كتاب ـ قصة الإليزيه ـ الحلقة (الأخيرة)
شيراك يستشيط غضباً بعد رؤيته لجنوده مقيدين بالسلاسل في البوسنة
تأليف :فرانسوا دورسيفال
يتناول المؤلف في هذه الحلقة، وهي الأخيرة من عرض الكتاب، الأزمات التي عايشها الإليزيه خلال فترة رئاسة جاك شيراك، حيث تصادف وصول شيراك إلى القصر ليتسلم مقاليد الحكم خلفاً للرئيس السابق ميتران مع حادثة مذلة وهينة للجنود الفرنسيين الذين كانوا منتشرين في البوسنة ضمن قوات حفظ السلام التي تشكلت بقرار من الأمم المتحدة للفصل بين المتحاربين الصرب والكروات والمسلمين.
وينقل لنا المؤلف هنا ردة فعل شيراك على ما جرى للجنود حيث استشاط غضباً وأجرى اتصالاته الدولية بالأمين العام للأمم المتحدة وبالرئيس الأميركي آنذاك بيل كلينتون من أجل ضمان التحرك بتشكيل قوة للرد السريع تكون مزودة بأسلحة ثقيلة. أما الأزمة الثانية فتمثلت في قيام طائرة تابعة لسلاح الجو في ساحل العاج بإسقاط قنبلة على جنود فرنسيين فقتلت سبعة منهم. وفي هذه المرة كان رد شيراك حازماً حيث أمر بتدمير طائرات سلاح الجو العاجي جميعها.
ويتحدث المؤلف كذلك عن زوجة الرئيس شيراك وإعجابها الكبير بهيلاري عقيلة الرئيس الأميركي السابق كلينتون وبلورا بوش عقيلة الرئيس الحالي. يوم وصل جاك شيراك إلى قصر الاليزيه عام 1995 عرفت فرنسا «إهانة» كبيرة. ففي ذلك اليوم قام الصرب في البوسنة بنزع سلاح الجنود الفرنسيين وتقييدهم بالسلاسل وتصويرهم وهم يحملون بأيديهم الأعلام البيضاء. عرضت شاشات التلفزة في العالم كله تلك الصور وكان يراد منها أن «تصدم» المشاهدين وقد «صدمتهم» بالفعل خاصة في فرنسا.
وكان الصرب يبعثون أيضا عبر ذلك ب«رسالة» للرئيس الجديد جاك شيراك عند تولّيه مهام منصبه ليقولوا له إنهم يريدون أن «يلعبوا» معه نفس اللعبة التي مارسوها مع فرانسوا ميتران. هذا ما علّقت عليه الناطقة باسم الاليزيه آنذاك كاترين كولونا بالقول للمؤلف في مقابلة له معها عام 2005: «كانت مثل تلك الإهانة غير مقبولة بأي شكل من الأشكال بالنسبة لجاك شيراك».
كان فرانسوا ميتران في صباح «دخول» جاك شيراك إلى الاليزيه كرئيس للجمهورية قد قام بجولة أخيرة في حدائق القصر برفقة طبيبه الخاص وحارسه الشخصي بانتظار عودة الرئيس الجديد من بلدة «كولومبي» حيث كان قد ذهب لوضع باقة من الزهور على قبر الجنرال شارل ديغول.
عندما دخل جاك شيراك إلى المكتب الذي كان يوجد فيه الرئيس فرانسوا ميتران، وهو المكتب الذي يعرفه جيدا إذ دخله مئات المرّات عندما كان رئيسا للوزراء أثناء فترة التعايش الأولى التي جمعت على رأس السلطة رئيس جمهورية اشتراكيا ورئيس وزراء يمينيا، أي من 1986-1988، وجد أن أشياء كثيرة قد تغيّرت.
كان التغيير الأول هو ميتران نفسه الذي أصبح أصلع الرأس إثر العلاج الكيميائي الذي خضع له بسبب إصابته بمرض سرطان المثانة. ثم إن الأثاث نفسه قد تغيّر. قال ميتران لشيراك: «لقد حرصت على أن أُعيد هذا المكتب إلى الحالة التي كان عليها عندما غادره الجنرال شارل ديغول». وهذا ما علّق عليه شيراك بالقول لمؤلف هذا الكتاب أثناء لقاء له معه: «كانت حركة شديدة الأناقة وقد أدهشتني عندما جاءت منه، أي من فرانسوا ميتران».
