الكاتب الإنجليزي وليم سومرست موم
W. Somerset Maugham

ترجمة عبدالله باسودان

ولد سومرست موم عام 1875 في باريس، حيث كان والده موضفاً في السفارة البريطانية . بناء على رغبة عائلته درس الطب، إلا أنه لم يمارس هذه المهنة , وذلك لأنه كان شغوفا بالأدب خاصة القصص القصيرة. تمتاز قصصه بأسلوب ساخرمحايد. كان واحدًا من أشهر المؤلفين البريطانيين في بداية القرن العشرين. نال حظوة كبيرة لدى الجمهور أكثر منها لدى النقاد.. من أروع أعماله التي لها أساس واقعي "الرق البشري" وتحكي قصة طالب طب أعرج وقع في حب امرأة لا تهتم بمشاعره . وله مجموعات قصصية منها " الرجل الذي يعرف كل شىء " "ارتعاشة ورقة", "على شاشة صينية"" "أول شخص وحيد" .ومن أشهر أعماله الكوميدية مسرحية "الدائرة"، التي ترجمت إلى العربية، ومسرحية "الزوجة الوفية"

قصة الرجل الذي يعرف كل شىء
MR. MAN ALL
لا أدري كيف حدث هذا , وجدت نفسي أكره هذا الذي يدعى"ماكس كلادا" قبل أن أتعرف عليه. في تلك الأيام كانت الحرب على أشدها فقد اضطربت حركةُ السفن عابرات المحيطات اضطرابا شديدًا, حتى إنه لم يكن للمسافرإلا أن يقبل أي مكان يخصص له, ولو كان مكانا ضيقًا على ظهر السفينة.
لهذا فرحت كثيراً أنني تمكنت من الوصول إلى"مقصورة" ذي سريرين, ولما عرفتُ أن اسم زميلي في المقصورة "ماكس كلادا" أخذ قلبي يدق بسرعة إذ سأقضي أربعة عشر يوما في البحر بين "سان فرانسيسكو" و "يوكوهاما" وأنا في صحبة زميل واحد طوال الوقت, خاصة أنه يدعى ماكس كلادا؟! لا شك أنني سأكون أقل تبرما لو كان لرفيقي هذا اسم طريف "كسميث أو براين" مثلاً. وما أن ركبت السفينة حتى تبين لي أن أمتعة السيد "كلادا" قد سبقتني إلى "الكابين" .
وقد كرهت لأول وهلة شكل أمتعه وتلك الحقائب الضخمة التي كانت ملصقة يها بطاقات كثيرة تحمل أسماء أكبر فنادق العالم وكان الرجل قد أخرج منها كل أدوات الزينة, ورصها منسقةً على الرف الزجاجي الذي يعلو حوض الغسيل , فتركت حقائبي بالمقصورة , ثم قصدت إلى غرفة التدخين بالباخرة , طلبت من الغلام أن يحضر لي بعض أوراق اللعب لكي أتسلى عليها , فلما جاءني بها أخذت أقتل الوقت بلعبة "الصبر". ولم تكد تنقضي لحظات حتى اقترب مني رجل ناداني باسمي , ثم خاطبني قائلا وعلى شفتيه ابتسامة لا تحمل أي معنى:
- أنا أدعى"كلادا" .. "ماكس كلادا"
قبل أن أنطق بكلمة واحدة , كان قد استقر في المقعد المقابل لي ! فسألته في غير أكتراث أظن أننا شريكان في مقصورة واحدة؟
أجابني : نعم بالتأكيد لأن المرء لا يستطيع أن يعرف هذه الأيام من هو الذي سيكون رفيقه في السفر, لكنني سررت كثيرًا عندما عرفت أنك إنجليزي , فمن الخير لنا نحن الإنجليز أن نعيش متلازمين حينما نكون على سفر خارج بلادنا.
قلت له :هل أنت إنجليزي؟
- بالطبع هل تعتقد أنني أمريكي . أليس كذلك؟ أؤكد لكَ أنني إنجليزي من قمة رأسي إلى أخمص قدمي!
