http://www.odabasham.net/show.php?sid=1630
تأليف: عبد الرحمن أحمد البوريني
عرض وتلخيص: صالح أحمد أبو عمران – الأردن
يمكن لقارئ هذا الكتاب أن يعده شمعة تمدّ بنورها مصباح الأمل، وتزيد جذوة الثقة بالذات توقداً، فحين يخيم ظلام اليأس على حياة الناس يحتاجون إلى شموع الأمل، يتلمسون بها طريقهم، ويستردون بنورها بعض عزيمتهم ليواصلوا بها المسير إلى الأمام.
لا ريب أن اللغة العربية –وهي موضوع الكتاب- ركن أساس من أركان وحدة أمتنا العربية والإسلامية، وعمود محوري من أعمدة قوتها، إنها دعامة بقاء، وعنصر تفوق لهذه الأمة، ومن هنا فإن كل لبنة تضاف إلى بنيات هذه اللغة وتزيد في شموخه، هي قوة دافعة لروح الأمة وشعاع يضاف إلى حزمة ضيائها.
وهكذا يأتي جهد الباحث العربي عبد الرحمن البوريني في كتابه "اللغة العربية أصل اللغات كلها" الذي صدر حديثاً عن دار الحسن للنشر والتوزيع في عمّان: لا ليشير إلى تميز لغتنا العربية فحسب، بل ليكشف عن أصالتها العالمية ومصدريتها القديمة، مما يؤكد أصالة أمتنا العربية وتفوق عطائها الإنساني، وينوّه بدور الإسلام العظيم في بلورة هذا العطاء بما قدمه القرآن الكريم من إمداد وتجديد وخلود لهذه اللغة المدهشة.
عنوان غريب جديد
ولا شك في أن غرابة عنوان الكتاب هي أول ما يلفتك من جديده، فهو عنوان غريب جديد يحمل في طياته بعض التحدي وربما الاستفزاز لكثير من قناعاتنا ومسلّماتنا، ولكن الفكرة التي يطرحها هذا العنوان تأخذ في الاقتراب رويداً رويداً إلى فهم القارئ مع كل صفحة يقرؤها من قسمه الأول، الذي جعله المؤلف بحثاً نظرياً تاريخياً يستند إلى نصوص من القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة وبعض الاقتباسات النصية من مراجع أخرى.
وليس معنى ذلك أن كل من يقرأ الكتاب سيتفق مع مؤلفه، أو يلتقي مع أفكاره، فالخلاف في ذلك أمر طبيعي، ولكن ما جاء في الكتاب هو حقاً جدير بالنظر والتأمل، ولا سيما ذلك الجهد العلمي المبذول في إرجاع زهاء خمسمائة كلمة إنجليزية تضمنها القسم الثاني من الكتاب إلى الأصل العربي.
الأدلة الظنية والدليل العلمي العملي
وإنك لتلمس وأنت تقرأ حرص المؤلف وحذره، فهو يدرك أبعاد ما يحمل عنوان كتابه، ولذلك فإنه لا يعتمد في البرهنة على صحة طرحه، على الأدلة النقلية، بل هو يعترف أن هذه الأدلة لا تستطيع أن تنهض قوية لإثبات صحة ما يقول، ولكنها يمكن أن تكون استشهادات تشجيعية لأنها تحمل الصفة الظنية لا القطعية، أما الذي يراه المؤلف دليلاً يعتمد عليه، فهو الدراسة المعجمية التي ترجع جذور الكلمات من اللغات الأخرى إلى الأصل العربي، وهو ما أجراه الباحث على كلمات اللغة الإنجليزية في القسم الثاني من كتابه.
يدخل القارئ إلى الكتاب عبر مقدمة لطيفة يستحث فيها المؤلف قارئه على مواصلة القراءة ويستمهله في إصدار حكمه على الكتاب حتى ينتهي من قراءته ولا سيما مطالعة قسمه الثاني وهو قسم الكلمات الإنجليزية التي اعتبرها المؤلف دليلاً علمياً على أن الإنجليزية أصلها عربي، ليخرج بنتيجة في النهاية مؤادها أن كل اللغات الأخرى سوف ترجع إلى الأصل العربي إذا أجريت على كلماتها دراسة معجمية مشابهة.