أمضى الرئيسان «الخارج من الاليزيه والداخل إليه» حوالي ساعة كاملة على انفراد. وقد حرصا، كلاهما، فيما بعد على عدم البوح فيما تحدثا به يومذاك. كل ما عُرف هو أن ميتران أبدى قلقه على مصير مدير مكتبه وعلى «طيور البط» الموجودة في حديقة القصر. أما جاك شيراك فقد أعلن عن نواياه باستئناف التجارب النووية.
وينقل المؤلف عن الرئيس جاك شيراك قوله له بصدد صور الجنود الفرنسيين في البوسنة وهم يحملون الأعلام البيضاء عند دخوله إلى قصر الاليزيه كرئيس للجمهورية: «إن صور جنودنا أثارت فيّ غضبا شديدا». وقد حرص شيراك على أن يجمع مباشرة حوله مجلسا «مصغّرا» يضم رئيس الوزراء ووزيري الدفاع والخارجية ورئيسي أركان الجيوش وأركان الاليزيه.
السؤال الذي جرى طرحه يومذاك هو التالي: كيف ترك العسكريون الفرنسيون أنفسهم ـ في البوسنة ـ ينجرّون نحو ذلك الوضع؟ كانت فرنسا هي التي قدّمت أكبر عدد من الجنود لقوات الأمم المتحدة في البوسنة حسب قرار أصدرته منظمة الأمم المتحدة بتاريخ 21 فبراير 1992 بعد ستة أشهر من تفكك يوغسلافيا. كانت مهمة تلك القوات هي الفصل بين المتقاتلين من الصرب والكرواتيين والبوسنيين.
هكذا انتشر 22 ألف جندي في البوسنة، لم يكن بينهم أميركيون وفي ظل قيادة تحتاج من أجل اتخاذ أصغر القرارات إلى موافقة الأمين العام للأمم المتحدة والأمين العام للحلف الأطلسي. ونتيجة مثل ذلك الوضع ساد «الشلل الكامل» صفوف قوات الأمم المتحدة «الضائعة» بين مهمات المحافظة على الأمن والمهمة الإنسانية واستخدام القوة؟ بنفس الوقت فشلت جميع محاولات وزير الخارجية الفرنسية آنذاك آلان جوبيه في الحصول من مجلس الأمن الدولي على قرار أكثر «واقعية».
لم يشأ أحد أن يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك. من هنا تفرّق الجنود «أصحاب القبعات الزرقاء»، أي التابعين للأمم المتحدة في مناطق منوّعة حيث أصبحت مهمتهم عمليا هي حراسة مستودعات أسلحة الصرب والبوسنيين على حد سواء.
قام الصرب برفع مستوى التصعيد عندما استولوا على عدة مدافع من أحد المستودعات في سراييفو. وكرد على مثل هذا الاعتداء الذي اعتبره الجنرال سميت، قائد قوات الأمم المتحدة في البوسنة، تجاوزا للخطوط الحمراء طالب بضربات جوية كانت تشكّل، برأيه، العقاب الوحيد المجدي.
لم يلق طلبه أذنا صاغية، فأعاد طلبه من جديد لتقوم الطائرات بعد ثلاثة أيام بتدمير عدة مستودعات للذخائر تابعة للصرب في البوسنة. فرد الصرب على قصف الطيران بالاعتداء على 300 من جنود قوات الأمم المتحدة من الفرنسيين الذين عرضت محطات التلفزة صورهم أيضا مرّة أخرى مثلما فعلت في المرّة الأولى.
وتلا المجلس المصغّر الأول، مجلس آخر بعد ظهر نفس اليوم. وينقل المؤلف عن أحد حضوره أن أجواءه كانت مكفهرّة والمزاج سوداوي حيث كان على رئيس الأركان الجنرال جاك لانكساد أن يقدم عرضا للوضع العسكري الذي اعتبره الرئيس شيراك مأساويا.
