تل حلف والبارون فون أوبنهايم
سلام مراد
وصية فون أوبنهايم أن ينقش على قبره النص التالي:
"هنا يرقد بحماية الرب رجلٌ أحب العلم والشرق والبادية وتل حلف "لقد عشق فون أوبنهايم عمله لذلك اكتسبت بحوثه قيمة متميزة، لأنه أخلص وتابع البحوث بشكل متفاني وهذا واضح من خلال وصيته التي نقش على قبره.
كما أن حبه الشديد للتنقيب والآثار جعله يتواصل مع السكان المحليين بعيداً عن العجرفة الأوروبية التي كانت سائدة آنذاك، ودون أن يتخلى عن أسلوب حياته الأرستقراطي، وعشقه للآثار أدى به إلى ترك العمل في السلك الدبلوماسي الذي كان يعمل فيه.
تل حلف حضارة عريقة ازدهرت في فترتين، الفترة الأولى هي العصر الحجري النحاسي (الكالكويتي) في الألفين السادس والخامس ق. م. وازدهرت في الفترة الثانية في الألف الأول ق.م حيث قامت فيها مدينة جوزانا عاصمة مملكة بيت بخياني الآرامية.
والتل من التلال الأثرية المتميزة في الجزيرة السورية؛ قرب منابع نهر الخابور ومدينة رأس العين، وثاني موقع حضاري سوري جرت فيه تنقيبات حقيقية منذ سنة 1911م؛ بعد موقع كمركميش (جرابلس).
اكتشف فون أوبنهايم التل مصادفة اعتماداً على نصيحة شيخ بدوي، وربط أوبنهايم كل حياته بالعمل في موقع وآثار حضارة تل حلف.
ترك العمل الدبلوماسي المريح في السلك الدبلوماسي الألماني، كما أنه ابتعد عن العمل في البيت المصرفي العائد لذويه؛ وفضل عالم الكشف والمغامرة، ووهب كل ثروته لمؤسسة خيرية أنشأها لدعم أعماله والبحث العلمي عامة، لم يهنأ طوال حياته برؤية آثار تل حلف المكتشفة معروضة في المكان المناسب الذي كان يحلم به، وقد تنبهت الجهات الألمانية إلى ذلك مؤخراً، وبدأت بالعمل على عرضها في المتاحف الحكومية في برلين، بين هذا الموضوع د. فاروق عباس إسماعيل مترجم كتاب تل حلف والمنقب الأثري فون أوبنهايم والكتاب تأليف نادية خوليديس ولوتس مارتين.
والترجمة هي ترجمة وتلخيص هام لكتاب تل حلف الذي يتألف من أربعة أجزاء (4 مجلدات) و785 صفحة تتضمن 441 شكلاً توضيحياً.
ونتمنى أن تصدر ترجمة كاملة للكتاب في أقرب فرصة ممكنة، عن هذا الموقع الأثري السوري وخاصة أن التنقيب والدراسة قديمة والكتاب صدر في ألمانيا منذ أكثر من خمسة عقود، كما تمنى المترجم في مقدمته أن يعاد التنقيب في تل حلف على غرار ما يحصل في موقع جاغربازار غير البعيد عنه كثيراً، وموقع تل المشرفة (قطنا).
يقع تل حلف في المنطقة الحدودية السورية ـ التركية الحالية، غربي مدينة رأس العين، وذلك في منطقة ينابيع نهر الخابور؛ أكبر روافد نهر الفرات. وتل حلف هو الاسم المعاصر للموقع الذي كان يدعى باسم جوزانا في الألف الأول ق. م؛ حصن التل في جهة الشمال بسفح منحدر وعر، وفي الجوانب الأخرى والحي الجنوبي من المدينة بسور يحيط بالمدينة منذ العصور القديمة.
وثمة سور جداري آخر يفصل الحصن المبني في الجزء الشمالي عن المدينة السفلى الواقعة في منطقة منخفضة.
تبلغ مساحة المدينة الخارجية نحو /50/ هكتاراً والداخلية 5.1 هكتارات، ويمكن تمييز دورين أساسيين لتاريخ الاستيطان فيه، ولكنهما دوران غير متتاليين، بل تفصل بينهما فترة تاريخية تبلغ أكثر من ثلاثة آلاف سنة، وهما:
ـ عصر ما قبل التاريخ، وهو العصر الحجري النحاسي (الكالكويتي) الذي يؤرخ بالألفين السادس والخامس ق.م.
ـ عصر الممالك السورية الشمالية الصغرى الذي ساد فيه الآراميون خلال أواخر الألف الثاني وبواكير الألف الأول ق.م.
