عزازيل يداعب هيبا
د. حسين جمعة
أبلغ ما نبدأ به هذه الإطلالة ، عن علاقة عزازيل بهيبا ، قولة فريدريك إنجلز: ليس ثمة من إبليس آخر ، سوى نزوات الإنسان إلى المتع والشهوات الرخيصة. هذه الصبغة التي رسختها الطبيعة في الإنسان ، على مدى العصور ، أراد يوسف زيدان أن يتقرّى أنساغها ويكشف أستارها من خلال ردم الهوة بين عزازيل وهيبا ، وجلاء المكبوتات الحبيسة ، التي تنتاب المرء في حياته العملية ، وتدفعه إلى ارتكاب أقذع القذارات والشرور التي يرجعها إلى إبليس ، في عالم يسوده القهر والكبت ، وسطوة الوعي الجمعي الساذج ، الذي يتطلع إلى إدارك كنه الممارسات المجتمعية المتعارضة ، لكن المتناغمة ، في غالبيتها ، مع تنظيرات الفئات الحاكمة المهيمنة وطروحاتها ، ويضفي عليها هالة من الإباحة والجلال والقوة ، وحتى العظمة والبطولة ، ركضاً وراء هذه التصورات المغلوطة من دون تروًّ كافْ ، أو احتكام إلى الممارسات الفعلية بالعقل والمنطق وأدوات العلم والمعرفة الموضوعية.
عزازيل المراوغ اللعين ، هو إبليس رأس الشياطين ، والشيطان اسم لكل عارمْ من الجن والإنس والحيوانات ، والشياطين هم مردة الجن ، وهم الروح الشريرة في مختلف الديانات ، الروح التي تجسد كل ما هو فاسد ووضيع ، لأن الجميع يرجعون إلى الشيطان كل خلق ذميم. والشيطان هو من أغوى المرأة ، وأول من اقترف الجريمة النكراء الكبرى ، ودسائسه ووسوساته تتعارض مع الأعراف الأخلاقية والشرعية التي أصَّلتها الأنظمة القائمة في المجتمع الطبقي الاستغلالي.
كل ما يقترفه الإنسان من جنايات وآثام وشرور تأتي بتحريض صريح من الشيطان ، الذي لا يخلو من بعض الصفات اللافتة ، مثل: عدم الخنوع والامتثال ، وعزة النفس وقوة الشكيمة والتحدي. وعليه ، فإن الكنيسة ، وما شاكلها ، ورجال الدين من الأديان والطوائف شتى ، يقفون بشدة في وجه الارهاصات المتمردة الشيطانية الاجتماعية ، مهما كانت تلاوينها ، حتى ولو كانت موجهة في سبيل العدالة الاجتماعية ، واستخدام العقل والمنطق ، والسعي إلى الحرية ، والعمل على إعادة بناء المجتمع على أسس أكثر عدالة وإنسانية.
ويوسف زيدان ، بوسائل الفن وصوره ، والفهم التاريخي الواعي ، يدلف إلى المجاهل النفسية العميقة لاستبطان أسرارها: لتفصح لنا عما إذا كانت أفعال هيبا ونزعاته المتحررة ، أو الجانحة ، تصدر عن ذات صاحبها وحيرته وترده ولدَدَه ، أم إن وراء ذلك قوة خفية متجسدة في تحريض الشيطان وهيمنته عليه وتوجيهه له.
في الرّق الرابع ، المعنون "غوايات أوكتافيا" ، الذي يسكب فيه هيبا اعترافاته الخطيرة عن علاقته الفاحشة بأوكتافيا ، أراد أن يقي نفسه ويصونها من الزلل ، ويضع أوزاره على كاهل عزازيل ووساوسه وتحريضه: "لقد احتال عليَّ حتى أغواني بحكاية ما جرى مع أوكتافيا من فحش وخطية ، فقد قسَت روحي وتكدّرت.
فيرد عليه عزازيل بمكر ودهاء:
ـ وهل كانت روحك صافية ، يا هيبا ، قبل الكتابة؟
ـ عزازيل جئتَ...
ـ يا هيبا ، قلت لك ، مراراً ، إنني لا أجيء ولا أذهب. أنت الذي تجيء بي ، حين تشاء. فأنا آتْ إليك منك ، وبك ، وفيك. أنبعث ، حين تريدني ، لأصوغ حلمك ، أو أمدّ بساط خيالك أو أقلب لك ما تدفنه من ذكريات. أنا حامل أوزارك وأوهامك ومآسيك ، أنا الذي لا غنى لك عنه ، ولا غنى لغيرك.