وقال الجنرال: «نحن مجبرون على احترام قواعد السلوك التي حددتها منظمة الأمم المتحدة. وجنودنا ليسوا في حالة ضعف على صعيد ميزان القوى فحسب وإنما أيضا لا يملكون سوى أسلحة خفيفة».
وتتالت أسئلة الرئيس على الفور. هل هذا يعفي من المسؤولية؟ من الذي ترك الأمور تتردّى إلى هذا الحد؟ أي قادة عسكريين وأية سلطات؟ هل هي الحكومة السابقة؟ هل جنودنا مجرّد أرانب يطلقون عليها الرصاص أم نعاج يتم ربطها بالحبال؟ وأين الشرف الوطني وشرف الجيش؟ هذا أمر غير مقبول وغير مسؤول، أضاف شيراك.
آراء متعارضة
كانت هناك آراء متعارضة لدى رئيس الجمهورية ورئيس أركان الجيش حول السلوك الذي ينبغي اتباعه. قال الجنرال لانكساد: «إننا لسنا في حالة حرب ونحن لا نمتلك الإمكانيات وبالتالي لا يمكننا خوضها». ثم سأله شيراك: «لكن ألا يقوم بها الآخرون»؟ فرد عليه قائلاً: «إن مبدأ الفصل يضع قواتنا في موقف هش منذ البداية».
قال شيراك عندها: «أنتم عسكريون ولستم دبلوماسيين». وكان يعني بقوله: «أنتم عسكريون» ما مفاده: «مارسوا مهنتكم». كان الأمر جافا، إذ كان شيراك يريد خطة للتحرك العسكري مباشرة. هكذا فهم الجميع حول تلك الطاولة أنه لم يكن أمامهم رئيس الدولة فقط إنما أيضا رئيس الجيوش، ليس بقوة الدستور فحسب، ولكن كذلك بفضل مزاجه وحديثه إلى «رجاله» مثل قائد سرب.
ويصف المؤلف الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك على أنه كان ينظّم عمله في الاليزيه ويحضّر مذكراته الإدارية ويرتّب مكتبه ودفاتره وأقلامه مثل جندي. وإنه يمقت جدا الفوضى ويؤمن بالنظام ويحترم التراتبية.
أما أهم صفاته فتكمن في حبه للعمل، إذ كانت أسوأ شتيمة يوجهها لآخر هي أنه «كسول». ثم إنه كان فعليا ضابط احتياط لدى مصلحة قيادة الأركان. باختصار أصبح هو المرجع الوحيد في قصر الاليزيه وإذا أعطى أمرا فإن على الآخرين تنفيذه.
كان جاك شيراك قد تولّى في الواقع مسؤولية وحدة عسكرية تضم 32 جنديا يخضعون لقيادته في إحدى مناطق الغرب الجزائري عندما كانت الجزائر مستعمرة فرنسية وكان هو ضابط صغير. لقد أحبّ رجاله وقادهم وشاركهم أمور حياتهم. وينقل عنه المؤلف قوله عندما كان رئيسا لبلدية مدينة باريس بعد أن كان رئيسا للوزراء: «كانت الجزائر بالنسبة لي هي الفترة الأكثر إثارة للمشاعر في حياتي.
وقد كانت وحدتي العسكرية معزولة عمليا عن أي اتصال مع الخارج. لم تكن هناك أجهزة مذياع محمولة -ترانزيستور- وكان التموين يصلنا عن طريق طائرة عمودية- هيلوكبتر. هكذا عشت لأشهر طويلة حياة مليئة بالأحاسيس والحماسة».
كان شيراك قد وصل إلى الجزائر مع وحدته الجاهزة للقتال في شهر أبريل من عام 1956، وذلك بعد شهر فقط من زواجه ببرناديت شوردون دو كورسيل التي التقاها في كلية العلوم السياسية بباريس عندما كانا طالبين فيها. وكان شيراك قد تخرّج أيضا من المدرسة الوطنية الفرنسية العليا للإدارة التي تخرّج منها العديد من قادة فرنسا.