ثم فقد الموقع خلال الألف الأول ق.م، أهميته التاريخية، وتناقصت كثافة الاستيطان البشري فيه؛ وتعود الشواهد القليلة الأخيرة في الموقع إلى العصر الهيلني والإسلامي العربي.
كانت ظروف التنقيب في الموقع مثالية، نظراً لأن البقايا المعمارية والمنحوتات الفنية فيها وجدت بشّكلٍ مكثف تحت سطح التل مباشرة.
توجب على روبرت كولدوي Robert Koldewey المنقب في مدينة بابل آنذاك أن يحفر حتى عشرين متراً للوصول إلى أجزاء سور المدينة العائد إلى العصر البابلي الحديث (المتأخر)، واضطر عماله إلى تتبع أساسات الأبنية ضمن ظروف خطيرة غالباً، وذلك عبر أنفاق تمتد على طول الحواف، بينما كان فلكس لانجن إجر Felix langenegger المدير العملي لتنقيبات أوبنهايم يكشف بحرية عن المربعات المختارة ذات المساحات الواسعة.
في نهاية موسم التنقيب الأول، الذي دام دون انقطاع حتى الثاني عشر من شهر آب 1913م اتضحت صورة المدينة على النحو الآتي:
كشف في الحصن عن قصرين؛ الشمالي الشرقي والغربي، ويدعى الأخير القصر ـ المعبد أيضاً.
وكذلك تم اكتشاف بوابة مبنية بإتقان فائق (بوابة العقرب) وعدد من السراديب.
كما كشف عن أجزاء من سور المدينة المدعوم بحجارة بارزة حادة.
وعلى المدخل الرئيسي في الجنوب (البوابة الجنوبية) ومبنى صغير يعرف بالمبنى الشمالي.
وساعد حفر أسبار اختبارية في وسط التل وامتداداته الشرقية على فهم مدى اتساع نطاق الحصن.
وفي جهة الشمال الغربي من التل، وخارج نطاق التحصينات، وجد معبد المدينة الآشوري وسراديب مجاورة لما سمي بقاعة الشعائر.
لم تكن التنقيبات الاختبارية من قبل أوبنهايم في سنة 1899م. عاملاً مساعداً على اكتشاف القصر الغربي فحسب؛ بل "نقطة تحول" في حياة ماكس فون أوبنهايم، كما يصف هو الأيام الثلاثة خلال شهر تشرين الثاني، التي شهدت ظهور الأعمال الفنية التشكيلية واحدة تلو الأخرى من باطن الأرض.
وتبين فيما بعد أنه أعيد تجديد القصر وواجهة مدخله الضخمة والزخرفة النحتية المحيطة به، من قبل أمير آرامي يدعى كابارا، كما تذكر نقوش كتابية مختلفة.
المبنى مخطط يسمى في أسلوب بنائه نمط "بيت خيلاني" وهو مصطلح آشوري دال على نمط من المباني، نماذجه محدودة في المناطق السورية، ويتميز بأنه يتألف من قاعتين طويلتين متقاطعتين وبهو مدخل مدعوم بأعمدة. وقد بني وفق هذا الطابع المعماري المميز، لأول مرة ـ قصر من الطبقة الرابعة في آلالاخ، يعود إلى القرن الخامس عشر ق. م.
وكشف داخل مبنى القصر الغربي عن حوض للفحم قابل للنقل، عثر على بقاياه في القاعة الوسطى، وكان يستخدم لتدفئة القاعات في أيام البرد، في شرقي القصر الغربي وجد قصر السكن أو القصر الشمالي الشرقي، الذي كان مسدوداً بنتوء خارجي متين وشرفة عالية في جهة النهر.
أما المقر الحكومي فكان يتألف من قطعة أرض خاصة وغرف للسكن وحمامات وجناح للنساء ومنطقة إدارية، يبدو من مخططه أنه لم يكن يتضمن قاعات اجتماعات للأغراض الرسمية، ولذلك يمكن الحكم بأن استقبال موظفي القصر والضيوف كان يتم في القصر الغربي. وتدل اللقى الفخارية على أن المبنى كان مستخدماً في العصر الآشوري أيضاً.
أما في جنوب الحصن فقد كشف المنقبون عن ثلاثة مدافن قديمة، تتضمن إشارات إلى عمليات دفن مصحوبة بالحريق، ووجد فوق سردابين تمثالان يمثلان امرأتين جالستين، في هيئة كتلتين من حجر البازلت.
يقول فون اوبنهايم عن التمثالين المكتشفين: "انتصب التمثال الأكبر منهما بهيئته الكاملة أمامنا، أية سعادة غلبت علينا عندما اتضح أن التمثال كامل يخلو من أي كسور،! وصف عمالنا البدو هذه الآلهة فيما بعد بأنها عروستي، وذلك لأنني كنت أسير نحوها بين تارة وأخرى ولا أستطيع الابتعاد عن نظراتها".
