(بالرغم من ضياع كثير من مؤلفات العلماء العرب والمسلمين في الفيزياء، فإن القسم الباقي منها، أثار إعجاب العلماء الغربيين، وجعلهم يعترفون بأصالة الدور العلمي العظيم، الذي ساهمت به الحضارة العربية والإسلامية في العلوم الطبيعية والتجريبية..).
بداية معرفة العلوم الطبيعية عند العرب والمسلمين
أرسل ملك الروم إلى أبي جعفر المنصور في منتصف القرن الثاني للهجرة عدة كتب في العلوم الطبيعية، فقرأها المسلمون واطلعوا على ما فيها، وازدادوا حرصاً على الظفر بما بقي منها، وجاء المأمون وكانت له في العلم رغبة فأوفد الرسل على ملوك الروم في استخراج علوم اليونانيين، واستنساخها بالخط العربي، وبعث المترجمين لذلك، فأوعى منه واستوعب.
ثم عكف عليها النظار من أهل الإسلام، وحذقوا في فنونها، وانتهت إلى الغاية أنظارهم فيها، وخالفوا كثيراً من آراء المعلم الأول أرسطو، واختصوه بالرد والقبول لوقوف الشهرة عنده، ودونوا في ذلك الدواوين، وأربوا على من تقدمهم في هذه العلوم.
وعرف من أكابر علماء العلم الطبيعي (الفيزياء) من العرب والمسلمين، أبو نصر الفارابي، وأبو علي بن سينا، وأبو الوليد بن رشد، وابن الصائغ، والكندي، وبنو موسى بن شاكر، وأبو بكر الرازي، والحسن بن الهيثم، والبيروني، والخازني، وابن ملكا البغدادي، وفخر الدين الرازي، ونصير الدين الطوسي، وقطب الدين الشيرازي... وغيرهم.
وقد خصصت هذه الدراسة لهبة الله (أبو البركات) بن ملكا البغدادي، الذي كان عبقرياً من عباقرة العالم الذين وضعوا الأسس الهامة وأضافوا الأفكار المميزة في علمي الطبيعة والطب.
الاعتراف بفضل العرب في الطبيعيات
قام علماء العرب والمسلمين بدور أساسي وطليعي في تطوير العلوم الطبيعية بعد أن استوعبوا ما نقوله من نظريات ومعارف عن الحضارات التي سبقتهم لاسيما حضارة الإغريق، تلك الحضارة التي تأثر بها العرب تأثراً بالغاً، وإن العالم ليدين للعرب بحفظ تراث الإغريق، وهذه حقيقة لا ينكرها أحد، وإنما ما يغفل البعض ذكره عن قصد أو تجاهل أو جهل هو ما استحدثه العلماء العرب والمسلمون من إضافات أصيلة وقيّمة في العلوم الطبيعية.
ترجمة ابن مَلكا
هبة الله بن علي بن ملكا البَلْدي أبو البركات، المعروف بأوحد الزمان، ولد نحو عام 480هـ/1087م وتوفي عام 560هـ/1164م من سكان بغداد، ونسبته البلدي إلى بَلْدَة الواقعة على دجلة شمالي الموصل.
عرّفه الظهير البيهقي بفيلسوف العراقيين، وقال إنه ادّعى أنه نال رتبة أرسطو، وعرف طبيباً وصيدلانياً وفيلسوفاً وفيزيائياً. اتهمه السلطان محمد بن ملكشاه بأنه أساء علاجه فسجنه مدة، لكن الخليفة المستنجد بالله أكرمه فحظي عنده وبصحبته بكل خير. ولد وترعرع على ملة اليهود، وفي آخر حياته أسلم، عرف بعدّة أمور تفوَّق فيها على غيره، منها معالجته الأمراض النفسية، وإتقانه للعلوم التطبيقية، حتى صار حجّة وإماماً للعلماء المسلمين في هذه العلوم.
