حصِّةُ الصباح في فصل دراسي
ذكريات معلم في ليبيا
**************
يربو على العشرين تلميذا بقليل ، جلسوا في مقاعدهم في الحصة الأولى من أول الأسبوع المقرر لامتحانات نصف العام الدراسي،
وشمس الصباح تحتجب خلف جدر المدرسة في مدينة (أوباري ) الليبية في الجنوب من محافظة سبها
كان الشرق يلمع على حافة السماء الشرقية بضيائه الصاعد ، ولما تنقضِ الحصة الامتحانية في قواعد اللغة العربية ، وعيوني تلحظ التلاميذ في التفات متقطع ، ثم تأخذني هذه السطور التي أسجلها تارة ،ثم أعود فأغوص في عديد من الأفكار تارة أخرى.
الفصل يطِلُّ بنافذته الزجاجية المكسورة على شارع عريض يفصل مبنى المدرسة على تلك المنازل المجاورة لها والمسماة ( أحواش )
ومن آن لآخر يعبر الطريق عابر، فيشدني إليه وهو يحث الخطا ليتقي ضربات الصقيع التي تولي هاربة أمام انقضاض الشمس على السماء ببطء وهدوء.
صرير أقلام التلاميذ كانت تهمس في أذني ، وحفيف أوراق كراساتهم يكسر موجة الصمت بينهم ، وقد ترك البرد لمساته على تنفس التلاميذ الذين أصيب غالبيتهم بزكام الشتاء ، ويجذب بصري تلميذ وضع طرف قلمه في فمه وباطن كفه الصغيرة تحتضن ذقنه المدببة بينما تتمدد أصابعه على جانب خده الأيمن نائمة في هدوء .
وتتسلل الأشعة من النافذة المكسورة فتشمل بعطفها الدافيء التلميذتين المنهمكتين في التفكير ، وأطرقت والقلم بين أصابعي شارد الذهن وعيوني تحملق فيهم .
كان الجميع صامتا يتكلم في الأوراق ، شاردا مثلي في أفكاره .
ولمحت فتاة صغيرة هنا في زاوية الفصل قريبا من الباب تطرق الباب الملاصق لمنضدتها برفق وعيونها تقرأ ما كَتَبَتْ ، وكأنها تُنْصِتُ إلى من يلقِّنُها الإجابة من خارج الفصل ، ولا يبدو عليها الخوف من شيء وعندما التقت عيناي بها ابتسمت في هدوء ولم تغير من وضعها ؛ القلم يطرق والأذن تسمع والعين عادت إلى صفحة الكراسة تتصفح الحروف والكلمات فيها بثقة منها
أعجبني هدوء أعصابها ، فتركت مذكراتي المفتوحة والسطور التي دونتها على مكتبي ووضعت القلم فوقها , وهممت بالتحرك تجاهها ، وفعلت بهدوء لم يلحظه التلاميذ المنشغلون في الكتابة ، وبجانبها شاركتها بعيوني قراءة إجابتها ثم ابتسمت كما ابتسمت ، وعدت بنفس الهدوء لأتابع تسجيل أفكاري .
جادت الشمس بدفئها اللذيذ عليَّ ، وأحسست أنني والد هولاء الصبية الطيبين في الصف الثاني الإعدادي بقلب هذا المكان الصحراوي البعيد ، وكنت في غاية السعادة بحبهم لي ، وقلت في نفسي : هل هم خائفون من الامتحان ؟!
لماذا تلجمهم الأسئلة بلجامها ؟
أليسوا في أوقات كثيرة دائمي الشغب والضوضاء ؟!
نعم ، ولكنهم في كلا الحالين مصدر سعادتي ؛ في شقائهم الطفولي البريء ، أو في هدوئهم الآن .
كم من أمثالهم جلسوا أمامي منذ سنتين قضيتهما في ( أوباري ) ؟!!
آه من طيبة النفوس الليبية المتعلقة بنور العلم والتعليم والحرية
براعم عديدة وزهرات كزهر الربيع شذى عطرها ملأ حياتي حبا لمهنتي الجديدة كمعلم للغة العربية وعلوم الدين الإسلامي
وفجأة دق جرس نهاية الحصة الأولى ، ولملمت كراسات التلاميذ وحملتها إلى حجرة المدرسين .
*************************************