كان عمر جاك شيراك سبع سنوات في عام 1940، عندما اجتاح الألمان فرنسا، و21 سنة عندما سقطت «ديان بيان فو» بيد الثوار الفيتناميين وانهزمت الجيوش الفرنسية و24 سنة عندما خاض هو نفسه الحرب في الجزائر. هكذا إذن عرفت مسيرة حياته الهزيمة تلو الأخرى.
لكن ما يؤكده جاك شيراك نفسه هو أنه أثناء تجربته «العسكرية» في الجزائر وقيادته لرجاله أحس ب«نفوذه على تغيير مجريات الأمور». وبالطبع كانت، كما يقول، أموراً «متواضعة» ولكنها كانت أساسية بالنسبة لأولئك الذين كانوا تحت أمرته وبالنسبة لإحساسه ب«معنى القيادة».
شعر بهذا الإحساس بالقيادة، إنما الكاملة هذه المرة، من منصب رئاسة الجمهورية وهو يرى الجنود الفرنسيين يتعرّضون للإهانة في البوسنة وهو القائد الأعلى للجيوش. وتبعا لمطالب الرئيس جاك شيراك صدرت الأوامر لقيادة قوات الأمم المتحدة في زغرب وسراييفو بالرد القوي والحازم على أي اعتداء.
واتصل جاك شيراك شخصيا بصديقه بطرس بطرس غالي، الأمين العام للأمم المتحدة آنذاك، كي يطلب منه إعادة النظر بالوضع في البوسنة وأخطره بضرورة تشكيل قوة رد سريع جديدة على الفور إذا كانت هناك إرادة وضع حد للفوضى. كما اتصل شيراك بالحلفاء الأطلسيين وتحدد موعد للقاء 16 وزير دفاع من البلدان المشاركة في القوة الأممية بالبوسنة في باريس.
عندما تحرك الرئيس
وينقل المؤلف عن شيراك قولهإ الرجل الذي درّبه وقاده إلى الحياة السياسية وأدخل في ذهنه مفهوم «واجب الدولة» هو الرئيس الفرنسي الذي خلف الجنرال ديغول أي جورج بومبيدو. وقد تعلّم منه أيضا أن الكلمات لها في عالم السياسة وظيفة أخرى غير جلب أصوات الناخبين وهو أنها يمكن أن تغيّر الأمور أيضا وأن «إرادة الإنسان» هي التي تقرر مسيرة أعماله.
تعرّض الجنود الفرنسيون لاعتداء جديد من الصرب في البوسنة عندما كانوا يحرسون الجسر الرئيسي في سراييفو. وكانت تعليمات الرئيس الفرنسي واضحة ويمكن اختصارها بالجملة التالية: «انتهى زمن الإذلال».
وفي صباح اليوم التالي قامت وحدة عسكرية بالهجوم واستعادت المواقع بينما قُتل جنديان فرنسيان وجُرح حوالي العشرين. ولم تتردد قناة «سي.ان.ان» الأميركية يومها في توجيه التحية إلى «الرئيس الفرنسي النشيط» الذي كان وراء المنعطف الذي عرفته الأوضاع في البوسنة.
قرر جاك شيراك أنه لا بد من إصدار قرار جديد من الأمم المتحدة يقضي بانتشار قوة رد سريع مؤلفة من عشرة آلاف جندي ومجهّزة بأسلحة ثقيلة. كان رئيس الوزراء البريطاني جون ميجر داعما للموقف الفرنسي بينما بقيت موافقة بيل كلينتون. وعندما التقى جاك شيراك بالرئيس الأميركي بعد أيام على هامش قمة أميركية-أوروبية في كندا قال له انه لا يمكن ترك الأمور على ما هي عليه فـ «إما حماية جنودنا وإمكانية التحرك وإما علينا أن نغادر».
أجاب كلينتون: «أريد دعمك ولكنني لا أستطيع عمل شيء، فنحن نعيش فترة تعايش كما تقولون، فسيّد الموقف هو الكونغرس»، الذي كانت الأغلبية فيه للجمهوريين. «ولكن ينبغي عليك الدفاع عن قضيتي».