يذكر عنه أنه كان من كبار المتعصبين لليهودية قبل أن يدرس الإسلام ويعرفه فيسلم، وبعد إسلامه نقل عنه طلابه أنه كان يلعن اليهود ويسبّهم أمامهم، وقد ذكر ابن أبي أصيبعة في عيون الأنباء في طبقات الأطباء قصة إسلامه.. ، وذكر القفطي في كتابه تاريخ الحكماء قصة مغايرة لما ذكره ابن أبي أصيبعة في سبب إسلامه.
فقدَ بصَرَه في آخر حياته وتوفي بهمذان وعمره حوالي 80 سنة، وحمل جثمانه إلى بغداد ودفن فيها.
أخلاقه
الحق يقال.. إن لكل إنسان في حياته إيجابيات وسلبيات، ولم يبلغ أحد درجة الكمال إلا الأنبياء، لذلك أُخذت على ابن ملَكا بضعة مآخذ، أخذت عنه قبل إسلامه، منها كبرياؤه وقد وصفه بعضهم شعراً في ذلك..، لكن الإسلام صقل شخصيته وغسل كبرياء نفسه فاتصف بالصفات الحميدة المنتظرة من العلماء العاملين المخلصين.
وقد أجمع المؤرخون الذين كتبوا عنه أنه من العلماء الذين يفخر تاريخ الإسلام بنصائحهم المفيدة، والتي صار العلماء يتناقلونها واحداً بعد الآخر، ومن هذه النصائح والتي أوردها البيهقي في كتابه (تاريخ حكماء الإسلام) قوله:
ـ الخطيب هو الذي تصدر عنه الخطابة، ومن شرطه أن يكون متنسكاً متعسفاً فصيحاً بليغاً، يقدر على استمالة السامعين واستدراجهم، ويعرف أخلاق الناس، ويكلمهم على قدر عقولهم.
ـ الخير الحقيقي أربعة (العفة الشجاعة الحكمة والعدالة).
ـ سعادة الدنيا لطف الحواس.
ـ الشهوات أجر تستخدم بها النفوس في عمارة عالم الطبيعة لتذهل عما يلزمها من التعب، ويلحقها من الكلال، فأعلمها في ذلك أخسّها، وأزهدها أحسها.
مؤلفاته
يدهش مؤرخو العلوم من ثراء هبة الله بن ملكا البغدادي، ومن عمق مصنفاته الضخمة الحافلة بالمبتكرات والنظريات والآراء العلمية التطبيقية، تلك المؤلفات التي تعتز بها الحضارة العربية الإسلامية، وقديماً قال ابن أبي أصيبعة.. وتصانيفه في نهاية الجودة، فقد كان له اهتمام بالغ في العلم وفطرة فائقة فيها، ومن مؤلفاته:
1 ـ كتاب (المعتبر في الحكمة) عدة أجزاء، من أشهرها وأهم كتبه، تحدث فيه عن النبات والحيوان، والحكمة الإلهية، والطبيعيات، طبع منه الجزء الأول في حيدر آباد عام 1357هـ، وهو في الحكمة، ويوجد منه نسخ خطية في:
ـ دمشق ـ الظاهرية ورقمها 6789.
ـ طهران ـ مكتبة مجلس شوراي ورقمها 8417.
ـ استانبول ـ مكتبة أحمد الثالث ورقمها 3222
ـ استانبول ـ مكتبة أسعد باشا بالسليمانية ورقمها 1931.
ـ استانبول ـ مكتبة كوبريللي ورقمها 919.
ـ استانبول ـ مكتبة لا له لي ورقمها 2553.
ـ استانبول ـ مكتبة الفاتح ورقمها 3255.
2 ـ مقالة في سبب ظهور الكواكب ليلاً واختفائها نهاراً.
3 ـ اختصار التشريح من كلام جالينوس.