وتحت عنوان "لغة آدم هل كانت العربية؟" نرى الكاتب يحافظ على الالتزام بحدود المنهج العلمي في البرهنة والاستدلال حيث يقرر مرة أخرى أنه لا يوجد دليل نصي يصلح للقطع بأن لغة آدم (عليه السلام) كانت العربية ولكنه يعول في إثبات ذلك على دور الدراسة المعجمية التي تتقصى تاريخ الكلمات وتنظر في تراكيبها وتردها إلى أصولها العربية.
فائدة الدراسة
وقبل أن يحدثنا المؤلف عن فائدة الدراسة ينتقل بنا إلى موقع جديد يحمل سمة العمومية حيث يكشف لنا عن أسماء أخرى يقف أصحابها معه في تبني هذه النظرية والدفاع عنها، فيحدثنا عن عدد من الجهود السابقة في المجال نفسه ويذكر بعض المؤلفات والمقالات التي نادت بالفكرة نفسها وأكدت أن العربية هي أصل اللغات كلها.
وللإجابة عن سؤال يطرح بداهة في مستهل هذا البحث حول جدواه، نرى المؤلف يسرع إلى الإجابة عنه تحت عنوان "فائدة الدراسة" مبيناً ذلك في إحدى عشرة نقطة تدور حول دور اللغة العربية في تأكيد شخصية هذه الأمة وصياغة فكرها وإثبات أصالتها وتميزها وفاعليتها في توحيد الأمة والإسهام في حركة نهضتها وتقدمها الحضاري.
اللغة عطاء إلهي للإنسان
يبدأ المؤلف حديثه في القسم الأول من كتابه بتمهيد يتحدث فيه عن تكريم الخالق سبحانه لعبده آدم (عليه السلام) وذريته بعطاء إلهي عظيم هو اللغة، ثم يبين أن هذه اللغة هي وعاء الفكر وأن الإنسان لا يمكن أن يفكر إلا بلغة، وأن هذه اللغة لا يمكن أن تكون مكتسبة في أصلها من تقليد أصوات الطبيعة كما يزعم أرباب هذا الرأي المتهافت، وأن وجود اللغة سابق على وجود المجتمع البشري لأنه لا يمكن أن تكون هناك حياة بشرية اجتماعية بلا لغة.
ويعرض المؤلف بعض أقوال العلماء القدامى في أصل اللغة، وينتصر للرأي القائل بأن أصل اللغة توقيفي، وأن ما يمكن أن يكون من حظ الإنسان في صناعتها فإنما هو مستحدث لأغراض خاصة بالحياة البشرية، وأنه ليس أكثر من استخدام للطاقات الموهوبة للإنسان من الله تعالى، وتفعيل دائرته اللغوية وتعزيز قدراته التعبيرية.
القرآن الكريم أعظم مصدر للدراسات اللغوية
ويوثق الباحث الصلة بين بحثه باعتباره أعظم مصدر تفيد منه الدراسات اللغوية، لأنه الوثيقة الإلهية الوحيدة المعصومة التي لم يتطرق إليها تحريف ولا تبديل، فنبؤها هو الأعظم وخبرها هو الأصدق، ويُكثر الباحث من الاستشهاد بآيات القرآن الكريم، فيتحدث عن قوله تعالى: "ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم" (الروم (22)) ويفسر اختلاف المذكور في الآية بأنه طارئ على الأصل الذي يقتضي وحدة اللغة الأولى ويقتضي تعدد الفروع وتنوعها كما تعددت القبائل وتفرعت واختلفت مع أنها ترجع في الأصل إلى مجتمع واحد.
ثم ينتقل إلى الحديث عن خصوصية اللغة العربية التي أبرزتها آيات القرآن الكريم (الذي هو المعجزة الإلهية البيانية) التي تحدّى الله تعالى بها أرباب الفصاحة والبلاغة فاستسلموا أمام إعجازها الباهر.
مكة المكرمة موطن المجتمع البشري الأول
ويحدثنا بعد ذلكم تحت عنوان: "اللغة العربية عبر التاريخ" عن ابتداء الحياة البشرية الأولى على الأرض بآدم أبي البشر (عليه السلام) ويستند إلى آيات القرآن الكريم ليدلل بها على أن آدم عاش في مكة وأن الأرض شهدت ميلاد المجتمع البشري الأول في تلك البقعة المباركة "إنّ أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدىً للعالمين" (آل عمران/ 96) ومنها كان انطلاقه في الأرض وخروجه إلى بقاعها المختلفة، حيث تبدأ رحلة التفرع والانقسام اللغوية تبعاً لرحلة التفرع والانقسام الاجتماعي، متأثرة بعوامل البيئة وظروف الحياة الجديدة، وآخذة في الابتعاد مع الزمن ومع تنوع التجربة الحياتية والبيئية عن الأصول الأولى: لتتولد بذلك لهجات يظهر اختلافها ويبدو تباينها شاهداً على حركة الإنسان وتفاعله مع ظروف الحياة، وتغيّر الزمان والمكان.
تنوع وترابط في الموضوعات
ويمكن في الحقيقة أن نقول: إن الكاتب قد طرق موضوعات متنوعة في القسم الأول من كتابه يمكن أن يكون كل واحد منها محلاً لدراسة مستفيضة مستقلة بل ربما لدراسات كثيرة، لدرجة أن الخيط الذي يربط بين هذه الموضوعات قد يبدو لغير المتمعن واهناً أحياناً حيث ينتقل بنا الكاتب بين موضوعات ظاهرة التنوع، كالحديث عن تاريخ اللغة ثم عن ماهية اللغة واحتكاك اللغات ثم عن علم اللغة ثم عن تولد اللهجات.. إلخ، ولكن هذا الخيط لا ينقطع، بل يظل موصولاً، فيظهر لنا البحث –على الرغم من تنوع حلقاته كل هذا التنوع- مرتبطاً في سلسلة واحدة تصل بنا في الختام إلى الدراسة العملية المعجمية.
يتحدث الكاتب عن نشوء اللهجات العامية، ويعده أساساً في نشوء اللغات من اللغة الأولى ودليلاً على صحة انتساب لغات البشر للغة أصلية واحدة، وهنا يظهر ارتباط الموضوعات الوثيق رغم تنوعها الظاهر واختلاف عناوينها.
ويتحدث عن تأثير البيئة في تطور اللهجة وتنوع اللهجات بتنوع البيئات واختلاف ظروف الزمان والمكان والمناخ، الأمر الذي يساعد فهمه على إنجاح الدراسة اللغوية في هذا المجال.
ومما تجدر الإشارة إليه أن القسم الأول من الكتاب قد تضمن عدداً من الأفكار القيّمة التي تستحق النظر والتأمّل وخاصة من الدارسين والمتخصصين، ومنها على سبيل المثال ما ورد تحت عنوان: "تشابه اللهجات" حيث يقول الكاتب ص78: "انطلاقاً من تماثل تركيب جهاز النطق (الفم) عند البشر جميعاً فإن احتمالات انزلاق اللسان عن مخارج الحروف واستحداث مخارج جديدة واحدة عند الجميع" ويستشهد لذلك بما يوجد من تشابه بين اللهجات العربية العامية المنبثقة من اللغة الفصحى أصلاً وبين اللغة الإنجليزية باعتبارها لهجة عربية قديمة جداً، وهذا التشابه له مظاهر كثيرة يورد أمثلة منها في ثنايا البحث.
