن لم يتقنوا رصف أنفسهم بتنظيمات تساعدهم في التعبير عما يجول في خاطرهم سواء بالكلمة أو بغيرها؟