عصر ابن سينا السّيَاسي - د. سهيل زكار
كلية الآداب ـ جامعة دمشق
لدى تأملنا تاريخ الدعوة العباسية نلاحظ أنه حتى أيام إبراهيم الإمام قامت الدعوة على ركنين أساسيين هما الدعوة والدعاة (الحزب) وبيت الإمامة، وعندما قرر إبراهيم الإمام تفجير الثورة في خراسان كلف أبا مسلم الخراساني هذه المهمة وقام بإرساله إلى خراسان، وبهذا العمل أدخل إبراهيم إلى جسم الدعوة ركناً ثالثاً هو ركن الجيش، فبوساطة أبي مسلم الخراساني وجيش الثورة ربحت الدعوة العباسية خراسان ثم العراق وبعد ذلك أنزلت الهزيمة بمروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية في معركة الزاب الحاسمة.
وقبل معركة الزاب كان لجيش الثورة شأن حاسم في الضغط على أبي سلمة الخلال داعي دعاة الدعوة العباسية ووزير آل محمد (السكرتير الأول لحزب الدعوة العباسية)، للقيام باختيار أبي العباس السفاح وإعلانه إماماً مهدياً وأول أمير مؤمنين للأسرة الجديدة.
وتظهر بعض الأبحاث الحديثة أن الذين أسسوا "حزب الدعوة" العباسية كان جلهم بالأصل من جماعات دهاقين إيران وخراسان الساسانية وأن هؤلاء استهدفوا إسقاط الخلافة الأموية وإقامة سلطة جديدة برئاسة أسرة قرشية كانت مطامحها السياسية ضئيلة، لذلك كان من الممكن أن تقبل بالتعاون على أساس أن تملك دون أن تحكم، فقد أراد حزب الدهاقين أن يتولى السلطة الفعلية بوساطة رئيسه الذي أطلق عليه لقب "وزير آل محمد"، فالوزير هو حامل وزر المسؤولية عن آل محمد، وهو حين يقوم بمسؤوليات السلطة يمارس وظيفة الخليفة في ظل إمام مكانته دينية فقط.
وهذا المفهوم مستعار من فكر المعارضة الشيعية، فقد قال الشيعة بأن علياً ورث النبي صلى الله وعليه سلم كلياً، ورث فيه النبوة فكان إماماً وورث فيه الحكم والإدارة فكان يستحق أن يكون خليفة، لكنه حين أبعد عن السلطة أبعد عن الخلافة وظل محتفظاً بالإمامة، لأن الإمام هو قائد الأمة، والأمة في القرآن، واللغة هم "أصحاب الدين"، و"كنتم خير أمة أخرجت للناس".
وقبل العباسيون بادئ ذي بدء بشخص السفاح هذه الأمور، لكن ما إن قامت الخلافة العباسية حتى صار السيد الفعلي للخلافة أبو جعفر المنصور، وكان أسن من السفاح، وأكثر طموحاً وأعظم ثقافة وتجربة وحنكة، وقد أراد المنصور الإمام العباسي أن يملك ويحكم، وحتى يتم الوصول إلى هذا الهدف سافر المنصور إلى خراسان حيث استطاع إقناع أبي مسلم الخراساني بالإقدام على إحداث انقلاب محدود ضد "حزب"، الدعوة العباسية لانتزاع استقلال السلطة من رئيسه، وهكذا أرسل أبو مسلم عدداً من جنده إلى الكوفة حيث أقدموا على اغتيال أبي سلمة الخلال في وضح النهار في أحد طرق الكوفة الرئيسية.
بهذا الانقلاب حصل الإمام العباسي على حق الحكم والسلطة، لكن مع إبقاء حزب الدعوة ممثلاً في منصب الوزير، وخلال عصور عدد من خلفاء بني العباس الأوائل حاول الوزراء تغيير هذه الحال والاستقلال بالسلطة، وفي ساعة الإقدام على ذلك كان الخليفة يقوم بانقلاب محدود، وهكذا نرى أن غالبية وزراء العهد الأول ماتوا قتلاً، وقصة البرامكة تحوي شهادة واضحة كل الوضوح.
إن استخدام الجيش في أعمال "الانقلابات"، ضد "حزب الدعوة"، شجع عدداً من كبار القادة على التفكير في الوصول إلى منصب الإمامة أو الاستقلال بمنطقة من ديار الخلافة، أو التحكم بمؤسسة الخلافة مباشرة ونجد في حياة كل من عبد الله بن علي وأبي مسلم الخراساني وما قاما به في أيام أبي جعفر المنصور ما يوضح هذه المسألة.
وهذا يشير إلى أن الخلفاء الأوائل باستعانتهم بالجيش في حل مشاكل السلطة السياسية شجعوا الجند على الإقدام على التدخل في السياسة، على عمل خطير للغاية، لعله كان أعظم الإنجازات التي تمت في العصر لكن حدث أن تمكن هؤلاء الخلفاء بطرائق عدة من إبعاد الجيش ولو مؤقتاً عن الصعود إلى مسرح السياسة.
وظاهرة الحكم في الخلافة العباسية جاءت غريبة، فقد قامت السلطة على ثلاث قوى، وكان من المفترض أن يقوم الصراع بين الحزب والجيش ويحكم الخلفاء من خلال عملية توازن بين قوتين متصارعتين، ولكن الذي حدث هو الصراع بين بيت الإمامة والحزب، ولهذا كان الجيش هو المستفيد الأكبر إلى حد أنه حاز السلطة، وبالتالي كانت الخلافة والحزب ثم الأمة الخاسر الأعظم.
وعلى هذا الأساس يمكن أن نقسم تاريخ الدولة العباسية إلى طورين: طور حكم فيه الخلفاء، وطور حكم فيه الجند. وجيش الخلافة العباسية تطور بالأصل عن جيش الثورة الخراساني الذي مثلت فيه العناصر البشرية المتعددة في خراسان، وقد حل محل الجيش العربي للخلافة الأموية، وما لبث أن تحول إلى جيش امبراطوري مثلت فيه عناصر ديار الخلافة كل منها بتقاليدها الخاصة في مجال التسليح والحرب، فقد قامت تقاليد أتراك ما وراء النهر على التسلح بالقوس والنشاب وتقاليد سكان جبال الديلم على التسلح بشكل أساسي بالحراب، وسكان الهضبة الإيرانية على استخدام الرماح من قبل الفرسان الثقال، وكان السيف سلاح العرب الرئيسي، وبصرف النظر عن مشكلة الأسلحة الجماعية الثقيلة فإن كل جيش من الجيوش يشهد في العادة صراعات بين أسلحته المختلفة، وعندما يكون الجيش جيشاً امبراطورياً فإن التنافس بين الأسلحة تغذيه في العادة صراعات شعوب الامبراطورية والجيش الذي حاله على هذه الشاكلة يعاني دائماً من مشاكل أساسية تضعفه بشكل عام وتفقده بالعادة زمام المبادهة بالهجوم واعتماد مبدأ الدفاع في العلاقات الخارجية، والقارئ لتاريخ الخلافة العباسية يعرف أن الفتوحات توقفت زمن العباسيين وأن مناطق الحدود مع الامبراطورية البيزنطية تحولت من قواعد لانطلاق حملات الصوائف والشواتي إلى ثغور دفاعية، كما أن الأسطول قد أهملت قواه بشكل مريع.
وبسبب طبيعة الدولة العباسية وقبل ذلك طبيعة مواريث حزب الدعوة العباسية مع العمل الإداري والسياسة للخلافة، فقد تكون على سطح طبقات المجتمع العباسي طبقة محترفة للعمل السياسي والإداري، وبات هناك العديد من التيارات السياسية.
وباستمرار الصراع بين الإمامة والحزب ازداد تدخل الجيش في سياسة الدولة، وعانى الخلفاء منذ أيام الرشيد من مشاكل الجيش، فلجأ الرشيد إلى شغل الجيش بمحاربة بيزنطة، وبعد الرشيد قامت الحرب الأهلية بين الأمين والمأمون وشغل ضباط الجيش أعظم الأدوار في هذه الحرب، وخاصة طاهر بن الحسين، وفاز طاهر بنصيب وافر من هذه الحرب تمثل في إقامته لدولة شبه مستقلة في خراسان عرفت باسم الدولة الطاهرية، عاشت ما يزيد على نصف قرن من الزمن (205-259هـ/821-873م).
وبعد ما آلت الخلافة إلى المأمون وانتقل إلى بغداد عانى شديد المعاناة من الجيش فعمد إلى الطريقة التي سبق لأبيه أن أخذ بها، حتى أنه أقام داخل منطقة الثغور وهناك توفي، وجاء من بعده المعتصم فواجه لحظة توليه السلطة ذات المشكلة، فعمد إلى حل الجيش واستبدل به جيشاً جديداً قوامه من العبيد ذوي الأصل التركي، لكن دونما فائدة، فالقضية مرتبطة أصلاً بالانحدار العرقي بل بالاحتراف وبإيحاء السلاح وقوته، لذلك زاد تدخل الجيش في سياسة الدولة أواخر أيام المعتصم ثم في عهد الواثق، وبعد الواثق استولى الجند على السلطة حين قتلوا المتوكل على الله.