دعوة إلى مواصلة البحث
وبعد أن يعرض المؤلف منهجه في الدراسة المقارنة وطريقته في مقابلة الحروف بين الإنجليزية والعربية والاحتمالات اللفظية لكل حرف مقدّماً بذلك مفتاحاً عاماً يمكن أن يستخدم في أي دراسة لغوية مشابهة، يوجه الباحث الأردني عبد الرحمن البوريني نداءً إلى الباحثين والدارسين المهتمين والمتخصصين العرب في مجال اللغات غير العربية ليقوموا بدورهم في إجراء دراسات مماثلة لهذه الدراسة تثري البحوث العلمية في هذا المجال، وتضيف إلى رصيد الدراسة والبحث فيه ما يؤكد صحة هذه النظرية، ويقطع بأصالة لغة القرآن وأنها أم لغات البشر أجمعين، لا سيما أن مثل هذه البحوث المقارنة تحتاج إلى جهد مؤسسي ضخم حتى تؤتي أُكلها وتقدم خدمتها للغة القرآن العظيم بما يليق بهذه اللغة من مقام وسمو.
قاموس جديد وخدمة للترجمة
وقبل أن يأخذ المؤلف بأيدينا في رحلة طريفة عجيبة مع الكلمات الإنجليزية التي أماط البحث عنها لثام العُجمة ونزع عن وجهها قناع الغربة، يحدثنا عن نواة قاموس جديد وعن خدمة جليلة يقدمها هذا البحث للترجمة حين ينجح في استكمال خطواته وإنجاز مسيرته بإخراج قاموس إنجليزي عربي يعامل الإنجليزية على أنها لهجة يعود بها إلى أصلها العربي، لا لغة أخرى يأخذ منها كلمات على حالها فيعربها لتبدو غريبة مع وجود أصولها العربية في لغة العرب.
وهذا يفيد أن بحثه في كلمات الإنجليزية لم يستغرق حروف المعجم كلها، بل لا يزال هناك الكثير الكثير من الجهد المطلوب حتى يتم إخراج هذه الدراسة على وجهها الأتم.
خمسمائة كلمة من جذور الإنجليزية تعود لأصلها العربي
ونلتقي في القسم الثاني من الكتاب مع الدراسة المعجمية المقارنة التي أجراها الباحث على نحو خمسمائة كلمة إنجليزية متسلسلة حسب الترتيب الهجائي في قاموس المورد، بدءاً من أول كلمة في حرف A وهي ِِِAard التي أصلها العربي (أرض) ثم مجموعة الكلمات من حرف B ثم مجموعة من حرف C وبعض الكلمات من حروف أخرى، وليست هذه الكلمات هي كل ما ورد في القاموس تحت هذه الأحرف، بل هي على الأغلب الجذور التي تشتق منها صيغَها الأخرى، كما أن الدراسة استبعدت الكلمات الدالة على مسميات المخترعات وأسماء العلوم والمصطلحات العلمية المشتركة بين كثير من اللغات، وركزت الجهد على دراسة الكلمات الأصلية والجذور اللغوية.
ولا شك أن المقابلة بين الكلمات قد تبدو غريبة بعيدة التوافق للوهلة الأولى، ولكن هذه الغرابة تزول، وذلك التوافق الغائب يبرز أمام القارئ كلما اقترب من الكلمات وأعمل فيها النظر والتأمل، مدركاً مدى التحول الذي طرأ على الحروف والكلمات عبر التاريخ، ناظراً إلى احتمالات انحراف اللسان عن اللفظ الأصلي للحروف والكلمات.
وأخيراً
فإن المؤلف قد نجح في لفت أنظارنا إلى لغتنا لا باعتبارها واحدة من اللغات المتميزة في العالم، بل بصفتها لغة البشرية الأولى، ذلك أن عودة جذور الإنجليزية إلى العربية برغم ما يفصل بينهما من ظروف الزمان والمكان واختلاف اللسان والإنسان لهي دليل علمي مادي ملموس على أن الأسرة اللغوية التي تعد الإنجليزية إحدى بناتها تنتمي إلى الأصل العربي.
إن هذه النتيجة العظيمة تتطلب مزيداً من الجهود العلمية التي تدعمها وتستحث المتخصصين في الدراسات اللغوية من العلماء العرب على النظر إلى هذه الدراسة بما تستحقه من الاحترام والاهتمام.