من كتابات الشيخ الغزالي رحمه الله
"رأيت طالبا فى القاهرة يريد أن يدخل كلية الطب بجلباب وقلنسوة.. وسألته: لم هذا الشذوذ؟ قال: لا أتشبه بالكفار فى ارتداء البدلة الفرنجية.. قلت : التشبه الممنوع يكمن فى انحلال الشخصية، وإعلان التبعية النفسية والفكرية لغيرنا، ولقد لبس الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ جبة رومية كانت ضيقة الأكمام.. فلما أراد الوضوء أخرج ذراعيه أسفل.. ولكن الطالب الأحمق أبى وترك الدراسة الجامعية. * * * * فهم خاطئ: وكنا يوما فى حفل جامع وكنت ألقى محاضرات "ذات بال " فى موضوع خطير.. ورأى أحد الصحافيين التقاط صورة للجمع الحاشد.. ولكن الداعية نهض يمنع التصوير.. فلما أصر الصحافى على المضى فى عمله اتجه الداعى إلى الآلة ليكسرها. وجاءنى الواعظ الغيور يسألنى: لماذا لم تمنع التصوير؟ قلت: لأنى أراه مباحا! قال: ألم يقل الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "إن أشد الناس عذابا المصورون؟ " قلت: إنه يعنى صانعى التماثيل للعبادة.. ولا يتصور أن يكون هذا الصحافى أشد عذابا من الزناة والقتلة والمرابين والظلمة.. قال: الحديث عام فلماذا تخصصه؟ قلت: خصصه الواقع الذى لا يمكن تجاهله.. فالوثنيون كانوا يعبدون أصناما مجسمة ولم يعبدوا صورا شمسية.. وعندما تكون الصورة الشمسية لصنم أو لصليب أو لمعنى دينى مرفوض فسنحرمها. أما التقاط الصوت فى شريط مسجل، أو التقاط الظل والملامح على ورقة لأغراض
علمية أو اجتماعية فلا علاقة له بالوثنية، ولا يحكم عليه بتحريم.. بل هو كما نبه مسلم فى صحيحه ليس (إلا رقما فى ثوب). قال: هذا الكلام مردود، ومحاضرتك عن الوحدة الإسلامية، وعن التناحر بين المسلمين لا تقبل.. ما دامت مقرونة بإقرار التصوير! وشعرت بالضيق.. ثم كظمت غيظى ورفضت مواصلة النقاش. وأحيا آخرون السنة النبوية بالأكل على الأرض، واستخدام الأيدى، رافضين الأكل على الموائد، واستعمال الشوك والملاعق. قلت: من قال: إن الأكل على المائدة، أو استخدام الملاعق مخالف للسنة؟ إن فهم هؤلاء الناس للدين غريب، وإثارة هذه القضايا دون غيرها من أساسيات الإسلام مرض عقلى.. إنه ضرب من الخبال. إن المؤامرات تستحكم يوما بعد يوم لاغتيال الإسلام أو الإجهاز عليه جهرة.. فكيف يشتغل قوم بهذه السنن فقط ثم يتساهلون فى الواجبات وعظائم الأمور؟!! ورأيت يوما رجلا حليق الشارب والرأس بالموسى، وله لحية مشوشة وغير مهذبة فساورنى خاطر أنه قادم من عمرة. واحترمت فى نفسى هذا الظاهر الموقوت. ولكنى أعدت النظر فى هيئته فوجدته مكحل العينين، وثوبه إلى نصف الساق أو أعلى. فقلت: هذا رجل من المنتسبين إلى الدين والحديث فيه، وهو بهذا السمت يرى أنه جمع المجد من أطرافه كلها. ورمقته ثم تشاغلت عنه.. ولكنه جاءنى يسألنى بأدب: أنت فلان؟ قلت: نعم! قال: قرأت رسالة وزعت علينا تصفك بأنك تهاجم السنة! وأنك مع الشيخ "أبى رية" فى تكذيب الأحاديث!!