4 ـ كتاب الأقراباذين (ثلاث مقالات).
5 ـ مقالة في الدواء الذي ألفه برشعثا، استقصى فيه صفته وشرح أدويته.
6 ـ مقالة (أمين الأرواح)، في دواء على شكل معجون.
7 ـ رسالة في العقل وماهيته.
8 ـ كتاب النفس.
9 ـ كتاب التفسير.
العلم الطبيعي (الفيزياء) عند ابن ملَكا
يقول هبة الله بن ملكا البغدادي في كتابه (المعتبر في الحكمة):
(.. فعلى هذا يسهل طريق التعليم الحكمي الذي يكون بالنظر والاستدلال، وهذا القانون بعينه يستعمل في هذا العلم المسمى بالعلم الطبيعي المنسوب إلى الطبيعية، وهو المشتمل على العلم يساير المحسوسات من الحركات والتحركات والمحركات، وما مع الحركات وبالحركات والمتحركات وفي المتحركات من الآثار المحسوسة).
ويمضي ابن ملكا في الورقة الخامسة من نفس المخطوط يقول:
(.. وقوم سموا بالطبيعية كل قوة جسمانية، أعني كل مبدأ فعل يصدر عن الأجسام مما وجوده فيها، فتكون الأمور الطبيعية هي الأمور المنسوبة إلى هذه القوة، أما على أنها موضوعات لها، وكما يصدر عنها كالأجسام، فيقال أجسام طبيعية، وإما آثار وحركات وهيئات صادرة عنها كالألوان والأشكال.
والعلوم الطبيعية هي العلوم الناظرة في هذه الأمور الطبيعية، فهي الناظرة في كل متحرك وساكن، وما عنه، وما به، وما منه، وما إليه، وما فيه الحركة والسكون.
والطبيعيات هي الأشياء الواقعة تحت الحواس من الأجسام وأحوالها، وما يصدر عنها من حركاتها وأفعالها، وما يفعل ذلك فيها، من قوى وذوات غير محسوسة، فالعلم يتعرض لأظهرها فأظهرها أولاً، ويترقى منه إلى الأخفى فالأخفى..).
ابن ملَكا وعلوم الميكانيك
في كتاب ابن ملَكا (المعتبر في الحكمة) نصوص هامة تختص بحركة الأجسام، ومنها:
ـ أنواع الحركة:
يشير ابن ملكا إلى نوعين من الحركة، هما الحركة الطبيعية والحركة القسرية، حيث يقول: (... فإن الحركة أما طبيعية وإما قسرية، والقسرية يتقدمها الطبيعية، لأن المقسور إنما هو مقسور عن طبعه إلى طبع قاسره، فإذا لم يكن حركة بالطبع لم يكن حركة بالقسر، والطبيعية إنما تكون عن مباين بالطبع إلى مناسب بالطبع، أو إلى مناسب أنسب من مناسب..).
يقول د. علي الدفاع.. يقصد ابن ملَكا بالحركة الطبيعية حركة الجسم تحت تأثيره قوة الجاذبية الأرضية، حيث أن الجسم يسعى في طلب وضعه الطبيعي عند مركز الأرض، ومن ثم جاءت تسمية هذا النوع من الحركات عن تعريض الجسم لمحرك خارجي يجبره على تغيير مكانه أو وضعه، مثال ذلك رمي السهم أو الحربة أو الحجر.
ويؤكد ابن ملَكا هذه المعاني في موضع آخر من كتابه فيقول: (فبهذا يعلم أن لكل جسم طبيعي حيزاً طبيعياً، فيه يكون بالطبع، وإليه يتحرك إذا أزيل عنه، وهذا الحيز ليس هو للجسم بجسميته التي لا يخالف بها غيره من الأجسام، بل بصفة خاصة به هي طبيعية فقوة أو صورة خاصة بذلك الجسم، خصته بذلك الحيّز، وحركته إليه، فتلك الطبيعة الخاصة في ذلك الجسم مبدأ حركة بالطبع وسكون بالطبع، والتحريك النقلي المكاني إنما يكون عنها بعد سبب طارئ يخرج الجسم عن حيزه الطبيعي، فتحركه هي إليه.