بإمكان أي جيش الاستيلاء على السلطة وأن يصبح سيد السياسة، لكن القضية لا تقف عند هذا الحد، ذلك أن الجند بحاجة لمن يريد الحكم، والساسة المحترفون بحاجة إلى الاستمرار في ممارسة حرفتهم، وهكذا بعدما يدخل الجيش إلى مسرح السياسة تدخل السياسة إلى الجيش فما تلبث أن تمزقه، وفي جيش امبراطوري مثل جيش الخلافة العباسية يساعد على استشراء عوامل التمزق التركيب الذي قام عليه هذا الجيش، وخلال عمليات الصراع تكثر الانقلابات، ويحدث أن تتمكن فئة من شعب من شعوب الامبراطورية من التحكم بقلب الدولة لفترة من الزمن، وفي طور تحكم الجند كان ضباط القصر الأتراك ثم الديلم وبعد ذلك السلاجقة التركمان أشهر من احتكر السلطة والحكم، لذلك قسم هذا الطور إلى ثلاث مراحل.
لقد نجم عن دخول الجيش على مسرح السياسة ودخول السياسة على الجيش فيما نجم انصراف الجند انصرافاً كاد أن يكون كلياً عن المهام الخارجية، ففرغت الثغور، واتفق هذا مع فترة ازدهار وقوة في الامبراطورية البيزنطية لذلك نشط الاشتباك في منطقة الثغور مع شمالي بلاد الشام، وعبثاً جرت محاولات لإيقافه فأدى ذلك إلى انهيار نظام الثغور وسقوط جزء من شمالي بلاد الشام، وخاصة المناطق الساحلية للبيزنطيين.
هذا وأدى الصراع السياسي بين فئات الجند والساسة في الداخل إلى شلل أجهزة الخلافة العباسية، وكثرة الانقلابات وخلع الخلفاء، وتعدد من ادعى الخلافة في آن واحد، ولجأ عدد من الضباط الذين أخفقوا في صراعات بغداد إلى طرف من أطراف ديار الدولة حيث اقتطعوه وأسسوا فيه دولة مستقلة تستمد الشرعية الرسمية ـ فقط ـ من خلفاء بغداد، وهكذا تمزقت الدولة العباسية، وفقد العالم الإسلامي وحدته السياسية، وسقط كله تحت إدارة أسر ذوات أصل عسكري، ولعل في الدولة الطولونية، والطاهرية، ودول آل بويه، والحمدانية في الموصل وحلب أمثلة شاهدة.
لقد كانت آثار هذا كله: الاجتماعية والاقتصادية والحضارية والعقائدية أكبر بكثير من الآثار السياسية، علماً بأن الحدث السياسي هو في غالب الأحيان نتيجة لسبب غير سياسي.
فمن الجانب الاقتصادي شهدت ديار الخلافة العباسية منذ القرن التاسع للميلاد نماء اقتصادياً كبيراً ونشطت حركة التجارة براً وبحراً كما أنه وجدت صناعات، خاصة من النوع الزراعي لتزويد أسواق التجارة بما تحتاجه، وزاد الاهتمام بالأرض وسقايتها لعطاء زراعي أكبر، وأوليت لذلك السدود والأقنية عناية كبيرة ووجدت مزارع كبرى وورش صناعية ذات حجم لا بأس به، واستورد كبار المزارعين كميات كبيرة من اليد العاملة، استوردوا جلَّ ذلك من أسواق النخاسة خاصة من الرقيق الإفريقي الأسود، وازداد حجم الملكيات الكبرى على حساب الملكيات الصغرى، وصار كبار الملاكين يتحكم كل منهم بعدد كبير من القرى وبسكانها يستغلهم ويستثمر جهودهم بشكل عنيف وقبيح للغاية، وتحوي كتب التاريخ العامة مع كتب الجغرافية والرحلات صورة فيها شيء من الوضوح تزداد بياناً بظاهرة إقبال عدد من كبار الفقهاء بدءاً بأمثال أبي يوسف القاضي، ومحمد ابن الحسن الشيباني ويحيى بن عمير... على تصنيف رسائل في التشريع الاقتصادي والإداري والضرائبي مع أحكام التعامل في الأسواق والحسبة.
وكان كبار التجار والملاكين بحاجة إلى السند الحكومي والغطاء الرسمي القانوني، وكان من السهل عليهم التعامل مع المؤسسات العسكرية الحاكمة، فالجند أكثر إقداماً على اتخاذ القرارات دون حساب للنتائج، وحين اتكأ رجال المال والاقتصاد والزراعة على الجند، اتكأ الجند عليهم أيضاً، فقد كان الجند بحاجة ماسة إلى المال، ونظراً لتمزق الدولة إلى دول صارت موارد ميزانية كل دولة لا تكفي حاجة الجند الحاكم، وتم في البداية الإقبال على استهلاك ا لاحتياطات ثم على زيادة الضرائب المباشرة وغير المباشرة وعمدت كل فئة من الجند إثر كل عملية انقلاب أو وقت الحاجة إلى أعمال المصادرة بشكل تصفوي شديد، كما اضطرت بعض الحكومات أحياناً إلى احتكار كل من تجارتي الاستيراد والتصدير، ولم تؤدِّ هذه الإجراءات في غالب الأحيان إلى شفاء المرض وسدَّ الحاجة، لذلك أقبلت الإدارات على إحالة بعض الجند على مغلات بعض الأراضي، وقد أدى هذا إلى قيام الإقطاع العسكري ثم تطوره بسرعة كبيرة مؤثرة.
وفي عودة ثانية نحو الدعوة العباسية نرى هذه الدعوة قد شجعت بشكل غير مباشر جميع العقائد التي كانت موجودة قبل الفتح الإسلامي على التحرك ضد الحكم الأموي، وفقط عندما كانت بعض هذه الحركات تعلن العداء الصراح للإسلام، كان بيت الإمامة يعلن براءته من ذلك، يضاف إلى هذا أن الدعوة العباسية بالأصل كانت مرتبطة بتيار شيعي متطرف هو تيار الكيسانية، وعندما وصل العباسيون إلى السلطة واجهوا الحركات اللاإسلامية ـ الراوندية مثلاً ـ كما اصطدموا بفرق الشيعة، وكان لهذا آثاره على جميع الفئات، فمن جانب اضطر العباسيون منذ أيام المنصور إلى تبديل مواقفهم، واعتمدوا سياسة دينية خاصة، فقد حل عبد الله بن العباس في المكانة محل علي بن أبي طالب وضُغِطَ على العلماء لمسايرة رغبات الخليفة المنصور، ولعل تراجم الأئمة عمرو بن عبيد، وأبي حنيفة النعمان بن ثابت ومالك بن أنس ومحمد بن إسحاق بن يسار فيها من الشواهد مايكفي، فقد كانت العلاقات بين المنصور وعمرو بن عبيد متينة للغاية، ثم حينما رفض أبو حنيفة تسلم منصب القضاء اعتقل وامتحن، حتى عدَّ ذلك سبباً لموته، وسجن الإمام مالك وامتحن، ثم بعد ذلك صنف كتاب الموطأ بناء على رغبة المنصور وخططه، وبناء على رغبة من المنصور أعاد ابن اسحق كتابة مصنفه في السير والمغازي بشكل عباسي، وبعد المنصور رضي تلاميذ أبي حنيفة بتسلم المناصب السامية في بغداد، كما لم يجد خريجو مدرسة الإمام حرجاً كبيراً في المشاركة في السياسة والقضاء وغير ذلك في القيروان وقرطبة، ولعل في سيرة الأئمة، محمد بن الحسن الشيباني، وأبي يوسف القاضي، وأسد بن الفرات، وسحنون ما يكفي للدلالة والبيان.
ونجد عندما نستعرض أخبار البلاط العباسي في بغداد ومجالس الخلفاء نجد العلماء من فقهاء وفلاسفة وأدباء وسواهم حضوراً في كل مناسبة ووقت، كان ذلك تشجيعاً وإكراماً لهم واحتفالاً بهم وصار ذلك إحدى أدوات الخلافة وغدت كتبهم أحياناً تصنف لتهدى إلى واحد من رجال السلطة إن لم يكن تم صنيعها بناء على رغبة من رجل له مكانته في السلطة أو في الجيش أو في مجالات المال والزراعة.
وعندما حل التمزق بساح الدولة العباسية، وقامت الدول المستقلة، يلاحظ أن كل دولة مهما كان حجمها وإمكاناتها المادية صار لها بلاطها الشبيه ببلاط بغداد فيه علماء وشعراء وأدباء، وصحيح أن هذا أدى العديد من المنافع، فعلى الرغم من التمزق السياسي والقلاقل لم تتأثر حركات العطاء الفكري لا بل ازدادت نمواً بشكل ملحوظ للغاية، إنما من جهة ثانية كان المردود من الجانب الاجتماعي ثم العقائدي مريعاً، ففي الماضي عندما مالت السلطة منذ أيام الخليفة الراشدي الثالث عثمان بن عفان تصدى لها حملة التراث والعلم، وفي زمن بني أمية رفض العلماء التعامل بأي شكل من الأشكال مع السلطة، بل قاد العلماء نوعاً من المعارضة الفكرية الشديدة الفعالية، أما الآن فقد ارتبط العلماء خاصة الذين مثلوا التيارات السنية بالسلطة، وتورطوا في مشاكل الصراعات السياسية، حتى إن بعضهم وجد نفسه في وضع المسوغ لما لا يمكن تسويغه، خاصة أيام استبداد الجند بأمور السلطة والحنابلة بزمام شارع بغداد.
وفي وقت تنحصر فيه الثروات في أيد قليلة، ويلهث رجال السلطة وراء الذهب والمتاع، يحل الفقر والتعاسة والشقاء في ديار جماهير الأمة، وفتشت الجماهير عن مخرج فلم تجده لدى الذين ادعوا وراثة أبي ذر وأصحابه ولم يعد بالإمكان الاستمرار في المناقشات الدينية وتقديم قصائد فحول الشعراء بديلاً للأمن والخبز والعدالة.
لقد انعدمت الثقة بين العلماء والجماهير وقامت ثغرة كبيرة بينهما حاولت قوى عديدة شغلها، فحققت بعض النجاح الوقتي ربما عن طريق حركات ذات صبغة اجتماعية مثل حركة العيارين والشطار أو عن طريق ثورات متنوعة مثل حركات الزط والزنج وإلى حد ما حركة الصفارين، وفقط ملأت فئة محكمة التنظيم واضحة الأهداف هذه الثغرة لمدةً زادت على القرنين من الزمان فتحكمت بالفكر والفلسفة والعقيدة ومبادئ الإصلاح، وقد شهرت هذه الحركة باسم الحركة الإسماعيلية، والحديث عن هذه الحركة وأدوارها يستدعي بالضرورة استعراض تاريخ التشيع، إنما بشكل سريع:
لقد واجه المسلمون أولى أزماتهم السياسية الكبرى يوم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وتم تجاوز هذه الأزمة باختيار أبي بكر الصديق لقيادة الأمة خليفة عن النبي، وفي تاريخ الإسلام في عصر النبوة كان أبو بكر "ثاني اثنين"، ومنذ إسلام عمر غدا ابن الخطاب ثالث الاثنين في سلم الزعامة الإسلامي، لذلك عندما توفي أبو بكر صار عمر بن الخطاب الخليفة الثاني لرسول الله، وأراد عمر إيجاد قاعدة لاختيار الخلفاء تكون دائمة، لكنه اغتيل قبل أن يتمكن من تحقيق هدفه، ويمكن أن نرى الملامح الأساسية لهذه الخطة في وصيته حول شورى الستة، فبعدما توفي عمر اجتمع الباقون الأحياء من الصحابة العشرة المبشرين بالجنة، وكان أبرز المرشحين بينهم علي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان، وريثاً بيتي الزعامة القرشية لمكة قبل الإسلام، وتم اختيار عثمان، فعارض ذلك علي، فعاد التنافس والتناحر مجدداً بين آل هاشم وبني أمية.
على أنه يبدو أن طموح علي إلى الخلافة لم يُولَد يوم شورى الستة، بل سبق ذلك بوقت طويل، إنما الذي حدث بعد شورى الستة هو تحول هذا الطموح إلى عمل معارض معلن، وظل الحال هكذا حتى انفجرت حوادث الفتنة الكبرى وقتل عثمان، وهنا تم اختيار علي للخلافة.
لقد كانت التركة التي ورثها علي ثقيلة للغاية، فقد وجد نفسه أمام عدد لا يحصى من المشاكل، وعلى رأس جماعة من الثوار، قادوا ثورة هو لم يخطط لها، ولم يكن من المشاركين في تفجيرها ووضع أهدافها، واضطر علي إلى خوض غمار عدد من الحروب الأهلية، وانتهت حياته بالاغتيال السياسي، ومكَّن هذا الاغتيال معاوية بن أبي سفيان من الاستحواذ على مقاليد الحكم في الدولة الإسلامية، فصار سيد أهل الإسلام وريثاً لأبيه سيد أهل الجاهلية...
ولم يمر حادث استيلاء معاوية على السلطة دون معارضة، ولما كان العراق المتضرر الأول والأكبر من استحواذ الأمويين على السلطة فإن غالبية عناصر المعارضة تجمعت في العراق، وكان معظم هذه الغالبية من أهل الكوفة ـ عاصمة علي بن أبي طالب ـ فقاموا أولاً باختيار الحسن بن علي، وبعد وفاة الحسن وقع الاختيار على أخيه الحسين، ومع الأيام انتظمت أمور المعارضة، وخلال عدد من الحوادث والأزمات تحولت حركات المعارضة من حركات سياسية ترى أحقية أسرة محددة في السلطة إلى حركات دينية سياسية.
وفي العربية شيعة فلان أصحابه ومؤيدوه، فشيعة علي، حزب علي، وفيما اقتصر الناس على استخدام عبارة شيعة للدلالة على الحزب الذي تزعمه آل علي بن أبي طالب، وكان لهذا الحزب جولات مع السلطة الأموية أثرت بشكل عميق للغاية في عقائده وأفكاره، من ذلك عقيدة الإمامة، فقد قيل بأن هناك خلافة وإمامة، والخلافة وراثة سياسية لصلاحيات النبي السياسية التي وجدت بعد الهجرة، والإمامة زعامة دينية فيها وراثة لجانب النبوة عند الرسول عليه الصلاة والسلام، وحين حاز معاوية السلطة فقد اغتصب الخلافة وبقي لزعماء الشيعة حق الإمامة، ذلك أن هؤلاء أقاموا دعواتهم على حق الوراثة بالتعيين والشريعة للنبي صلى الله عليه وسلم.
ومع الأيام غدت الإمامة ذات العلم الموروث محور العمل الشيعي، وأغنيت فكرتها، وزودت بكثير من المعاني والصفات بفضل التطور الثقافي والحضاري والسياسي الذي حصل في المجتمع الإسلامي، وتفتحت جوانبها للنظر والتأمل في كثير من المعاني والصفات والتجارب من تراث الديانات السماوية وغير السماوية، ومن الأفلاطونية المحدثة، والغنوصية وحكمة الشرق الأقصى.
وأسهمت ثورات الشيعة بشكل كبير في إسقاط الخلافة الأموية، لكن الحكم آل إلى أبناء عم آل علي من بني العباس، وكان لهذا آثاره خاصة على خط الإمامة من أبناء الحسين بن علي، الذي كان يتزعمه الإمام السادس جعفر الصادق، فقد انقسم هذا الخط إلى تيارين: متطرف، ومحافظ..
ودون الدخول في متاهات المقالات "اللاهوتية" وتوزيع الأدوار على عدد من الرجالات، حيث كفانا مؤونة ذلك كتاب الفرق مع عدد من الباحثين المعاصرين، يكفي القول بأن الجماعة الجديدة قالت بأن الإمام بعد الصادق هو ابنه البكر اسماعيل، وعلى الرغم من وفاة اسماعيل أيام أبيه فقد قالت الجماعة هذه بأن الخلافة انتقلت حكماً ونصاً إلى محمد بن اسماعيل الذي يعرف عادة باسم محمد المكتوم، ذلك أن دعوة هذا الفرع التي اتسمت بالتطرف والعلمية في التنظيم دخلت في مرحلة من التكتم الشديد وباتت تعرف باسم السبعية أو الاسماعيلية وغير ذلك من الأسماء.
لقد شكَّل القوم الذين تبعوا اسماعيل، بعد عمل سري طويل، فرقة فاقت في إعدادها المحكم، وتنظيمها الدقيق المتقن، في مجال الفكر الفلسفي والثقافي العالي مع الإثارة العاطفية والانفعال، فاقت به كل الفرق التي سبقتها أو نافستها، ففي مكان العمل المشوش للفرق السابقة، والإيمان البدائي، والاعتماد على الفورات العاطفية أحكم عدد من العلماء ذوي القدرات الخارقة و العقول الجبارة نظاماً جديداً للعقيدة الإسماعيلية على مستوى فلسفي في غاية الرقي، وأنتجوا أدباً رفيعاً، بدأ الآن رجال عصرنا بالاعتراف بقيمته وأثره.
لقد قدم الاسماعيليون أمام ذوي الورع احتراماً كبيراً للقرآن والحديث والشريعة، ومسايرة للعقيدة الشعبية السائدة الظاهرة، وقدموا للمثقفين شرحاً باطنياً فلسفياً للكون، اعتمد على توسعه مصادر الثقافات الشرقية القديمة والكلاسيكية، وخاصة الفكر التأويلي والإشراقي من الأفلاطونية المحدثة.
وقدم رجال الإسماعيلية للصوفية والروحانية مادة فيها الدفء العاطفي والعرفان مع الحب السامي المؤدي إلى التحام الكائنات ووحدة الوجود، ودعم هذا كله بأمثلة وشواهد مما عاناه الأئمة ومن تضحياتهم في سبيل أتباعهم، وتم عرض هذا بمجمله وقدم في صيغ معارضة للنظام القائم، وهادمة له، فكان في ذلك سحر الثورة، وحرارة العمل المعارض.
وفي الوقت الذي ازدهرت فيه الحركات الفكرية من كل نوع واشتدت النزعات الاجتماعية، شرع بعض الناس يلتمسون طرقاً جديدة وحلولاً مبتكرة حتى جنح فريق إلى الخيال والآمال فأغنى صور المهدي المنتظر، وجعله يتمثل في أنواع من الشخصيات وهذا ما نشهده في كتاب الملاحم والفتن لنعيم بن حماد (ت: 227هـ)، الذي صنف في مطلع القرن الثالث.
وفي هذا القرن قامت الدعوة الإسماعيلية وانتشرت انتشاراً واسعاً، وهكذا ما إن حلت نهاية القرن التاسع للميلاد حتى كان قد تم للإسماعيلية البروز في مناهج التفكير الإسلامي، وفي تفكير الفلاسفة، وتغلغل تأثيرهم الموجه إلى جوف نظم الثورة وأفكارها وإلى حركات العدالة والمناداة بالمساواة في بلاد الإسلام، كما حصل لدى العامة شعور بدنو النصر، وقرب ساعة التحرير، وروجوا لهذا عن طريق فكرة الإمام المهدي المنتظر، الذي سيخرج عندما يحين الوقت فيعلن القيامة، والقيامة هنا ليست نهاية الحياة، بل نهاية للشرائع والنظم القائمة وتحرير الإنسان من كافة الأغلال والقيود والفوارق تحريراً كاملاً ومطلقاً.
لقد ابتغت الدعوة الإسماعيلية إسقاط الخلافة العباسية، واستهدفت السيطرة على العالم أجمع بما في ذلك العالم الإسلامي، وحتى يسهل نشر الدعوة اعتبرت العالم مقسوماً إلى عدد من الجزر وكل جزيرة إلى عدد من المناطق، ووجد في كل منطقة من يتولى أمر الدعوة وفي كل جزيرة داعٍ، وسيِّر الدعاة جميعاً من قبل داع للدعاة ارتبط بالإمام وسيِّر من قبله، وأولت الدعوة الإسماعيلية شؤون الدعاية عناية كبيرة مستمرة ودائماً وجد مركز لتدريب الدعاة وتخريجهم، وكانت الدعوة تختار بعض المستجيبين والمريدين فتبعث بهم من بلدانهم إلى مركز تدريب الدعاة وهناك قد يرسلون إلى بلدانهم بعد تخرجهم أو يبعث بهم إلى مناطق أخرى لتنفيذ مهام محددة.
ومن الصعب تعرَّف البلدان التي اتخذت مراكز للتدريب والتخريج وذلك قبل قيام الخلافة الفاطمية في أواخر القرن الثالث للهجرة في تونس، فبعد قيام هذه الخلافة غدا مركز تخريج الدعاة في إفريقيا، ويبدو أنه انتقل إليها من جنوب اليمن، وبعدما انتقلت الخلافة الفاطمية إلى مصر، وبنيت القاهرة، بني في القاهرة مركز جديد لتدريب الدعاة هو الجامع الأزهر الذي ظل يعمل لهذه الغاية حتى إلغاء الخلافة الفاطمية من قبل صلاح الدين الأيوبي(1).
وتخرج من دار الدعوة في القاهرة عدد من الدعاة الكبار، لعل من أشهرهم الرحالة الإيراني، والفيلسوف الشاعر ناصر خسرو، ومن بعده حسن الصباح مؤسس الدعوة الإسماعيلية الجديدة ـ الحشيشية ـ وهنا تجدر الملاحظة أن بعض رجالات الإسماعيلية رحلوا باتجاه القاهرة لكنهم لم يصلوها، وربما كان ابن سينا أشهر من عرف بين هؤلاء.
ليس بودي هنا الوقوف طويلاً لأترجم لابن سينا (980-1036م)، فأتحدث عن مراحل حياته وجوانب عبقريته المبدعة ـ فهذه مهمة لاشك أن غيري من المسهمين بهذا العدد قد تولاها بكفاءة اختصاصية ـ بل أريد الحديث عن عصره وخاصة من الجانب السياسي، فأنتقل من الوصف التقديمي العام، وسأهتم بالأراضي الشرقية من ديار الخلافة العباسية، ولما ضعفت السلطة المركزية لخلفاء بغداد قامت في كثير من المقاطعات دول متفاوتة من حيث القوة والحجم والعظمة، دان غالبيتها اسمياً بالطاعة لخليفة بغداد العباسي، وأهم الدول التي قامت بالمشرق في خراسان وبلاد ما وراء النهر هي: الدولة الطاهرية(205-259هـ/821-873م)، والدولة الصفارية(253-298/هـ/867-910م)، والدولة السامانية (204-395/819-1005م)، والدولة الخوارزمية(305-407هـ/995-1097م)، والدولة القراخانية (382-607هـ/992-1211م). والدولة الغزنوية (366-582هـ/977-1186م).
والذي يعنينا هنا مباشرة هو الحديث عن الدولة السامانية ففيها كانت بداية نشأة ابن سينا، ثم الغزنوية، والقراخانية:
تنسب الدولة السامانية إلى سامان خداه، فهو جد الأسرة السامانية، وكان بالأصل دهقانا من مدينة بلخ، المدينة العريقة فمنها كان يعبر نهرها ـ جيحون ـ إلى ما وراء النهر، وفيها التقت وتفاعلت حضارة الهضبة الإيرانية والشرق الأقصى مع الحضارة الهلنستية.
فرَّ سامان خداه إلى مدينة مرو، وفيها أسلم على يد واليها أسد بن عبد الله أخو خالد بن عبد الله القسري والي العراق، لهشام بن عبد الملك، وكان أسد بن عبد الله قد أكرم سامان خداه حين وفد عليه "وحماه وقهر أعداءه وأعاد إليه بلخ"، ولما رزق سامان خداه فيما بعد غُلاماً أسماه أسداً لمحبته إياه".
وسقطت الخلافة الأموية، وحل محلها العباسية، وفي عهد المأمون خدم أولاد أسد الأربعة الخليفة المأمون العباسي فكافأهم بأن عين نوحاً والياً على سمرقند، وأحمد على فرغانة، ويحيى على الشاش، والياس على هراة، وهكذا وطد السامانيون أنفسهم وحصلوا على مكانة طيبة في منطقة ما وراء النهر، وفي سنة (263هـ/875م)، قام الخليفة المعتمد بتعيين نصر بن أحمد والياً على جميع بلاد ما وراء النهر، وبهذا التعيين قامت الدولة السامانية فعلاً، وغدت منطقة ما وراء النهر الغنية قلباً لها.
وتولى السامانيون مسؤولية المواجهة ما بين الإسلام وبداة سهوب ما وراء النهر، وأخذ السامانيون على عاتقهم أمر حماية الأراضي الإسلامية من غزوات هؤلاء البداة، وخاصة الأتراك منهم، مع تأمين استمرار التجارة وتدفق البضائع، ونجحوا في تحقيق ذلك عن طريق الدفاع، بإقامة الرباطات في الثغور، وعلى طريق الهجوم بالقيام بحملات على مناطق سكنى الأتراك داخل السهوب، وبذلك أضعفوا تجمعات الأتراك، ومدوا نفوذهم وهيبتهم إلى داخل السهوب، وهكذا أمن السامانيون الاستقرار السياسي والاقتصادي لبلادهم مما مكنهم بعد ذلك من الالتفات نحو خراسان ومنذ القرن التاسع تدفق من أراضي السامانيين سيل من الرقيق التركي الأبيض على بغداد، وغيرها من مراكز دول الإسلام في المشرق، ولقد استخدم غالبية هؤلاء العبيد في جيوش خلفاء بغداد وحكام دويلات الشرق.
وكانت مدينة بخارى مركز الدولة السامانية، وفي بلاط السامانيين تجمعت مكتبة كبيرة شاملة، ووجدت أعداداً كبيرة من العلماء، وعاشت الثقافة العربية الإسلامية مزدهرة، ولكن الأهم من هذا هو أن هذا البلاط شهد بعث اللغة الفارسية مع الثقافة الإيرانية، وأسهم في نموها، ففي زمن السامانيين بدأ الفردوسي بنظم الشاهنامة ملحمة فارس القومية.
ومسألة بعث اللغة الفارسية الجديدة- وإن رافقها في البداية ازدهار للثقافة العربية- ذاتُ خطر تستحق وقفة خاصة نثير فيها مسألة انتشار اللغة العربية في أراضي الدولة الإسلامية، ومراحل الاستعراب في الأراضي الشرقية، ثم بداية انحسار هذا الاستعراب وتعرضه لعظيم الانتكاسات، وإفضائه إلى مرحلة حلت الفارسية فيها محل العربية، فمن المعروف أن اللغة العربية انتقلت إلى إيران وخراسان مع الفاتحين العرب، وعاش الفاتحون العرب في البداية على شكل تجمعات قبلية سكن غالبيتها أولاً حول مدينة مرو، وكان العرب هم جند خراسان، يحكمون، يجمعون الجزية والخراج، بل قد يتحاربون فيما بينهم أثناء الأزمات المبكرة لأواخر العصر الراشدي وبداية العصر الأموي، لكن دون أن يكون للسكان المحليّين شأن مباشر أو غير مباشر في كل هذا.