قلت فى سكون: وقعت هذه الرسالة فى يدى...! قال: ما رأيك فى هذه التهم؟ قلت: ما رأيك أنت؟ هل قرأت لى كتبا؟ قال: نعم، قرأت كتابك "خلق المسلم ": قلت: فى هذا الكتاب وحده أكثر من ألف حديث عن النبى - صلى الله عليه وسلم - وفى فقه السيرة وكتابين آخرين نحو ألفى حديث. فإذا أثبت رجل فى عشر مؤلفاته نحو ثلاثة آلاف حديث فكيف يتهم بتكذيب السنة؟ ! قال: إنك رددت حديثا صحيحا رواه البخارى ومسلم.. وهو أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أغار على بنى المصطلق وهم غارون! قلت على عجل: لقد رددت الفهم القذر الذى استقر فى ذهن بعض الناس لما قرأ هذا الحديث... لقد فهم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يأخذ الناس على غرة، ويغير عليهم دون أن يدعوهم إلى الإسلام، كأنه قاطع طريق يطلب المغانم.. هذا الغباء فى فهم السنة هو الذى كذبته. ولم أكذب الحديث نفسه! وعلماء المسلمين قاطبة قرروا أنه لابد من الدعوة قبل القتال. وكاتب الرسالة التى هاجمتنى يرى أن الحرب الإسلامية لا يسبقها عرض دعوة، ولا تنوير ذهن.. يرى أن الدعوة كانت قديما ثم نسخت، وأمسى القتال هجوما مباغتا أو أخذا على غرة.. فهل إذا زيفنا هذا التفكير العطن، أسرع الجهال إلى اتهامنا بتكذيب السنة؟!! إننا نحمى السنة من أفهام الأراذل. قال: وحديث آخر من الصحاح رددته.. وهو حديث (أنه ما من يوم يجيء إلا والذى بعده شر منه) قلت: بل رده حديث آخر: (أمتى كالغيث لا يدرى أوله خير أم آخره) وحديث حذيفة الذى رواه مسلم وجاء فيه (أن بعد الخير شرا وبعد الشر خير).
ومن جملة الأحاديث الواردة فى القضية يفهم أن تاريخ الإسلام بين مد وجزر، وغربة وإيناس، ونصر وهزيمة .. أما القول بأن الإسلام يسير كل يوم إلى الهاوية، وأن مستقبله مشئوم.. فقول مكذوب. قال: هذا ظاهر الحديث. قلت: هذا ظاهر فهمكم أنتم لحديث لم تبلغ عقولكم غوره..! بم سينزل عيسى ابن مريم؟ وحديث نزوله صحيح؟ أليس نزوله لمقاتلة الصليبيين، ونصرة التوحيد، وذبح الخنزير، ووضع الجزية.. ألستم تقرءون هذا.. فأين الهاوية التى ينتهى إليها الإسلام حتما؟!! هل السلفية التى تزعمونها هى اتهام رجل بتكذيب السنة لأنه أول حديثا يشعر ظاهره بسوء مستقبل الإسلام. أى تدين هذا الذى تزعمونه، وأى دعوة هذه التى تنشرون.. الحق أن هناك أناسا يشتغلون بالدعوة الإسلامية.. وفى قلوبهم غل على العباد، ورغبة فى تكفيرهم أو إشاعة السوء عنهم.. غل لا يكون إلا فى قلوب الجبابرة والسفاحين.. وإن زعموا بألسنتهم أنهم أصحاب دين. إن فقههم معدوم، وتعلقهم إنما هو بالقشور والسطحيات. هناك أشخاص قاربوا مرحلة الشيخوخة ألفوا كتبا فى الفروع، وأثاروا معارك طاحنة فى هذه الميادين.. ومع ذلك فإن أحدا منهم لم يخط حرفا ضد الصليبية أو الصهيونية، أو الشيوعية أو العلمانية. إن وطأتهم شديدة على الأخطاء بين أمتهم، وبلادتهم أشد تجاه الأعداء الذين يبغون استباحة بيضتهم. بأى فكر يحيا أولئك؟...
أسباب الداء: إن أعدادا كبيرة من المتدينين تائهون فى هذه الموضوعات..
_محمد الغزالي _
_الفساد السياسي _"