هنا ينقل المؤلف عن مادلين اولبرايت التي كانت آنذاك ممثلة للولايات المتحدة في الأمم المتحدة قولها في مذكراتها الصادرة عام 2003 ما يلي: «عندما سمعت الرئيس جاك شيراك يصرّح أن مقعد زعيم العالم الحر شاغر أحسست بالدم يتجمد في عروقي. ذلك أن الإستراتيجية التي تبنيناها دفعت إلى الاعتقاد أن رئيس الولايات المتحدة ضعيف. وكنا بحاجة لاستعادة موقعنا المتميّز».
لقد أصابت جملة جاك شيراك الهدف، فما كان من الرئيس كلينتون سوى أن اتصل هو شخصيا بالزعيمين الجمهوريين في الكونغرس، أي السيناتور بوب دول والنائب نيوت جينجريتش. لقد طلب منهما تقديم موعد لقائهما مع الرئيس الفرنسي والاستماع إلى ما سيقوله لهما عن البوسنة.
عندما التقى الرئيس شيراك والوفد المرافق له بالزعيمين الجمهوريين بادر نيوت جينجريتش بالقول: «نحن نعرف موقفكم. هل تريدون قرارا جديدا من الأمم المتحدة؟ الأمم المتحدة ليست ذات أهمية. وكل ما هو ليس تحت قيادة أميركية لن يكون فاعلا. ما عدا ذلك ليس سوى دعابة». قاطعه جاك شيراك باللغة الانجليزية: «هل يمكنك شرح وجهة نظركم»؟
فأجاب الأميركي وهو يعدّ على أصابع يديه: «هناك ثمانية أسباب تدعوني كي أقول لكم كلاّ». ثم ذكر أربعة منها بالتفصيل مضيفا: «أولا البوسنة ليست جزءا من مصالحنا الكبرى، وسوف لن نرسل إليها جنديا أميركيا واحدا. ثانيا، سوف نرفع الحظر عن الأسلحة الموجّهة للبوسنيين المسلمين من أجل إقامة توازن في القوى. ثالثا، إننا نشجع عبر السياسة الحالية التصفية الاثنية والمساس بحقوق الإنسان. رابعا، نحن الآن بصدد أن نؤلب العالم الإسلامي ضدنا، بما في ذلك حلفاؤنا».
قام جاك شيراك بتفنيد الحجج المذكورة واحدة بعد الأخرى. قال: «هل الأمم المتحدة عاجزة؟ لهذا السبب بالتحديد اقترح إنشاء قوة رد سريع تحت قيادة وطنية وتتحرك فورا على الأرض. هل تريدون رفع الحظر عن السلاح؟ هذا يعني أنكم تولعون النار في البلاد ونحن سنرحل.
وماذا ستفعلون بالروس؟ وهل ستتركون الصرب يهاجمون البوسنيين؟ إنكم لا تريدون التدخل لكنكم ستجدون أنفسكم مرغمين على ذلك. فإمّا أنكم سوف تتدخلون مباشرة أو سوف تبدون وكأنكم قد تخليتم عن المسلمين. فهل هذا هو ما تريدونه؟ إن كل يوم يمر دون فعل أي شيء هو يوم ضائع بالنسبة لنا، ويوم ربحه خصمانا ميلوسيفتش وكارازيتش القائدان الصربيان المتشددان».
وينقل المؤلف عن أحد حضور ذلك الاجتماع قوله ان جاك شيراك قد فاوض وكأنه في منطقته ـ الكوريز- بفرنسا وهو يناقش رئيسي بلدين عنيدين. استمر اللقاء مع الأميركيين ساعة ونصف الساعة. انتهى الأمر بالنائب الأميركي إلى القول: «حسنا، نحن موافقون وسوف نعطيكم الضوء الأخضر وسوف ندعم قراركم. لكن لن ندفع لكم أية أموال».
تساءل شيراك: «الأموال سوف نرى هذا فيما بعد. فلنبدأ حيث ينبغي أن تكون البداية». فتابع الأميركي قائلا: «سيادة الرئيس سوف أقول لك بصراحة إنني لست مقتنعا تماما بما سمعته. لكنكم أصبحتم رئيسا للجمهورية منذ فترة قريبة ولمدة سبع سنوات وسوف يكون لديكم الوقت لرد الجميل لنا. وأضيف لو أنني كنت أحد الذين أعطوكم صوتهم وثقتهم فإنه كان ليسعدني أن أراكم رئيسا لي، أنت زعيم حقا».