يوضح ابن ملكا في هذا النص سمات الحركتين الطبيعية والقسرية، كما أنه يشير إلى وجود خاصية مدافعة الجسم عن بقائه على حاله، وهي بعض معاني القانون الأول للحركة، أو على وجه أصح قانون ابن سينا في الحركة والسكون.
- كمية الحركة:
كتب ابن ملكا عن حركة التساقط الحر للجسم تحت تأثير قوة جذب الأرض له، وأشار إلى أن حركة الجسم تتزايد في السرعة كلما أمعن الجسم في هبوطه الحر، بحيث أن تأثيره يشتد مع طول المسافة المقطوعة، يقول ابن ملكا:
(.. فإنك ترى أن مبدأ الغاية كلما كان أبعد، كان آخر حركته أسرع، وقوة ميله أشد، وبذلك يشج ويسحق، ولا يكون ذلك له إذا ألقي عن مسافة أقصر، بل يبين التفاوت في ذلك بقدر طول المسافة التي يسلكها..).
يقول د. الدفاع.. هذا قول صحيح تماماً إذا إن سرعة الجسم الساقط سقوطاً حراً (أي تحت تأثير الجاذبية الأرضية فحسب) تتزايد بحسب المسافة التي يهبطها الجسم، وبالتالي فإن كمية حركته (وقد عبر عنها ابن ملكا بقوة الميل) تزيد ويشتد تأثيرها، فالحجر الساقط من علٍ كلما كان موضع بدء هبوطه أعلى كلما كانت شدة وقعه أقسى، فيشج ويسحق على حد تعبيره.
- التساقط الحر للأجسام:
وقف علماء العرب والمسلمين على حقيقة تساقط الجسم تساقطاً حراً تحت تأثير قوة جذب الأرض، متخذاً في ذلك أقصر الطرق في سعيه للوصول إلى موضعه الطبيعي، وهو الخط المستقيم، وفي هذا الشأن يقول ابن ملكا:
(فكل حركة طبيعية فعلى استقامة)، ويقول في موضع آخر: (..ثم سماء بعد سماء، كل في حيزه الطبيعي، إلا أن هذه التي تلينا تسكن في أحيازها الطبيعية، وتتحرك إليها (إذا أخرجها مخرج عنها) حركة مستقيمة تعيدها في أقرب مسافة إليها على ما يرى..).
كذلك أيقن ابن ملكا أنه لولا تعرض الأجسام الساقطة سقوطاً حراً لمقاومة الهواء لتساقطت الأجسام المختلفة الثقل والهيئة بنفس السرعة، وبذلك يكون ابن ملكا أول من نقض القول المأثور عن أرسطو طاليس بتناسب سرعة سقوط الأجسام مع أثقالها، وهو قول خاطئ تماماً، فيكون ابن ملكا قد حقق سبقاً أكيداً في مجال حركة الأجسام تحت تأثير الجاذبية الأرضية قبل جاليلو جاليلي (1564 ـ 1642م) بحوالي خمسة قرون من الزمان.
ويقول ابن ملكا: (.. وأيضاً لو تحركت الأجسام في الخلاء، لتساوت حركة الثقيل والخفيف، والكبير والصغير، والمخروط المتحرك على رأسه الحاد، والمخروط المتحرك على قاعدته الواسعة، في السرعة والبطء، لأنها تختلف في الملء، بهذه الأشياء بسهولة خرقها لما تخرقه من المقاوم المخروق كالماء والهواء وغيره..).