بهذه الكلمات عبّر فون أوبنهايم عن إعجابه بالتمثال، وزين بصورة التمثال غلاف كتابه الذي ألفه عن تل حلف.
في تل حلف شكل رعاية الأموات، من قبل الأحياء تعبيراً عن اعتقاد عميق بالحياة الآخرة، وكان الخوف من أرواح الموتى التائهة كبيراً، لدرجة تدفع الناس إلى تقديم نذور بشكل دوري منظم بغية تهدئة الأرواح.
ـ لقى عصور ما قبل التاريخ
عثر في جميع أنحاء الموقع تقريباً، حيثما نقب المنقبون في أعماق التل ووصلوا إلى الطبقات الأرضية الأساسية، على سوية استيطان قديمة واضحة تتضمن قطعاً فخارية ملونة من عصور ما قبل التاريخ.
وصار الباحثون يسمون ذلك الفخار فخار تل حلف، نسبة إلى أول مكان أساسي عثر فيه على نماذج منه.
وتبين أن سويات عصور ما قبل التاريخ لم تكن، كما هي الحال عادة في المواقع الأخرى ـ مطمورة بسويات آلاف السنين من الاستيطان بعدها، بل وجدت بعد حفر أمتار معدودة فقط تحت سطح التل.
خصص موسم التنقيب الذي دام ثلاثة شهور خلال صيف سنة 1929م، لتوضيح التسلسل الزمني لأنماط الفخار المختلفة.
ولذلك تم حفر مقطع عميق شرقي الحصن، ضمن منطقة الجدار المحيط بالحصن، وعثر في بقايا الأبنية المتفرقة شمال القصر الغربي على عدد كبير من اللقى الأثرية الصغيرة التي توضح تنوعاً واسعاً للأعمال الحرفية.
اليوم يفهم المرء من تسمية "ثقافة حلف" أنها تدل على مجموعة سكانية كانت تعتمد في الغالب على الحياة الزراعية، وكان العنصر الرابط بينها خلال الألفين السادس والخامس ق.م هو الفخار الملون، والذي تشكلت في جميع أرجاء شمالي بلاد الرافدين مراكز صغيرة وكبيرة لصناعته، مع وجود ملامح محلية خاصة في صناعته.
لقد كان تنوع الأشكال الفخارية وتميز طابعها يمثل الذروة المطلقة في بواكير صناعة الأواني الفخارية.
كما توجد وفرة في النماذج المزخرفة والهندسة، وهي تغلب على أشكال رؤوس الثيران التي صنعت بأسلوب ناعم، وربما يكون ذلك تعبيراً عن تقديس موغل في القدم لهذا الحيوان، والتماثيل الطينية التي تصور المرأة وهي جالسة القرفصاء جميلة جداً ومتقنة، وهي تصور نموذج المرأة الأم ذات الفخذين والثديين الممتلئين، وهي تعبر عن تصور رمزي للخصب الذي كان دوره مهماً في الحياة اليومية للمزارعين لذلك عثر على عدد من هذه التماثيل مخزوناً ضمن الأواني المملوءة بالحبوب، لحماية رخاء الأسرة والمجتمع.
وفرت تنقيبات فون أوبنهايم في تل حلف معلومات مهمة عن القصر والعمارة الدينية خلال الألف الأول ق.م، كما وضحت قدم المدينة وامتدادها إلى عصور ما قبل التاريخ.
ما عرف عن تل حلف من خلال فون أوبنهايم ليس قليلاً، ولكن هذه المعرفة تثير أسئلة أكثر وأكثر وتبين مدى أهمية تل حلف عبر تاريخ الإنسانية، وهذا بدوره يستوجب على المهتمين والباحثين والدارسين والمسؤولين الاهتمام بالآثار في سورية فهي إرث سوري وإنساني وحضاري عالمي.
ومن خلال حياة أوبنهايم وكتابه تل حلف اكتشفنا ما الذي حصل لهذا الإرث الإنساني نتيجة الإهمال وظروف الحرب العالمية الثانية.
ونتمنى ألا تتكرر هذه الحوادث المؤلمة لأية آثار في العالم.
ونختم هذه الدراسة بشعار أوبنهايم في الحياة "يحيا الشموخ، الإباء، الأخلاق".الكتاب: تل حلف والمنقب الأثري فون أوبنهايم
الكاتب: ناديا خوليديس + لوتس مارتين ترجمة د. فاروق إسماعيل
الناشر: دار الزمان ـ دمشق ـ 2007م