إنما نلاحظ منذ أواخر أيام فتنة ابن الزبير وبداية عصر عبد الملك بن مروان قيام عدد من أفراد المسالح العربية بسكنى المدن في خراسان، كما نسمع عن بداية تحول إلى الإسلام من قبل بعض السكان المحليين في خراسان، وبسرعة كبيرة ازدادت حركة التحول هذه، وكان المتحولون ينالون الولاء لإحدى القبائل العربية، فالتحول كان اعتناقاً للدين الإسلامي واستعراباً في نفس الوقت، وأدرك عبد الملك بن مروان هذه القضية الهامة، فأقدم الأموي، وهذا العمل هو ما عرف بتعريب الدواوين والدينار العربي، وكان أبسط معاني قرار التعريب هو مواكبة العمل الرسمي للعمل الشعبي، وهكذا استمر الأمر حتى حصلت في خراسان حركة تجانس كبيرة، ونشطت دعوات تنادي بإنشاء الأمة الإسلامية المستعربة، وتجاوبت بعض أجنحة الأسرة الأموية مع تيارات هذه الدعوات وتجلى هذا ووضح يوم تسلم عمر بن عبد العزيز الخلافة، وعلى الرغم من الانتكاسات التي لحقت تيارات هذه الحركات بوفاة عمر بن عبد العزيز فقد ظلت قوية حتى جاءت الدعوة العباسية، فقد أراد العباسيون تشجيع جميع القوى المناهضة، وكان بين هذه القوى ورثة الديانات والعقائد الماضية وحين استهدفت هذه القوى الإسلام استهدفت معه الاستعراب، ومن هذا المنطلق نفهم منطق التوصيات التي صدرت عن إبراهيم الإمام إلى أبي مسلم الخراساني، بألاَّ يُبقي في خراسان عربياً، كما نفهم انفجار حركات الزندقة والشعوبية وتعاونهما في آن واحد مع قيام الدولة العباسية وهكذا تراجع الاستعراب في خراسان إلى درجة حولت فيها الفارسية من لهجات شعبية إلى لغة جديدة لها أدبها.
وفي عودة إلى تاريخ الدولة السامانية نرى أنه في سنة (287هـ/900م)، ربح اسماعيل بن أحمد ثقة سلطات بغداد وخليفتها، وذلك بعد أن هزم عمرو بن الليث الصفار، لذلك عين والياً على خراسان وذلك بالإضافة إلى بلاد ماوراء النهر، وبهذا غدا السامانيون قوة هائلة تحكم أراضي شاسعة تمتد من جهة إلى أراضي البويهيين وممتلكاتهم في العراق وإيران، ومن جهة أخرى إلى أطراف أفغانستان المتصلة بحدود الهند، ولما كان السامانيون بشكل عام من أهل السنة، وكان البويهيون شيعة، وهذا مع تضارب المصالح ومطامع التوسع، لم يكن بد من أن تصطدم قوى الطرفين، ولكن هذا أمر لا يمكن استيعاب بحثه هنا.
وفي منتصف القرن العاشر بدأت علامات الضعف والتفتت تظهر في جسم الامبراطورية السامانية. لقد بدا هذا في عدد من ثورات وانقلابات في البلاط قادها بعض القادة العسكريين، لهذا لم يكن صعباً أن انفصلت خراسان عن سلطة بخارى، ثم لم يكن صعباً على الغزنويين والفراخانيين الإجهاز على الدولة السامانية ووراثتها. القراخانيون فيما وراء النهر والغزنويون في المناطق الأخرى(2).
***
لقد احتلت بخارى عاصمة الدولة السامانية، وطرد منها آخر أمير ساماني من قبل بغراخان هارون (أو حسن) الذي كان يعرف بلقب ايلك خان، وعرفت أسرة هارون باسم الايلك خانية، ولكن لما كان الكثير من أفراد هذه الأسرة استعملوا كلمة "قره" ـ تعني أسود أو شديد القوة ـ رديفاً لأسمائهم، فقد أطلق المستشرقون اسم "القراخانية" على هذه الأسرة، وهكذا فإن اسم "القراخانية" هو إذا اسم محدث بديل للايلك خانية.
لقد ادعى أفراد هذه الأسرة أنهم من نسل أفراسياب البطل التركي الأسطوري في "الشاهنامة"، ولكن يبدو أنهم كانوا في الواقع عبارة عن البيت الحاكم لإحدى المجموعات التركية التي عرفت باسم "القَرْلُق"، وهي مجموعة قد قامت بدور هام ومؤثر في التاريخ القديم للترك من سكان السهوب. وقد أسلم القراخانية في منتصف القرن العاشر، كما هو مرجح وتبنوا أسماء وألقاباً إسلامية، ويظهر أن بغراخان جد فاتح بخارى هو أول من أسلم، وتسمى باسم عبد الكريم، وأقام القراخانية بعد قضائهم على السلطة السامانية امبراطورية واسعة سيطرت على بقاع شاسعة من بلاد ما وراء النهر، وأقامت هذه الدولة علاقات خاصة بالامبراطورية الغزنوية، وعلى العموم شكل نهر جيحون لفترة طويلة الحد الفاصل بين هاتين الدولتين.
هذا وفي الحقيقة كانت الامبراطورية القراخانية عبارة عن اتحاد قبلي، ولم تكن قط دولة مركزية متحدة، فعلى الرغم من أنه كان على رأسها حاكم حمل لقب "خان"، فلقد وجد أحياناً عدد من أفراد الأسرة الحاكمة، وسادة القبائل، ادعوا لأنفسهم نفس اللقب، أو ألقاباً من الدرجة الثانية، وبسبب أنه وجد في نفس الوقت أكثر من حاكم من نفس الأسرة حمل نفس الاسم واللقب، ثم بسبب قيام الخلافات والحروب الداخلية بين أمراء الامبراطورية، فإنه من الصعب ـ إن لم يكن من المستحيل ـ الوصول إلى صورة واضحة يقينية مفصلة حول سلسلة حكام القراخانية"(3).
لقد كان للحروب الداخلية بين وحدات القراخانية والصراعات التي أدت إلى تصفية الدولة السامانية آثارها على شعوب السهوب، حيث حدثت تحركات كبيرة بين قبائل السهوب، وأقبل بعضها على دخول الإسلام، ولعل أهم المجموعات التي دخلت الإسلام مجموعة الغز، التي نبغ بينها قبائل التركمان التي تزعمتها أسرة السلاجقة.
جاء الغُزّ إلى منطقة بخارى، وتورطوا في الأعمال والاضطرابات التي أدت إلى إسقاط الدولة السامانية، كما وجدوا أنفسهم طرفاً في النزاعات بين أمراء القراخانية، وهذا يعني أنهم كانوا جاهزين لتقديم خدماتهم لمن يطلبها ويدفع أكثر، ومع ازدياد الفوضى التي رافقت زوال الدولة السامانية كان هناك حاجة ماسة إلى المقاتلين، وكان هناك من يدفع بسخاء سواء في مناطق ما وراء النهر أو في الجهة الأخرى حيث محمود الغزنوي ومشاريعه التوسعية التي كانت تحتاج إلى أعداد كبيرة من المقاتلين.(4).
إن هذا كان نقطة البداية لعبور التركمان إلى خراسان الأمر الذي سيقود نحو قيام السلطنة السلجوقية، وهذه مسألة لا حاجة لبحثها الآن، فالحاجة تدعو إلى تعرف تاريخ الدولة الغزنوية. فلقد ذكرنا أن الدولة الغزنوية كانت شريكة الدولة القراخانية في الاستيلاء على ميراث الدولة السامانية، وتنتسب هذه الدولة إلى مدينة غزنة ـ إحدى مدن أفغانستان الحالية، وتقع في جنوب غربي كابل العاصمة ـ ومؤسس هذه الدولة هو سبكتكين، الذي كان عبداً تركياً من ضباط الجيش الساماني، ولقد كان استلامه لحكم غزنة في سنة 366هـ/977م.
في الحقيقة أن قصة قيام الدولة الغزنوية تبدأ قبل هذا التاريخ بعدة سنوات، ففي عام (350هـ/961م)، توفي الأمير الساماني عبد الملك بن نوح، "ولما دفنوه ثار العسكر و تمردوا، وطمع كل شخص في الملك، وظهرت الفتن"(5)، وكان الاسفهلار (أي القائد) ألبتكين في نيسابور حين بلغه خبر وفاة الأمير فقصد الحضرة للقبض على الأمير" السامائي الجديد ومن ثم إحلال نفسه محل الأمير عبد الملك على عرش السامائيين، وأخفق ألبتكين.. وأجبر على الفرار، فذهب إلى غزنة واستقر بها، وكان بصحبته غلمانه وقواته الخاصة، وبعد وفترة تصالح ألبتكين مع الأمير الساماني الجديد لبخارى وهو منصور بن نصر، ونظراً لقرب الأراضي الأفغانية من أراضي الهند غير المسلمة، شغل الضباط ألبتكين وجنده أنفسهم بالغارة على هذه الأراضي، وربما كان القصد الأساسي من هذه الغارات كسب المغانم، إلىجانب هدفها نشر الإسلام، ولقد لقب الكثير ممن كانوا يقومون بها نفسه بلقب الغازي، ولقد ظل ألبتكين وضباطه تابعين اسمياً للدولة السامانية، وبعد وفاته خلفه أحد ضباطه واسمه سبكتكين.