- القانون الثاني للحركة:
لعل أقرب ما توصل إليه علماء العرب والمسلمين من معاني ما تعارفنا على تسميته بالقانون الثاني للحركة، هو قول ابن ملكا: (وكل حركة ففي زمان لا محالة، فالقوة الأشدّية تحرّك أسرع، وفي زمان أقصر، فكلما اشتدت القوة ازدادت السرعة، فقصر الزمان، فإذا لم تتناه الشدة لم تتناه السرعة، وفي ذلك أن تصير الحركة في غير زمان وأشد، لأن سلب الزمان في السرعة نهاية ما للشدة).
يشير ابن ملكا في هذا النص إلى أن سلب الزمان في السرعة نهاية ما للشدة، كما قال د. الدفاع، فابن ملكا لم يقل سلباً لزمان في قطع المسافة (ويعني ذلك زيادة السرعة، حيث السرعة تساوي المسافة مقسومة على الزمان)، وإنما قال سلب الزمان في السرعة، وهذه إشارة إلى التسارع (أو العجلة) حيث التسارع يساوي السرعة مقسومة على الزمان (أو هي على وجه الدقة معدل تغير السرعة بالنسبة للزمن).
ويتضح من هذه المعاني أن ابن ملكا يشير إلى تناسب القوة مع تغير السرعة بالنسبة للزمن، وهذا معنى قريب جداً من القول بتناسب القوة مع التسارع.
ـ القانون الثالث للحركة:
يشير ابن ملكا إلى القانون الثالث للحركة في قوله: (إن الحلقة المتجاذبة بين المصارعين لكل واحد من المتجاذبين في جذبهما قوة مقاومة لقوة الآخر، وليس إذا غلب أحدهما فجذبها نحوه يكون قد خلت من قوة جذب الآخر، بل تلك القوة موجودة مقهورة، ولولاها لما احتاج الآخر إلى كل ذلك الجذب).
وهذا قول واضح في أن لكل فعل رد فعل مساوٍ له في المقدار ومعاكس له في الاتجاه، فالحلقة التي أشار إليها في المثال ما هي إلا جسم في حالة اتزان تحت تأثير قوتين متساويتين مقداراً متعاكستين اتجاهاً.
ابن ملكا الطبيب
ولننصف ابن ملكا لا بد أن نتكلم عنه كطبيب كما تحدثنا عنه كفيزيائي..
يؤكد القفطي في كتابه (تاريخ الحكماء) وغيره، أن ابن ملكا كان موفق المعالجة، لطيف المباشرة، خبيراً بعلوم الأوائل، حسن العبارة، لطيف الإشارة، وقف على كتب المتقدمين والمتأخرين في الطب، واعتبرها واختبرها، فلما صفت لديه وانتهى أمرها إليه، صنف فيها كتاباً سماه المعتبر أخلاه من النوع الرياضي، وأتى فيه بالمنطق والطبيعي والإلهي، فجاءت عبارته فصيحة، ومقاصده في ذلك الطريق صحيحة، وهو أحسن كتاب صنف في هذا الشأن في هذا الزمان.
اهتماماته في مجال الطب
كان لأبي البركات هبة الله بن ملكا البغدادي اهتمام كبير بالطب منذ صغره، حتى أنه كان يجلس عند باب كبير الأطباء في زمانه أبي الحسن سعيد بن هبة الله بن الحسين (435 ـ 494هـ) يستمع لشرحه لطلابه كي يتعلم مهنة الطب.
يقول المؤرخ الطبيب ابن أبي أصيبعة في كتابه (عيون الأنباء في طبقات الأطباء):
وكان مبدأ تعلمه صناعة الطب أن أبا الحسن سعيد بن هبة الله بن الحسن كان من المشايخ المتميزين في صناعة الطب، وكان له تلاميذ عدة يتناوبونه في كل يوم للقراءة عليه، ولم يكن يقرئ يهودياً أصلاً، وكان أبو البركات يشتهي أن يجتمع به، وأن يتعلم منه، وثقل عليه بكل طريق، فلم يقدر على ذلك، فكان يتخادم للبواب الذي له، ويجلس في دهليز الشيخ يسمع جميع ما يقرأ عليه، وما يجري معه من البحث، وهو كلما سمع شيئاً تفهمه وعلقه عنده.