ولكي يثبت لي أخرج جوازسفره من جيبه بحركة سريعة, وقربه كثيرًا من عيني حتى كاد يلامس طرف أنفي. كان هذاالرجل قصير القامة , أسود الشعر تغطي وجهه سمرة خفيفة. يتكلم الإنجليزية بطلاقة وبأسلوب سلس, وكان لبقاً جداً في كلامه. . كان كل هذا يؤكد لي أني لو فحصت هذا الجواز الذي يقدمه لي بعناية لأدركت أنه ولد بأرض سماؤها صافية , تبعد كثيرًا عن إنجلترا ذاتها. وسادت لحظة من الصمت بددها الرجل بسؤاله :
- ماذا تشرب؟
فنظرت إليه وقد تملكتني دهشة بالغة , فقد كانت الأوامر تحضر تقديم الخمر في السفن, وكنت متأكداً أن السفينة لا تحمل أيا ً من الخمور. إلا أن السيد "كلادا" لم ينتظر حتى أجيب , وإنما أضاف قائلا على الفور: "ويسكي" بالصودا ؟ .. أم مارتيني؟ ماعليك إلا أن تذكر الاسم فحسب.
وأخرج زجاجة صغيرة من كل جيب من جيوبه , ثم نادى الساقي , وطلب إليه أن يحضر كأسين وبعض الثلج , ثم قال لي بلهجة الواثق المطمئن:
- لا تهتم بالشراب عندي منه الكثير , وإن كان لك أصدقاء في هذه السفينة فأبلغهم أن رفيقك في السفر لديه كافة أنواع الخمور المعروفة في العالم.
لقد كان زميلي ثرثارًا , فقد تحدث كثيراً عن"نيويورك" و "سان فرانسيسكو" , وعن أفلام السينما ونقد المسرحيات , ثم أكثر في كلامه عن السياسة و الحرب. وكنت قد أزحت ورق اللعب جانبـا عندما جلس الرجل أمامي , غير أنه لما بدا حديثه الذي لا يكاد ينتهي وجدت نفسي أعود بحركة آلية إلى أوراقي أنسقها من جديد. وفجأة, سمعت السيد "كلادا" يقول:
- كلا , كلا . الأفضل أن تضع الثلاثة فوق الأربعة !
حقاً أنه ليس هناك ما هو أكثر إزعاجا للمرء من أن يحدثه إنسان بما يجب عليه أن يفعل وهو يلعب لعبة "الصبر" . ولهذا , فقد نحيت أوراق اللعب مرة أخرى , و قررت أن لا أعود إليها إلابعد انصراف هذا الزميل الفضولي الثرثار . ولكن لشد ما أدهشني أنه أمسك بالورق وهو يقول:
- أتحب أن ترى بعض الألعاب الورقية السحرية ؟
فأجبته قائلا وقد تملكني الغيظ :
- كلا فأنا أكرهها !
- بل سأريك واحدة منها , ولا شك في أنها ستعجبك.
وسرعان ما قرن القول بالعمل , فأراني ثلاثا منها في سرعة البرق ! ولما قلت له إني ذاهب إلى غرفة الطعام لأنتقي مقعدًا مناسبا لي , صاح قائلا في حماس ظاهر
- لا داعي لأن تتعب نفسك , فقد اخترت لك بنفسي مقعدًا , لأننا نقيم في مقصورة واحدة , فعلينا أن نجلس معـًا إلى مائدة واحدة.
وكرهت السيد "كلادا" أكثر من ذي قبل . ذلك أني لم أكن أشاركه "مقصورة " واحدًة أو أتناول طعامي إلى جانبه ثلاث مرات فحسب , بل الواقع أني كنت لا استطيع أن أجول على ظهر الباخرة دون أن يكون ملازمـًا لي, إلى حد أني اقتنعت أخيرًا بأن الإفلات منه أمر محال , وكان أكثر من ذلك استحالة أن تقنعه بأنه شخص غير مرغوب فيه. فقد كان يعتقد من أنك تسر لرؤيته, تماما كما يسر هو لرؤيتك , ولو أنه زارك في بيتك فأغلقت الباب من دونه وقذفت به إلى أسفل السلم لما خطر بباله قط مع ذلك أنه زائر ثقيل غير مرغوب فيه .


يتبع......