لم يكن شيراك يريد أكثر من ذلك. معه الضوء الأخضر، إذن ينبغي التحرك بسرعة. وموعده في اليوم التالي مع بطرس بطرس غالي في نيويورك مع تحضير مشروع قرار جرت قراءته من قبل كلينتون وجون ميجر والآخرين من قادة قمة الدول الصناعية السبع. ثم قال شيراك للدبلوماسيين الذين برفقته: «لا تضيّعوا الوقت، لقد وافقت عليه القوى السبع الأكبر في العالم وينبغي الاقتراع عليه غدا. هذا ما ينبغي أن تقولوه لسفيرنا في الأمم المتحدة».
جرى تبني القرار بسرعة فائقة بينما كان جاك شيراك في طريقه إلى باريس. هكذا أصبحت قوة الرد السريع «شرعية»، لقد أثبتت الدبلوماسية أنها ليست محكوم عليها بالجمود وعدم الفعالية. وفي هذا السياق جرى التمهيد للقيام بعمليات القصف الجوي لقوات الحلف الأطلسي على صربيا. لقد فهم الصرب عندها أنهم قد خسروا الرهان ولم يعد أمامهم سوى التفاوض.
انجاز المهمة
فكّر شيراك أنه قد «تمّ إنجاز المهمة»، وأن فرنسا التي لم تعد بعد إلى البنية العسكرية المتكاملة للحلف الأطلسي قد أخذت قيادته في أوروبا من خلال العملية ضد صربيا. وينقل المؤلف عن الرئيس الفرنسي السابق قوله: «إن جورج بومبيدو الذي علّمني الكثير
كان يحب أن يكرر القول أنه عندما تكون هناك عقدة مشدودة جدا مما يجعل فكّها في غاية الصعوبة يصبح من الأفضل قطعها، وهذا ما أردت أن أفعله». ومثل هذا الأسلوب هو الذي عرفه قصر الاليزيه خلال عهد شيراك فيما يخص معالجة أية أزمة خارجية.
وبنفس الطريقة حسم جاك شيراك مسألة استئناف التجارب النووية التكتيكية بعد أن كان سابقه فرانسوا ميتران قد جعل من وقف هذه التجارب النووية أحد أولوياته الإستراتيجية. وقد كتب شيراك بصدد تلك التجارب: «إن بلادنا على موعد مع التاريخ مرة أخرى».
لقد نزل شيراك إلى قبو الاليزيه حيث تتواجد قيادة القوة النووية التي كان ميتران قد جمع فيها أركان قيادة جيوشه من أجل تحديد الأهداف الجديدة للصواريخ النووية بعد تفكك الاتحاد السوفييتي. ثم إن هذا المقر يشكل المكان الوحيد في قصر الاليزيه الذي يمكن الاطمئنان فيه بأنه لا يمكن لأي قمر تجسس الاستماع إلى ما يقال فيه.
كان شيراك يريد أن يأخذ قراره في مكان آمن. كانت آراء الخبراء تقول بضرورة «استئناف التجارب النووية من أجل الانتقال بعدها إلى مرحلة الاكتفاء بالتجارب المخبرية». واعتبر شيراك أن تحديث التكنولوجيا النووية الفرنسية يتطلب السماح باستئنافها، فلم يتردد في السماح بذلك.
بدأت سلسلة التجارب النووية الجديدة يوم 5 سبتمبر 1995 واستمرت بواقع تجربة كل شهر في مركز التجارب بالمحيط الهادئ بحيث كانت التجرية الأخيرة بتاريخ 29 يناير 1996. يومها قال جاك شيراك عبر تصريح تلفزيوني: «أحس أنني أنجزت اليوم أحد الواجبات الملقاة على عاتقي إذ أعطيت فرنسا لفترة العقود القادمة ضمان استقلالها وأمنها». وقّعت فرنسا اتفاقية منع انتشار الأسلحة النووية.