وكان الشيخ الكبير يناقش ذات مرة مسألة مع طلبته محاولاً الحصول على الإجابة، فصعب ذلك على الشيخ وعلى تلاميذه. وبقوا مدة يتداولون هذه المسألة واحداً بعد الآخر، حتى ألهم الله أبا البركات بن ملكا حل هذا المشكل.
فدخل ابن ملكا إلى الشيخ وقال: يا سيدنا، عن أمر مولانا أتكلم في هذه المسألة؟ فقال: قل إن كان عندك فيها شيء، فأجاب عنها بشيء من كلام جالينوس، وقال: يا سيدنا، هذا جرى في اليوم الفلاني من الشهر الفلاني، في ميعاد فلان، وعلق بخاطري من ذلك اليوم، فبقي الشيخ مستعجباً من ذكائه وحرصه، واستخبره عن الوضع الذي كان يجلس فيه، فأعلمه به، فقال: من يكون بهذه المثابة ما نستحل أن نمنعه من العلم، وقرَّبه من ذلك الوقت، وصار من أجلِّ تلاميذه.
ابن ملكا والطب النفسي
مما اعتنى به ابن ملكا الطب النفسي، فعالج الأمراض النفسية التي تصيب الناس، وحاول جاداً أن يعالجها بالطريقة النفسية التي أدهش لها علماء الطب في العصر الحديث، فقد ذكر ابن أبي أصيبعة في عيون الأنباء... أن مريضاً ببغداد كان عرض له علة (الماليخوليا)، وكان يعتقد أن على رأسه دناً (وعاء كبير للخمر من الفخار)، وأنه لا يفارقه أبداً، فكان كلما مشى يتحايد المواضع التي سقوفها قصيرة ويمشي برفق، ولا يترك أحداً يدنو منه حتى لا يميل الدنُّ أو يقع عن رأسه، وبقي بهذا المرض مدة وهو في شدة منه، وعالجه جماعة من الأطباء ولم يحصل بمعالجتهم تأثير ينتفع به، إلى أن عُرض على ابن ملكا... ففكر في أنه ما بقي شيء يمكن أن يبرأ به إلا بالأمور الوهمية، فقال لأهله: إذا كنت في الدار فأتوني به، ثم إنه أمر أحد غلمانه بأن ذلك المريض إذا دخل إليه وشرع في الكلام معه، وأشار إلى الغلام بعلامة بينهما، أنه يسارع بخشبة كبيرة فيضرب بها فوق رأس المريض على بعد منه كأنه يريد كسر الدن الذي يزعم أنه على رأسه، وأوصى غلاماً آخر، وكان قد أعد معه دناً في أعلى السطح، أنه متى رأى ذلك الغلام قد ضرب فوق رأس صاحب الماليخوليا أن يرمي الدن الذي عنده بسرعة إلى الأرض. وكان ابن ملكا في داره، وأتاه المريض وشرع في الكلام معه وحادثه، وأنكر عليه حمله للدن، وأشار إلى الغلام الذي عنده من غير علم المريض فأقبل إليه، وقال والله لا بد لي أن أكسر هذا الدن وأريحك منه، ثم أدار تلك الخشبة التي معه وضرب بها فوق رأسه بنحو ذراع، وعند ذلك رمى الغلام الآخر الدن من أعلى السطح.
فكانت له جلبة عظيمة، وتكسر قطعاً كثيرة، فلما عاين المريض ما فعل به ورأى الدن منكسراً، تأوه لكسرهم إياه، ولم يشك أنه الذي كان على رأسه بزعمه، وأثر فيه الوهم أثراً برئ من علته تلك.