وبعدما استلم سبكتكين زعامة الجيش لم تنقطع أعمال الغارة على السهول الهندية، واستمر الاعتراف بالسيادة السامانية، ولكن عقب وفاة سبتكتكين في سنة (387هـ/997م)، أصبحَ ابنُه محمودٌ صاحبَ السلطة في غزنة غدت الدولة الغزنوية دولة مستقلة عن السامانيين، ونظم محمود أعمال الإغارة على الأراضي الهندية، وحولها إلى أغراض توسع وفتوح وجهاد، وبذلك نال محمود لقب الغازي عن جدارة، وأصبح من أكثر شخصيات عصره شهرة، فلقبته الخلافة العباسية بلقب يمين الدولة.
ولقد استطاع محمود توسيع رقعة دولته، فأوصل حدودها الشمالية إلى جيحون، وبعد ذلك تجاوزه فقام بضم واحة خوارزم إلى امبراطوريته، وحقق الاتفاق مع الدولة القراخانية، ثم التفت نحو خراسان فأخذها، وبات يتطلع نحو بغداد، لنيل لقب "سلطان"، وليقضي على حكم الأسرة البويهية الشيعية فيها، وأخذ مكانها في التحكم بخلفاء بغداد، ذلك أن محموداً كان سنياً شافعياً متشدداً.
لقد حاولت الدعوة الإسماعيلية كسب محمود إلى جانبها فأخفقت، وقام هو بمطاردة أتباعها وشجع على البعث السني الذي سيصل إلى ذروة نجاحاته بقيام السلطنة السلجوقية وتأسيس المدرسة النظامية في بغداد، وكان ذلك بعد وفاة محمود.
وعندما مات محمود في سنة (421هـ/1030م)، كانت امبراطوريته أضخم امبراطوريات عصره، ومن أعظم الدول التي قامت في تاريخ الإسلام، وكان جيشه وقواته الحربية على غاية من القوة والعظمة وجودة التسليح، وفي زمن محمود وبسبب طبعه وشغفه بالأبنية تطورت التقاليد الفارسية الأوتوقراطية في الحكم مع الثقافة الإيرانية.
ومحمود هو الذي جلب التركمان إلى خراسان، وفي أواخر حياته واجه بداية مشاكلهم في خراسان، فاستطاع أن يدرك تفجيرها، وتمكن من أن يؤجل هذا التفجير وذلك بما أوتيه من حزم وبصيرة، ولكن لما كان ابنه وخليفته مسعود لا يتمتع بصفات والده ومؤهلاته الحربية والإدارية، فقد أخفق في حل مشكلة التركمان عندما واجهها، واستطاع التركمان فيما بعد أن يقهروا مسعوداً ويستخلصوا منه خراسان، ولكن فقدان خراسان، ومآلها إلى السلاجقة التركمان لم يعنِ أبداً نهاية الدولة الغزنوية، بل استمرت هذه الدولة تحكم شرقي أفغانستان وشمالي الهند، واستمر هذا الحال حتى قيام الدولة الغورية التي استطاعت تصفية الغزنويين والقضاء على دولتهم في سنة (582هـ/1186م)..
لقد احتاجت الامبراطورية الضخمة التي أسسها محمود مع قواته العسكرية الكبيرة وبلاطه الضخم إلى تكاليف باهظة ومبالغ من المال هائلة، وما كانت المبالغ التي كانت تحصل من الغارات على الهند لتكفي سد أكثر من جزء من النفقات، ولهذا فرض الغزنوين ضرائب ثقيلة على خراسان، وحصلوها دون تهاون وبأعنف الوسائل، وأفقرت هذه السياسة المالية خراسان، وجعلت الحكم الغزنوي غير محبوب على مختلف المستويات، كما أن هذه السياسة سببت تدهوراً اقتصادياً في خراسان وفقراً عاماً، مما أدى إلى هجرة بعض التجار والدهاقين إلى خارج خراسان، ولاشك في أن هذه الحالة كانت من أسباب نجاح السلاجقة في انتزاع خراسان من الغزنويين، على أنه رغم سوء الأحوال الاقتصادية وثقل الضرائب فقد كانت غالبية عامة الخراسانيين ساكتة عن الحكم الغزنوي، أو حتى راضية عنه، لقوة هذا الحكم، ولاستطاعته تأمين الحماية الخارجية مع الأمن الداخلي، لكن ما إن مات محمود حتى تغير كل شيء.(6).
لقد سقطت الدولة السامانية سنة (395هـ/1005م)، وكان ابن سينا وقتذاك في الخامسة والعشرين من عمره، ومن الظنون أنه في هذه الفترة ترك بخارى وتوجه نحو العراق متطلعاً نحو قاهرة الفاطميين، و كانت بلدان العراق مع أجزاء من إيران تحت إدارة أمراء من آل بويه الديلم، لذلك نحن بحاجة إلى التعرف إلى شيء من تاريخ آل بويه، وخاصة أن ابن سينا أمضى حياته بعد مغادرته بخارى في أراضي البويهيين ولم يصل إلى مصر.
يقع إلى شمال الهضبة الإيرانية بلاد مرتفعة سكنت من قبل شعب اتسم بالقسوة وحب القتال والاستقلال، وقد اعتبر هذا الشعب من قبل سكان الهضبة الإيرانية شعباً أجنبياً، ونظر إليه بخوف وحذر، ولم يستطع حكام إيران في العصور القديمة إخضاع هذا الشعب بشكل عام وفعال، حتى أن الدولة الساسانية قد وجدت من الضروري الاحتفاظ بحصون على الحدود هي خطط دفاعية ضد غاراته.
وبعد قيام الإسلام، والشروع بالفتوحات الكبرى اصطدم العرب بهذا الشعب، وعرفوه باسم الديلم، ولم يفلح العرب في إخضاع الديلم بقوة السلاح، ويروى أن الحجاج بن يوسف الثقفي عندما أراد فتح بلاد الديلم، أمر بتصوير هذه البلاد حتى يعدّ خطة لفتحها، وحدث أن زاره وفد ديلمي فعرض عليه الحجاج الصورة، ودعا الشعب الديلمي إلى الاستسلام، قبل أن يغزو بلادهم، ويخرب أراضيهم، فنظر رجال الوفد إلى الصورة، وقالوا: "لقد صدقوك عن بلادنا، هذه صورتها، غير أنهم لم يصوروا فرسانها الذين يمنعون هذه العقاب والجبال، وستعلم ذلك لو قد تكلفته"(7).
ومع مرور الزمن دان شعب الديلم بالإسلام هداية بالتغلغل السلمي ولقد كان هذا الشعب بين آخر الشعوب في المشرق التي دخلت الإسلام، وبين أوائل الذين أعادوا تأكيد شخصيتهم الذاتية ضمن إطار هذا الدين سياسياً وعقائدياً: سياسياً بظهور أسر حاكمة مستقلة، وعقائدياً من خلال تبني مذاهب غير سنية.
ولقد حدث منذ نهاية القرن الثامن للميلاد أن وجد عدد من أفراد البيت العلوي، الذين هربوا من الملاحقة العباسية، مأوى عند الديلم، ولقد حول هذا بلاد الديلم إلى مركز للنشاط العلوي خاصة الزيدي منه، ودافع هذا المركز عن استقلاله ضد خلفاء بغداد وسواهم من حكام السنة، وكان ذلك بعدما ظهر بين صفوفهم الأسرة البويهية. لِنر كيف ظهرت هذه الأسرة، واستطاعت أن تصبح الوصية على خلفاء بغداد، ولفترة طويلة من الزمن.
تنسب الأسرة البويهية إلى رجل ديلمي كان يعمل صياداً على شواطئ بحر قزوين، كان يدعى بويه، وكان بويه هذا فقير الحال، وكان له من الأولاد: علي، والحسن، وأحمد، وقد دخل هؤلاء في خدمة مرداويج بن زيار، وكان من قادة الديلم، علا شأنه سنة (315هـ/927م)، وأسس في خراسان دولة عرفت بالدولة الزيادية، وقد قتل سنة (323هـ/934م).
أظهر أولاد بويه أيام مرداويج مقدرة وكفاية، وترقى منهم علي حتى ولاه مرداويج على الكرج، فأصاب نجاحاً، وأظهر له الكرج الحب، فأثار ذلك شكوك مرداويج، وكان الشر يقع بينه وبين أبناء بويه، لكن موت مرداويج أزال ذلك وأتاح الفرصة أمام الأخوة الثلاثة، فاستولى الحسن بن بويه على أصفهان والري وهمذان، واستطاع علي بن بويه أن يبسط نفوذه على كرمان.