بعد إجراء سلسلة التجارب النووية اعتبر جاك شيراك أن «فصلا جديدا قد بدأ». لقد أعلن بعد شهر فقط جعل الجيوش الفرنسية «محترفة» ونهاية الخدمة العسكرية الإلزامية. ولم ينس آنذاك أن يطمئن صديقه المستشار الألماني هلموت كول أن الصواريخ الفرنسية التكتيكية لن تسقط بعد الآن فوق الأراضي الألمانية، لسبب بسيط هو أنه قد جرى تدميرها.
أزمة ساحل العاج
أزمة أخرى أظهرت آلية عمل قصر الاليزيه في ظل جاك شيراك. في يوم السبت 6 نوفمبر 2004 هبطت الطائرة التي كانت تقل الرئيس جاك شيراك في مطار رواسي بعد حضوره مؤتمرا أوروبيا. عندها رن هاتفه ليسمع على الطرف الآخر رئيس أركان الرئاسة يقول له: «سيادة الرئيس لقد قال رئيس أركان الجيوش منذ لحظة أن طائرة تابعة لساحل العاج ألقت قنبلة على إحدى وحداتنا وقتلت سبعة جنود».
كان رد فعل الرئيس سريعا إذ أعطى الأوامر بتدمير الطائرات المقاتلة الأربع والطائرات العمودية الخمس التابعة لجيش تلك البلاد. أي ما يعني الأسطول الجوي الحربي لساحل العاج كله. وعندما صعد شيراك إلى سيارته تأكّد هاتفيا من أنه قد تمّ نقل أوامره بل وتمّ تنفيذها. كما اتصل بـ ميشيل اليوت ماري، وزيرة الدفاع آنذاك ليتأكد من أنه قد جرى تنفيذ الأوامر. وكان بالفعل قد جرى تنفيذ الأوامر.
ولا ينسى مؤلف هذا الكتاب أن يتحدث عن الدور الذي لعبته برناديت شيراك في الاليزيه بجانب زوجها. وينقل عنها قولها عن السيدة لورا بوش، زوجة الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش، أنها كانت بنظرها «رائعة ودقيقة الملاحظة».
أما المرأة التي تركت لديها أقوى الانطباعات فقد كانت السيدة هيلاري كلينتون، زوجة الرئيس بيل كلينتون والتي قالت عنها: «إنها تتمتع بشخصية حديدية وبذاكرة قوية، ذكية وجميلة. ولا يمكن لأحد أن يصبح «سيناتورا» عن ولاية نيويورك دون أن يكون ذا صفات استثنائية. إن صفاتها على مستوى طموحاتها».
بالمقابل ينقل المؤلف عن هيلاري كلينتون قولها عن برناديت شيراك في مذكراتها الصادرة عام 2003 قولها: «رغم بعض الخلافات السياسية الخطيرة حول هذه القضية أو تلك بين فرنسا والولايات المتحدة الأميركية، فإننا أقمنا حوارا رائعا مع أسرة شيراك خلال السنوات الثماني التي أمضيناها في البيت الأبيض».
ما أكّدته السيدة برناديت شيراك لمؤلف هذا الكتاب هو أنها عرفت في قصر الاليزيه إحساسا ب«الهشاشة» وأنها لم تكن قد عرفت مثل ذلك الإحساس خلال ال18 سنة التي شغل فيها زوجها منصب رئيس بلدية باريس أو خلال الفترتين اللتين أمضاهما رئيسا للوزراء ما بين 1974 و1976 ثم بين 1986 و1988.
وينقل المؤلف عن السيدة شيراك قولها عن الاليزيه: «هذا قصر السلطة. ولا يمكن لأحد أن يتصور ما سمعته هذه الجدران وساعات الحائط هذه من أقوال». وخلف جدران هذا القصر ينبض قلب فرنسا وفيه حيكت الأحداث الكبرى التي شهدها تاريخها.
وفي هذا القصر كتب نابليون قرار تخليه عن العرش بعد هزيمته قي معركة واترلو الشهيرة وأقام فيه القيصر الاسكندر مع جنوده. باختصار إنه القصر الذي عرف أسرار ثلاثة قرون كانت فيها فرنسا أحد أهم مراكز الإشعاع في العالم.
عرض ومناقشة: محمد مخلوف