وقد قال ابن أبي أصيبعة عن عمله هذا: (وهذا باب عظيم في المداواة، وقد جرى أمثال ذلك لجماعة من الأطباء المتقدمين مثل جالينوس وغيره في مداواة الأمور الوهمية).
جرأته في المداواة والعمليات الجراحية
اشتهر هبة الله بن ملكا بجرأته في مداواة المرض، فكان لا يتردد في أخذ القرارات في إجراء العمليات الجراحية الخطيرة، كما أنه كان ينصح طلابه بأن الطبيب الناجح إذا اقتنع بأن ليس لديه مناص من إجراء العملية الجراحية فإنه يجب أن لا يعطي المريض الانطباع في أنه ليس مقتنعاً، مما يجعل المريض متخوفاً، وربما يقوده تخوفه إلى صعوبة شفائه.
يذكر ابن أبي أصيبعة في عيون الأنباء.. أن ابن ملكا جاءه رجل به داحس، إلا أن الورم كان ناقصاً، وكان يسيل منه صديد، فحين رأى ذلك بادر إلى سلامية إصبعه فقطعها، فقال له تلاميذه: يا سيدنا لقد أجحفت في المداواة، وكان يغنيك أن تداويه بما يداوي به غيرك، وتبقى عليه إصبعه، ولاموه وهو لا ينطق بحرف، وفي اليوم الثاني جاء رجل آخر مثل ذلك سواء، فأومأ إلى تلاميذه بمداواته، وقال افعلوا في هذا ما ترونه صواباً، فداووه بما يداوي به الداحس، فاتسع المكان وذهب الظفر وتعدى الأمر إلى ذهاب السلامية الأولى من سلاميات الإصبع، ولم يتركوا دواء إلا وداووه به أو علاجاً إلا وعالجوه به، وهو مع ذلك يزداد ويأكل الإصبع أسرع أكل، وآل أمره إلى القطع، فعرفوا حق قدره، وقال تلامذته: وفشى هذا المرض في تلك السنة، وغفل جماعة منهم عن القطع فتأذى أمر بعضهم إلى قطع اليد، وبعضهم إلى هلاك أنفسهم.
دقته في التشخيص
وذكر القفطي في كتابه (تاريخ الحكماء) رواية تدل على دقته في التشخيص، وهي: إن ابن ملكا كان جالساً في مجلسه للإقراء، وعليه ثوب أطلس مثمن أحمر اللون من خلع السلجوقي، إذ دخل عليه رجل من أوساط أهل بغداد، وشكا إليه سعالاً أدركه وقد طالت مدته ولم ينجع فيه دواء، فأمره بالجلوس، وقال له: إذا سعلت شيئاً فلا تتفله حتى أقول لك ما تصنع، فجلس ساعة وقطع فاستدعاه إليه، وأدخل يده في كم ذلك الثوب الأطلسي وقال له: اتفل فيه، فتوقف خشية على موضع يده من الثوب، فتفل وضم ابن ملكا يده على ما فيها من الثوب والتفلة، وأخذ فيما الجماعة فيه من استفهام وإفهام ساعة، ثم فتح يده ونظر إلى الثوب وموضع التفلة منه ساعة يقلبه ويتأمله ثم قال لبعض الحاضرين: اقطع من هذه الشجرة نارنجة وأحضرها، وكان في داره شجرة نارنج حاملة، ففعل الرجل المأمور ذلك، فلما أحضر النارنجة قال للرجل الشاكي كل هذه، فقال أيها الحكيم متى أكلته مت، فقال: إن أردت العافية فقد وصفتها لك، فشرع الرجل وأكل منها أولاً فأولا إلى أن استنفدها، وقال له امض وانظر ما يكون في ليلتك، فمضى الرجل، ولما كان في اليوم الثاني حضر وهو متألم فقال ما جرى لك؟ قال: ما نمت لكثرة ما نالني من السعال، فقال لأحد الجماعة: أحضر لي نارنجة من تلك الشجرة إياها، فقال للشاكي: كلها أيضاً، فقال: إذا أكلتها ما يبقى في الموت شك، فقال: كلها فهي الدواء، فأكلها الرجل ومضى، فلما كان في اليوم الثالث جاء فسأله عن حاله، فقال: بت خير مبيت ولم أسعل، فقال له برأت ولله الحمد وإياك وأكل النارنج بعدها، وإن تأكل بعدها نارنجة أخرى يحصل لك ما لا يرجى لك برءه، وأمره بما يستعمل في المستقبل.