وبعد هذا أخذ البويهيون يحاولون مدَّ سيطرتهم على أملاك الخلافة في العراق، ومن ثم السيطرة على بغداد نفسها، وكانت أحوال بغداد السياسية
في غاية السوء والفوضى، بعدما أخفق نظام أمرة الأمراء إخفاقاً ذريعاً، وفي سنة (334هـ/945م)، توفي توزون أمير الأمراء، فخلفه في منصبه قائد آخر كان يعرف بابن شيرزاد(9)، وبعد تسلمه لمنصبه هذا ببضعة أشهر تحرك أحمد بن بويه من الأهواز يريد بغداد، وحين سمع الخليفة المستكفي بذلك استتر خوفاً من أتراك بغداد، واستطاع أحمد بن بويه الوصول إلى بغداد دون كبير عناء، وهنا ظهر المستكفي وعاد إلى دار الخلافة، حيث استقبل أحمد بن بويه، فتقبل بيعته وخلع عليه، ولقبه معز الدولة، كما لقب أخاه علياً بعماد الدولة، ولقب أخاه الحسن بركن الدولة، ثم أمر بضرب ألقابهم وكناهم على السكة(10).
ورأى معز الدولة بعدما أصبح سيد بغداد الجديد أن يقوم بإنهاء النظام القديم بمختلف عناصره بدءاً بالخليفة، فبعد أيام من دخوله بغداد، قام معز الدولة باعتقال الخليفة المستكفي وإهانته إهانة بالغة حيث سحب عن سريره، ووضعت عمامته في عنقه، وجرَّ نحو دار معز الدولة فسجن فيها، ثم خلع من منصب الخلافة(11).
لقد كان معز الدولة شيعياً، وكان هدف الشيعة دائماً إزالة الخلافة العباسية لتحل محلها خلافة علوية، وعندما خلع معز الدولة الخليفة المستكفي كان بإمكانه ـ حسب بعض الآراء ـ تعيين خليفة علوي أو الاعتراف بالخليفة الفاطمي، حيث أن هذه الخلافة كانت قائمة في إفريقية، وتتطلع نحو المشرق للسيطرة عليه،، لكن تعيين خليفة علوي أو الاعتراف بالفاطمي، كان يعني طاعته والانصياع لأوامره، وهذا مالم يفضله البويهيون، لذاك قام معز الدولة بتعيين خليفة عباسي جديد، وكان يستطيع الدفاع عن نفسه بأنه لم يكن للشيعة غير الاسماعيلية إمام آنذاك، ذلك لأنه كان زيدياً ولم يكن من أتباع المذهب الإسماعيلي للدولة الفاطمية.
وهكذا وقعت الخلافة العباسية السنية لأول مرة تحت حكم شيعي، سِيمَ الخلفاء فيه سوء العذاب، وأذيقوا مرارة الإهانة، فبعد خلع المستكفي عين معز الدولة أبا الفضل بن المقتدر خليفة بلقب المطيع لله، وجرده من صلاحياته كلها، وقرر له ولموظفيه راتباً يومياً قدره ألفا درهم(12).
ونجم عن استيلاء البويهيين على بغداد نتائج كبيرة، وردّات فعل عنيفة عند القوى السياسية للعراق وأعالي بلاد الرافدين، واصطرع معز الدولة مع دولة الحمدانيين في الموصل، ومع البريديين في البصرة، ومع القرامطة التابعين للدولة الجنابية في الإحساء والبحرين، ومع قوى أخرى، وقد خرج معز الدولة من هذه الصراعات ودولته الجديدة أعز جانباً وأوسع رقعة(12).
وفي سنة (356هـ/ 966م) توفي معز الدولة، وقبل وفاته كان قد عين ابنه عز الدولة بختيار ليخلفه في منصبه، وهذا يعني أن معز الدولة استطاع أن يؤسس ـ لأول مرة في تاريخ الإسلام ـ في بغداد حكماً وراثياً يتسلط على الخلافة العباسية الوراثية، وكان معز الدولة قبل وفاته قد أوصى ابنه أن يستشير عمه ركن الدولة وابن عمه عضد الدولة حاكم فارس، لكن عز الدولة لم يأخذ بوصايا والده، مما جرَّ عليه المشاكل، وذلك أنه "عكف على اللهو وعشرة النساء والمغنين، وحاول التخلي عن عدد من كبار رجالات الديلم واستبدالهم، كما أنه جند عدداً كبيراً من العناصر التركية في جيشه، فأدى هذا إلى زعزعة مركزة وقيام الصراع بين عناصر الديلم وعناصر الترك.
وساءت الأحوال في العراق، وعندها تحرك ابن عمه عضد الدولة على رأس قواته نحو بغداد سنة (367هـ/977م)، فاستطاع أخذها، ومن ثم أحلَّ نفسه محل ابن عمه سيداً جديداً على الخليفة في الخلافة، وأمر عضد الدولة خطباء الجمعة بذكر اسمه على المنابر إلى جانب اسم الخليفة، وبهذا ا لعمل صار مشاركاً للخليفة في كل شيء، إلاَّ لقب الخلافة، وانشغل عضد الدولة مثل عمه وابن عمه في الصراع مع قوى العراق والموصل وخراسان وعُمان وشبه الجزيرة، واستطاع أن يحقق في هذا المجال مالم يتحقق لهما قبله.
ويعتبر عضد الدولة أعظم رجالات الأسرة البويهية، وكان نشيطاً بعيد الهمة، يلتزم بالنظام، ولا يتورع عن سلوك أي سبيل من أجل تحقيق غاياته ومقاصد سلطته، وظل حكمه قوياً حتى سنة وفاته في (372هـ/983م)، حيث خلفه في منصبه ابنه أبو كاليجار، الذي عرف بلقب صمصام الدولة(14).
وأخذ ملك بني بويه في الانحدار وقوتهم في الضعف بعد وفاة عضد الدولة، ودبَّ الانشقاق بين ورثة عضد الدولة، ووقع الصراع بينهم، مما مكن بعض القوى المحلية لأعالي بلاد الرافدين وغيرها بالتحرك وتأسيس دول خاصة بها، ولم يمضِّ على وفاة عضد الدولة سنتان حتى قام في الأراضي التي كانت تدين له بالطاعة خمس دول مستقلة في "العراق"، و"البصرة". و"الأهواز وفارس وكرمان"، و"الري" و"جرجان"، ولقد دان استقلال جرجان لموقعها الجغرافي، وكان لابد من أن تنضم بقية الدول، إما إلى فارس وإما إلى العراق، وهكذا قام صراع بين العراق وفارس، وكانت فارس من أملاك شرف الدولة الابن الأكبر لعضد الدولة، واشتبك صمصام الدولة مع أخيه، وأسفر هذا عن انتصار شرف الدولة ودخوله بغداد سنة (376هـ/987م)، حيث اعتقل صمصام الدولة، وأرسله إلى إحدى القلاع مع أمر بتكحيله، وفي سنة (379هـ/989م)، توفي شرف الدولة، فخلفه في منصبه أخوه أبو نصر فيروز بلقب بهاء الدولة(15)، وكان ماواجهه هو عصيان الجند ومطالبتهم بالمال، فاستطاع أن يتغلب على هذه الأزمة، ويقوي مركزه حتى استطاع أن يحتفظ بمنصبه لمدة أربع وعشرين سنة، من سنة توليه حتى سنة (403هـ/1022م)، حين توفي.
وليس في عهد بهاء الدولة حوادث مثيرة، إنها تميز بالاستمرارية، فقد بدأ بصراع بين أعضاء الأسرة، وشهد زوال الأسرة السامانية، في المشرق وقيام الامبراطورية الغزنوية.
وبعد وفاة بهاء الدولة خلفه ابنه أبو شجاع سلطان الدولة، وقد وقع منذ بداية حكمه تحت نفوذ عدد من الموظفين استأثروا دونه بجميع السلطات، وأتاح هذا الفرصة أمام أخيه شرف الدولة، حيث انتزع لنفسه بعض الأملاك، وتطلع نحو بغداد، وقام صراع بين الأخوين، وقد أوقف هذا الصراع سنة (413هـ/1022م)، باقتسام الدولة بينهما، ونتيجة لذلك صار العراق لشرف الدولة، وفارس كرمان لسلطان الدولة، وتحرك شرف الدولة نحو بغداد، فاستقبله الخليفة، وكان من حسن حظه أن توفي سلطان الدولة في سنة (415هـ/1024م)، وهو في الثانية والثلاثين من عمره، وبات الآن مصير اختيار الأمير الجديد بيد الجيش الذي كان قد صار معظم عناصره مرة أخرى من الأتراك(16).
وتحيَّر الفرقاء في أمر اختيار أمير جديد بين اثنين هما: جلال الدولة أخو شرف الدولة، وأبو كاليجار بن سلطان الدولة، وبعد طواف خلاف واضطراب وفتن اختير جلال الدولة، فاستدعى من البصرة، وعندما قرب من بغداد، خرج الخليفة لتلقيه، فدخل بغداد سنة (418هـ/1027م)، حيث نصب سيداً جديداً في الخلافة، وبقي في منصبه هذا حتى سنة (435هـ/1027م)، حين توفي، وكان جلال الدولة هذا شبه ألعوبة في يد جند بغداد، خاصة الأتراك منهم، وفي زمنه شهدت مناطق البويهيين الأخرى خارج العراق مزيداً من المشاكل، والاضطرابات، كما بدأت مناطق الشرق في خراسان تشهد تحولات جديدة وخطيرة في القوى بظهور الغُز بزعامة السلاجقة على مسرح الأحداث.
