تحري هلال شهر رمضان في مدينة حماة قديماً .. بعيون السيد أحمد نعسان الأحدب

بقلم الأستاذ: عبد الكريم محمد شريف عمار
مقال خاص لصفحة:
حماة ناشونال جيوغرافيك - National Geographic Hama

حدث يتكرر كل عام مرتين على الأقل يهتم به العالم الإسلامي بل العالم كله فالمسلمون انتشروا في كل بقاع الأرض يترقبه الجميع وان لم يشاركوا فيه، تنتشر التهاني بعد إعلانه في وسائل الاعلام التي تغمر الدنيا به البيوت والأسواق والمساجد والطرقات، انه مالئ الدنيا وشاغل الناس يستعد له الناس قبل قدومه، وكانوا يودعونه بالحسرة وامل العودة فهو ضيف كريم يفرض اثره ووجوده.
له اجواؤه الخاصة به تلتم الأسر يجتمع الاحبة تعمر فيه المساجد ينتشر البشر والسعادة بين الناس، أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار، مالئ الدنيا وشاغل الناس ليس سرا فيخفى لاهو حي يستحق الكرامة ولا مولودا يملأ الدنيا بشرا وبكاء، انه ينشر السعادة وصلة الرحم ونقاء القلوب وبشاشة الوجوه، انه رمضان جعل الله ثواب صومه التقوى، واختص الله بجزاء صومه لانه سر بين الله وعبده، لايطلع عليه آخرون.
كان يبدأ عندنا في مدينة حماة باحتفالية بشرية عامرة يقودها رجل من أواسط اهل المدينة نسبا واكثرهم علما بمفتاح الشهر الكريم فتحا وانتهاء، انه السيد (أحمد الأحدب، أبو عبد العزيز) كان يعمل اسكافيا في حي "الدباغة" دكانه صغير قرب باب مدرسة "السيدة خديجة" تراه طوال اليوم مكبا على عمله، اما خياطة على ماكينته الخاصة، او طرقا على السنديان لدق المسامير، والاجرة بسيطة لكن الاتقان كان سيد الموقف ومفتاح ثقة الناس صغارا وكبارا نساء ورجالا.
كان اسمه على كل لسان في المدينة يتبعه جيش كبير من الناس الى القلعة حينما يعطي إشارة تحري هلال شهر رمضان. لا يخرج عبثا ولا بحثا، انه متابع للهلال في كل شهور السنة هلالاً وبدراً ومحاقاً يعرف مطالعه ومغيبه لكل شهر فإذا أشار للناس بالخروج لرؤية الهلال يكون ذلك عن حساب لديه مسبق، ولكن يبقى الشيء الأهم وهو الرؤيا بالعين وشهادة الشهود فاذا خرج الى "القلعة" تداعى الناس للخروج معه.
لم يكن هناك برنامج "واتس آب" او اجهزة محمول، وحتى الهواتف كانت محدودة جدا، ولكن الخبر ينتشر بين الناس بسرعة البرق ليس فقط عامة الناس بل وخاصتهم كذلك من العلماء واحيانا المحافظ وقائد الشرطة حيث يضفي وجودهم جوا من الأهمية للحدث وضبطا للنظام وتفاعلا بين السلطة والشعب.
كان الاجتماع قرب غروب الشمس يوم 29 شعبان، حيث يكون التجمع الأكبر في غرب القلعة قرب حافتها يقف مع غروب الشمس ينظر باتجاه محدد ليس بحثا هنا وهناك ولكن في اتجاه دقيق قد حسبه سابقا فإذا رأى الهلال أشار للمحيطين به وهم من الخاصة الى مكان مغيبه الذي يكون خلال دقائق ليست بالطويلة ويشير الى معالم في الطبيعة ترشد من معه الى الهلال.
وشاهدته مرة وهو ينصب ثلاث عصي رفيعة باتجاه الغرب ويقول للناظرين حوله انظروا باستقامة الى رؤوس العصي فتشير الى مكان الهلال فيتحقق ذلك بدقة وبسرعة تثير الدهشة والبشاشة في الوجوه، ويتقدم من رافقه من العلماء وكبار الشخصيات ليتحققوا بأنفسهم من رؤية الهلال فإذا ثبتت الرؤيا انتشرت كالنار في الهشيم بين افراد الجمع المتناثر على القلعة والى اطراف المدينة في مدة وجيزة. بعدها تتأهب الأسواق ويتبادل الناس التهاني تستوي العلاقات وتطهر النفوس.