فلما خرج المريض من مجلسه سأله الجماعة عن السبب، فقال: أخذت تفلته في الثوب الأطلسي الأحمر وأحميتها في كفي ساعة، ونظرت فيها هل بقي بعدما تشربه الثوب مما تفل كالقشور والنخالة فلم أجده، ولو وجدته دلني على أن السعال من قرح إما في الرئة أو في الصدر، وكلاهما صعب، فلما لم أجد شيئاً من ذلك علمت أنه بلغم لزج زجاجي وقد لحج بقصبة الرئة وآلات التنفس، فأردت جلاءه من هناك، وأمرته بتناول النارنجة، فلما عاد إلي ووجد شدة علمت أنها قد جلت وقطعت ما هناك ولم تستنفده، فأمرته بتناول الأخرى فجلت ما بقي، ونهيته عن استعمال أخرى لئلا يقرح الموضع بكثرة الجلاء، فيقع فيما احترزنا منه، فاستحسن الحاضرون ذلك من صناعته اللطيفة.
وأخيراً...
لقد تلقى هبة الله بن ملكا البغدادي جميع علومه التي تفنن فيها على كبار علماء العرب والمسلمين في بغداد، ففاضت قريحته، ولمع اسمه بين معاصريه حتى صار إنتاجه متداولاً بين العلماء في العلوم آنذاك، وهناك نوع من الإجماع بين مؤرخي العلوم على أنه يعدّ بحق من عباقرة العالم الذين وضعوا الأسس الهامة، وأضافوا الأفكار المنيرة في علمي الطبيعة والطب، حقاً لقد أنجبت الحضارة العربية والإسلامية من العلماء الأفذاذ من لا يستطيع مؤرخ في العلوم أن يتجاهلهم، ومن بينهم..هبة الله بن ملكا البغدادي، الذي تردد اسمه في كتب المستشرقين، ونعتوه بالعالم اللامع بين علماء عصره في العلوم الطبيعية.
عناوين
الحجر الساقط من علٍ كلما كان موضع بدء هبوطه أعلى كلما كانت شدة وقعه أقسى.. فيشج ويسحق على حد تعبيره ابن ملكا
لقد حقق ابن ملكا سبقاً أكيداً في مجال حركة الأجسام تحت تأثير الجاذبية الأرضية قبل جاليلو جاليلي بحوالي خمسة قرون من الزمان
إن العالم ليدين للعرب بحفظ تراث الإغريق.. وهذه حقيقة لا ينكرها أحد.. وإنما ما يغفل البعض ذكره عن قصد أو تجاهل أو جهل هو ما استحدثه العلماء العرب والمسلمون من إضافات أصيلة وقيّمة في العلوم الطبيعية
صقل الإسلام شخصية ابن ملكا بعد غرورها وغسل كبرياء نفسه فاتصف بالصفات الحميدة المنتظرة من العلماء العاملين المخلصين
الخطيب هو الذي تصدر عنه الخطابة.. ومن شرطه أن يكون متنسكاً متعسفاً فصيحاً بليغاً يقدر على استمالة السامعين واستدراجهم ويعرف أخلاق الناس ويكلمهم على قدر عقولهم
المصدر : الباحثون 34 - نيسان 2010