وبعدما توفي جلال الدولة، كان ابنه الأكبر الملك العزيز أبو منصور بواسط، فكاتبه زعماء الجند الأتراك واستدعوه إلى بغداد شارطين عليه دفع مبالغ كبيرة من المال ثمناً لبيعته، ولم يستطع الملك العزيز تلبية مطالبهم، فتحرك أبو كاليجار صاحب الأهوار نحو بغداد، واستطاع شراء موافقة الجند، وبعدما دخل بغداد سنة (436هـ/1044م)، استحصل من الخليفة على أمر تفويضه بأمور سلطات الخليفة، ولقب "بالملك الرحيم"، وأعطاه الخليفة هذا اللقب بعد تردد، لأن الله تعالى هو "الملك الرحيم"، ولا يجوز لإنسان أن يتسمى باسم من أسماء الله، و كان "الملك الرحيم"، آخر حكام الأسرة البويهية في بغداد، حيث دخل الغُزّ إلى العراق، وأقاموا السلطنة السلجوقية، وكانت سنة (447هـ/1055م)، آخر سني الملك الرحيم والدولة البويهية.(17).
وحكم خلال العصر البويهي خمسة خلفاء هم المستكفي والمطيع والطائع والقادر، والقائم، وكان الخلفاء في هذا العصر قد جردوا من كل شيء إلاَّ ألقابهم، ولقد تعرضوا للإهانة، وكان حكام بني بويه يرون في الخلفاء العباسيين جماعة مغتصبة للخلافة، ولم يبق البويهيون على هؤلاء الخلفاء إلاَّ للتمويه ولتسيير الأمر، وشعر البويهيون بقوة مكانة الخلفاء الدينية لدى شعب العراق، لذلك حرصوا على إظهار الطاعة لهم أمام الجمهور وفي المواسم الدينية.
وحرص البويهيون على القيام ببعض الإصلاحات في العراق، وغيرها من البلدان خاصة في ميدان الري والزراعة، وكانت دولتهم دائماً بحاجة إلى مزيد من المال، لذلك لجأ بعض البويهيين إلى منح الجند قطاعات من الأرض لاستغلالها، فكان هذا بداية قيام الإقطاع العسكري الذي سيتطور في العصر التالي تطوراً كبيراً إلى حد أنه سيصبح أحد ركائز العمل الزراعي، وأدى قيام الإقطاع العسكري إلى تحكم الجند بالأراضي وبزراعتها وانصرافهم عن مهنتهم الأصلية، ثم إن الجند كانوا يستغلون كل موارد الأرض، ولم يدفعوا شيئاً يذكر لخزانة الدولة، مما أدى إلى العجز المالي للدولة، وتقويض النظام السياسي والاقتصادي.
واتسم الحكام البويهيون بعد عضد الدولة بقلة التجربة، وانعدام الحنكة والمقدرة السياسية والإدارية، والانغماس باللهو واللعب، ونجم عن هذا تضاعف الاضطراب والفوضى، ولقد ارتكب البويهيون خطأ مميتاً حين أكثروا من استخدام العناصر التركية وغيرها في جيوشهم. فكان أن خرج الأمر من أيديهم، ووجد صراع دائم بين عناصر الجيش وأسلحته، وأضعف هذا الصراع الجيش ومنعه عن القيام بوظيفته في المحافظة على وحدة الدولة وحماية حدودها، ولقد أهملت الجبهة البيزنطية زمن البويهيين إهمالاً شديداً، وترك أمرها لأهل الثغور وللدولة الحمدانية في حلب، وكانت بيزنطة في هذا العصر قد عاشت فترة انتعاش وقوة، لذلك استطاعت قواتها أن تستولي على مناطق كبيرة من الثغور وتحتل إنطاكية وتدخل حلب وتدمرها، وتحاصر دمشق، وتدمِّر حمص وتتجول في بلاد الشام بدون معارضة تقريباً.
وكانت السياسة الدينية للبويهيين غير موفقة، فلقد تعصبوا للشيعة، وأدى هذا إلى إحداث الفرقة بين صفوف الشعب، فتدمرت "الوحدة الوطنية"، للأمة، وعاش الناس في صراع مذهبي مستمر.
وشهد عصر بني بويه تحولات اجتماعية كبيرة وتغيرات اقتصادية، فازداد الفقر وانعدم الأمن بين صفوف الغالبية العظمى للشعب، فنجم عن ذلك قيام بعض الحركات الاجتماعية كان أبرزها في العراق في حركة العيارين، ووسم معظم المؤرخين العيارين باللصوصية وحب الفوضى والفساد، لكن عندما يتفحص المرء هذه الحركة يلاحظ أنها كانت وليدة ا لفوضى السياسية والظلم الاجتماعي، والاستغلال الاقتصادي، وأنها ابتغت العدالة والمساواة وعدم الاستغلال، وواضح في سير كثير من رجالات العيارين صفات الرجولة والإنسانية، ويبدو أنه قد كان لحركة العيارين صلة قوية بحركة الفتوة، الحركة التي ازدهرت في العصور الأخيرة للدولة العباسية(18).
وفي الوقت الذي اضطربت فيه أحوال البويهيين كانت الأوضاع السياسية في بلاد الشام أيضاً غير مستقرة، فقد وجد في أعالي بلاد الرافدين دولة بني عقيل في الموصل والدولة المروانية في ميافارقين وديار بكر، وحكمت حلب من قبل الدولة المرداسية، ودمشق وجنوبي بلاد الشام من قبل الخلافة الفاطمية، وقد عانت هذه الخلافة من مشاكل عقائدية كبيرة ومن أزمات اقتصادية خانقة، وقاد هذا إلى اضطرابات داخل الجيش الفاطمي انتهت باستيلاء بدر الجمالي ـ وكان ضابطاً من أصل أرمني ـ على مقاليد الأمور في القاهرة، ومن ثم بدأ يتحكم بالخلفاء حسب الطريقة التي قامت في بغداد، وحين سقطت الدولة البويهية للسلاجقة، كانت جموع من التركمان قد اجتاحت بلاد الشام والجزيرة حيث أحدثت تخريباً كبيراً وتغييرات عميقة للغاية(19).
الحواشي:
(1)ـ انظر كتابي أخبار القرامطة: 3-30.
(2)ـ تاريخ بخارى للنرشخي: 86-87، 105-149.
Four studies of the history of central Asia 1,12-13-21 Turkestan dawn to the mongol invasions 222-45. The Cambridge Hisory of Iran, V, 10-11. The Ghaznavids, 27-34, The Islamic dynasties. 101-102.
The Islamic dynasties, 112-114. The cambridge history of Iran . v. 11-12.
(3)ـ تاريخ بخارى للنرشخي: 143-149 ديوان لغات الترك للكاشغري: 1-393.
Four studies on the history of central Asia 21-26. Turkestan. 45-305.
(4)ـ مدخل إلى تاريخ الحروب الصليبية: 32-37.
(5)ـ تاريخ بخارى: 131-133.
Four studies of the history of central Asia, 1,25-26 Turkestn, 274-302. The Cambridge history of Iran, V.11-16. The Islamic dynasties, 181-183.
وهذا وإن كتاب:
C.E. Boaworth, the Ghaznavids. Edinburgh, 1963.
هو أحسن ما كتب حتى الآن عن تاريخ الغزنويين.
(6)ـ تاريخ بخارى: 131-133.
Four studies of the history of central Asia, 1,25-26 Turkestn, 274-302. The Cambridge history of Iran, V.11-16. The Islamic dynasties, 181-183.
The Ghaznavids.
(7)ـ مختصر كتاب البلدان لابن الفقيه: 383.
(8)ـ المنتظم: 6/207 –208، 268-271.
(9)ـ تجارب الأمم لمسكويه: 2/81-83.
(10)ـ مسكويه: 2/84-85.
(11)ـ مسكويه: 2/86-87.
(12)ـ نفس المصدر: 2/87-89.
(13)ـ نفس المصدر: 2/89-94.
(14)ـ مسكويه: 2/380 –417. المنتظم: 7/38 –118. ابن خلدون: 4/947-975.
(15)ـ المنتظم: 7/133 –150. ذيل تجارب الأمم: 3/53-175. ابن خلدون: 4/983-985.
(16)ـ المنتظم: 8/17، 21-44. ابن خلدون: 4/1004-1013.
(17)ـ المنتظم: 8/162-166. ابن خلدون: 4/1040-1044.
(18)ـ إن كتاب المنتظم لابن الجوزي أفضل مصدر فيه أخبار الفتن الدينية للعصر البويهي مع نشاط العيارين وأعمالهم. فلينظر.
(19) ـ لقد عالجت هذا كله بشكل وافٍ في كتابي "مدخل إلى تاريخ الحروب الصليبية فلينظر".
مجلة التراث العربي-مجلة فصلية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب-دمشق العددان 6/5 - السنة الثانية - حزيران "يونيو" 1982
المصدر
http://www.dahsha.com/old/viewarticle.php?id=26535