وتبقى هنا الشهادة لدى القاضي الشرعي ولجنة تحري الهلال الرسمية حيث تبقى هذه اللجنة حتى تتوثق من اقوال الشهود اين ومتى وكيف شكل الهلال يدقق القاضي ويستوثق من الشاهد حتى يثبت الرؤيا شرعياً، وعادة قبل النزول للمحكمة يستوثق "أبو عبد العزيز" من الشهود أسماءهم وعناوينهم.
وقد حدثني احد اخواني وهو "ماجد مراد آغا" انه بينما كان يتناول العشاء مع اسرته في نهاية رمضان عام 1964م وإذ بالباب يقرع وشرطي يسأل عنه ويقول تفضل معي الى المحكمة للشهادة على رؤية هلال شوال، فذهب وشهد وكان العيد في اليوم التالي.
ومن ابرز العلماء الذي اهتموا برؤية هلالي رمضان و شوال الشيخ "محمد الحامد" رحمه الله، حيث كان على رأس الجمع للتحري وللشهادة ان لزم.
وقد جرت حادثة في سنة الوحدة مع مصر بين 1958 ـ 1961 كانت وقت تحري شهر شوال العيد حيث لم ير الهلال في كل انحاء الجمهورية العربية المتحدة وحتى في مرصد حلوان الشهير، الا في "حماة" حيث ثبت وبشهادة الشهود ومنهم الشيخ محمد الحامد واثبتوا الرؤيا في المحكمة.
وبالاتصال مع العاصمتين دمشق والقاهرة رفضت هيئة التحري ماجاء من مدينة حماة حيث انها تفردت من دون انحاء الجمهورية، وابلغ المحافظ وهو وقتها "ياسين الفرجاني" من حمص لجنة الرؤيا ببطلان شهادتهم بناء على أوامر عليا ان الرؤيا لم تتحقق في كل اقطار الجمهورة.
كان الموقف عصيباً اهتزت له رؤوس الرجال وعمائم العلماء ولكنهم ثبتوا وكان قائدهم الشيخ محمد الحامد رحمه الله الذي رأى الهلال بنفسه ورد على المحافظ رد عالم يخاف الله قائلا اثبتوا هلال شوال وغدا عيد. رفض المحافظ أولا وهنا كان الموقف الحاسم اذ قال الشيخ ساطوف ليلا على بيوت حماة بيتا بيتا اقرع الابواب بنفسي وامرهم بالافطار غدا، وما اجمل ان يستجيب المسؤول لفتوى عالم ثبتت نزاهته.
أعلن المحافظ ياسين الفرجاني يومها ثبوت رؤية الهلال وان اليوم التالي هو عيد الفطر وافطرت حماة يومها واذكر هذه الحادثة وكنت صائما ومن سعد بالعيد كان الناس يسافرون للمدن المجاورة حمص او حلب كان سكانهما صائمين وكان اهل حماة يجاهرون امامهم بالافطار فيحسبون انهم فساق فيخبرونهم بما ثبت في حماة.
هذه نبذة من تاريخ مدينتي حماة، فحماة ليست آثارا بل هي رجال اثبتوا بشجاعة العلماء وبثقة الخبراء وبثقة أهلها بهم امرا عظيما لم يجرؤ عليه غيرهم من المدن، وكان افراد المدن الأخرى في اول رمضان وآخره يقولون جهلا ودون معرفة يثبت الهلال.
أعور حماة .. كانت مقولة ظلم وجهل، كان أبو عبد العزيز الاحدب معافى ذو هيئة و وقار، كان صحيح العينين وكانتا براقتين صبيح الوجه حسن الهيئة، وكان منشؤه في "زقاق الشيخ معروف" في زقاق مقابل مدرسة "الأنصار" ثم انتقل بعده الى "الشريعة" كما سمعت.
اعرف أولاده بصباحة الوجوه وعلو المناصب، اين نحن اليوم من هذه القامات الرفيعة التي كانت تقف عند الحق ولا تخشى لومة لائم واخص أبا عبد العزيز الذي كان جل جهده لوجه الله تعالى ولخدمة المسلمين. فتشبهوا ان لم تكونوا مثلهم، ان التشبه بالرجال فلاح
6 hrs ·










نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي