كما أن الدموع دليل على ما يضطرب في النفوس من ألم وشقاء؛ كذلك فإن الضحك والابتسام تعبير عما يخالج هذه النفوس من سعادة وسرور، وأن يضحك المرء كل يوم عشر دقاق ضحكاً عميقاً خير ألف مرة من أن يتناول دواء ما، ذلك أن الضحك يقتل التشاؤم واليأس ويقضي على الهموم.
ولقد جعل الله في هذا الكون أناساً ظرفاء ذوي روح مرحة؛ وأناساً عابسين مقطبين، ولعل ذلك من أجل أن يقوم الظرفاء بإدخال البهجة والسرور إلى نفوس العابسين.... وكما تشتهر مدينة دمشق بروعتها وعظمتها، وتفاخر بأوابدها الأثرية ومعالمها البديعة ومكتباتها الغنية ورجالاتها العظماء، كذلك فإنها تتباهى أيضاً برجالها الظرفاء الذين رحل أكثرهم عن عالمنا وبقي القليل. والرجل الظريف هو الإنسان القادر على إدخال البهجة الى نفوس الآخرين، وهذا لعمري فن يحتاج الى موهبة ومقدرة، فالظرف والظرافة وطلاقة الوجه وزلاقة اللسان مواهب فطرية؛ لا يستطيع المرء أن يكتسبها بالدرس والمران... وينبغي لمن يمتلك هذه الموهبة أن يكون محباً للنكتة متذوقاً لها ومتقناً لأدائها والتعبير عنها... من هؤلاء الرجال الظرفاء الذين غابت برحيلهم مجالس الضحك والأنس والمرح: غسان الألشي ـ عادل ياسين ـ د. عبد الوهاب القنواتي ـ عبد الحميد المالح ـ عبدو بك العابد ـ أبو سليمان الجيرودي ـ عبد الوهاب قطرميز.... ونظراً لندرة هذه الصفة بين الناس، فقد كان الظرفاء إذا ما اجتمعوا تنشأ بينهم فوراً علاقة قوية، حتى إن ظريفين من ظرفاء دمشق قد التقيا وشكلا معاً ثنائياً ظريفاً؛ هما فخري البارودي وحسني تللو... كان فخري الباردوي زعيماً وطنياً وموسيقياً بارعاً وظريفاً فريداً، وكان رجال السياسة والصحافة والفن والأدب يؤمون داره في حي القنوات للاستماع الى النوادر والقصص الضاحكة التي لا تنتهي إلا مع طلوع الفجر؛ ورغم براعة فخري البارودي في الضحك والإضحاك إلا أنه كان عصبياً جداً... ومن طرائفه الشعرية أنه ذات يوم من العام /1950/ نزل في فندق في بيروت، فأرقه صوت الموسيقا من ملهى مجاور، ولما هدأت الموسيقا وبدأ السكون ظهر صوت ألحان يصدرها صرصور ثقيل، وكان البارودي كلما ترك سريره ليبحث عن مصدر الصوت سكت الصرصور، وكلما عاد لينام استأنف الصرصور غناءه، فأمضي البارودي ليله غاضباً ساهراً وفي الصباح كتب الأبيات التالية: يا ليلة النحس في بيروت خالفني فيها النعاس وكرب النفس مشؤوم في أول الليل صوت (الجاز) أرّقني والقلب في الصدر مهموم ومغموم ما كاد يسكت قرع الطبل واأسفي حتى سمعت صريراً كله شوم في غرفتي حلّ صرصور فأقلقني الجسم من صوته المسموم، مسموم يصرّ صريراً، فإن أنهض لألقطه يسكت، وإن نمت يستهويه ترنيم وإن رجعت أعاد العزف متصلاً كأن ترنيمه للغيظ تنغيم وليلة لم أذق طعماً لغفوتها قضيتها، وأنا بالغيظ محموم أما حسني تللو فقد كان على عكس رفيقه البارودي، إذ البارودي رفيع نحيل؛ وتللو سمين مكوّر، والبارودي عصبي الى درجة الانفجار؛ وتللو بارد هادئ الى حد الصقيع، البارودي يتحدث بسرعة مئة كلمة في الدقيقة، بينما تخرج الكلمة من فم حسني تللو متباطئة متثاقلة، كأنه يلوك بفمه لقمة كبيرة لا يستطيع بلعها... من نوادرهما معاً أنه في إحدى سهرات الشتاء الباردة، دخلت ذبابة الى مجلس البارودي وأخذت تحوم حوله وتزعجه؛ وهو صابر لا يتحرك، إلى أن وقفت الذبابة على أذنه، فغضب وصاح: ـ ياناس... ياعالم... ذبابة في عز الشتاء والبرد؟ فنظر الجالسون الى حسني تللو يترقبون جوابه، وأخذ تللو يحملق بفخري البارودي، ثم قال بعد صمت طويل: ـ لماذا أنت مستغرب فخري بك؟ لعلّها مرتدية كنزة صوف. ومن ظرفاء دمشق أيضاً ظريف مازال حياً، أطال الله عمره، ومازالت زيارته في داره القديمة في حي القنوات (مقابل دار فخري البارودي) تثير الغبطة، وتمنح السرور والبهجة؛ وهو السيد رجاء الشربجي... ولعلّه من الأمور المتميزة في حياة هذا الرجل أنه يؤكد أن الظرافة تورّث، إذ هو من سلالة أسرة ظريفة، فأبوه كان من عشاق النكتة ورواتها المتميزين، وهو اليوم في طليعة الظرفاء، ومن العجيب أن ابنه (عامر) أخذ ينافسه في هذا المجال، وهما اليوم يتراشقان النكات في السهرات والندوات. ومن طرائفه أنه كان يتردد على عيادة المرحوم الطبيب صبري القباني، وكان هذا الطبيب بسبب ضيق وقته يطلب من المرضى أن يخلعوا ثيابهم سلفاً استعداداً للمعاينة الطبية، فدخل يوماً رجاء الشربجي الى العيادة، فشاهد المرضى وهم شبه عراة ينتظرون دورهم للمعاينة، وما هي إلا أن خرج الطبيب ينادي على المريض التالي، فصاح رجاء الشربجي بأعلى صوته: ـ ما هذا يا دكتور، وإذا جاءك أحد أصابه وجع في عينه أو أذنه، أينبغي له أيضاً أن يخلع ثيابه، وإذا جاء موزع البريد ومعه رسالة، هل ينزع ملابسه كذلك. ولا يفوتني أن أشير إلى أن الظرافة بهذا السياق لا تقتصر على الأحاديث فقط؛ وإنما هناك ظرافة أدبية وظرافة اجتماعية وظرافة صحافية... وهذه الظرافات تجعل الإنسان ينفذ بحديثه وبكتابته وبابتساماته وحركات وجهه الى القلوب والعقول. وأخيراً فإن الكتابة عن المآسي والأحزان والجرائم المؤلمة أمر سهل جداً، وقد تستدر دموع القارئ بسهولة، وقد تدفعه للحنق والغضب، أما الكتابة عن فن الإضحاك فهذا أمر صعب جداً؛ إذ كيف يمكن أن نرسم بالقلم تلك الكلمة التي أضحت الملايين، وكيف نصف الوجه الذي يتحدث بالعيون والحركات الإيحائية قبل أن يتحدث بالفم؛ فضلاً عن تصوير الوجه الذي يبرع صاحبه في تقليد وجوه الآخرين... كان برنارد شو الذي بنى شهرته الواسعة، ومجده الأدبي التليد على الضحك والسخرية، يقول: «إن الابتسامة أصغر رشوة يمكن أن نقدمها الى من نحتاج اليهم في أمر». المراجع: 1 ـ حديث دمشقي: نجاة قصاب حسن. 2 ـ دفاع عن الضحك: عبد الغني العطري. 3 ـ رجال ظرفاء ورجال أشداء: الرحالة العربي السوري الدكتور عدنان حسني تللو.