يقترف الإنسان أحقر الدنايا والفواحش والمفاسد ، ويلقي بتبعات جرائمه وجناياته على هسسهسات الشيطان الرجيم ودسائسه ، مبرراً ، لذاته وللآخرين ، سوء أعماله وتصرفاته ، ومتنصّلاً من أبشع الأفعال التي لا تمسه فحسب ، وإنما تصيب غيره وتفسد الحياة العامة. وهو ، بهذا ، يتهرب من المسؤولية الأخلاقية والاجتماعية ، التي تنبع نتيجة تصرفاته الهوج. إن الإيمان الجاهل بقدرة الشيطان على دفع الإنسان إلى فعل الشر وممارسة الأباطيل والتحكم بنواياه وخطاياه ، استثار أعداداً كثيرة من المفكرين والمجتهدين لدحض هذا الوهم الخطير ، وحدا ببعضهم إلى الجنوح في الاجتهاد إلى درجة قول أحدهم ، في كتابه "أسرار الطبيعة العجائبية": من نص الإنجيل نستخلص أن قوة الشيطان أعلى من قوة الرب. حقاً ، لقد وقع آدم وحواء في المعصية على الرغم من إرادة الرب ، وقضيا على الجنس البشري. وعندما جاء ابن الإله إلى العالم ، كي يخلّص البشرية من آثامها أيقظ إبليس الأرواح والنفوس ، فأدانوا ابن الإله. الإله يود أن ينقذ الجميع ، لكن قلة منهم تنال ذلك. وإبليس يريد أن يُدان الجميع والغالبية تحاكم وتدان. الإنسان لا يرغب في الاعتراف بأنه هو والملابسات الاجتماعية المحيطة به أساس المشكلة وماهيتها. ولهذا ، وجد في الشيطان حلاً سهلاً لكل حماقاته وذنوبه وآفات أفعاله. وعليه ، فإن الإنسان غير قادر على معرفة الأسباب الفعلية التي تدفعه لاقتراف المعاصي والفواحش ، ومن يغفل عن معرفة العلل والأسباب لا يجد الحل السليم لمشكلاته ، ووضع حد لمضاعفاتها وتأثيراتها السلبية عليه وعلى الآخرين.
هيبا لم يكن ثابتاً على نية واحدة أو مقصد واحد ، وكان يتأرجح مع كل هبة أو خاطرة توحى إليه سواء من داخله أو من محيطه ، وهو يعترف صراحة بهذا الأمر بقوله: "كنت ، في تلك الأيام ، كورقة شجرة جافة تلعب بها الرياح.. وأظنني ما زلت كذلك".
وفي كل مرة تواجهه حقائق جديدة كان ينشدّ إليها وإلى صاحبها ، وهذا ما حدث معه وهو يستمع إلى الأسقف ثيودور والعالمة هيباتبا ، وإلى إيحاءات نسطور ، وحين اطمأنت نفسه في الكنيسة المرقصية الكبيرة في الإسكندرية ، قال: "حدثت نفسي ، أيامها ، مراراً ، بأنني لست من أهل الدنيا الفانية.. الرب اختارني لأمر خفي يعلمه".
وكذلك حين هدأت نفسه ، في الدير الذي أقام فيه ، وشعوره بأنه اقترب من السماء ، وفي حمأة شغفه بأوكتافيا ومرتا وشمسها اللافحة ، حيث لازمته الحيرة والوساوس وسرعة تغير الخواطر ، ولم يكن لعزازيل أي هيمنة على تصرفاته وتردده وارتباكه ، ومرد ذلك إلى أن قناعاته بمعتقداته لم تترسخ طول مسيرته الصاخبة. فهل كان عزازيل يداعبه ويستثير جوانحه ، ويحضه على ارتكاب الخطايا واقتراف الفواحش ، أم إن ضعفه الشخصي وإيمانه الواهي وراء كل هذه الأوزار والشكوك؟ إن تصميم الرواية ومعمارها وبناء الشخصية والتهويمات الجانحة والتعابير الراصدة لحراك أفكار هيبا ، وكذلك مخطط التجربة الحياتية الملتحم بمخطط التفسير الجمالي ، كلها ، بما في ذلك نمط الترميز الفني والتخييل المنطلق من التجربة ، تؤشر إلى أن البطل كان يعي أبعاد أفعاله وهواجسه ، ويلقي بها على كاهل الشيطان حتى يبرر لنفسه دواهي ممارساته ، ويجد لها الأعذار المقنعة والمسوغات المعقولة والمقبولة ، حتى وهو يعترف بأن "طاحونة الأفكار المتناقضات" لا تتوقف في رأسه. وتتجلى شكوكه ، لا بل يبلغ به الجحود ذروة الإنكار التام للغيًبيّات ، إلى حد دفع عزازيل أن يستنكر دفقات مشاعر هيبا ، في حضور سحل هيباتبا وحرق جثتها:
ـ هيبا.. ما هذا الذي تكتبه؟
ـ اسكتْ يا عزازيل ، اسكت يا ملعون.
أي إن اهتياج هيبا على ما اقتُرف ، بحق هيباتيا ، كان أشد قسوة وضراوة مما يحتمله إبليس: "أشعلوا النار.. علا اللهب ، وتطاير الشرر.. وسكتت صرخات هيباتيا ، بعد ما بلغ نحيبها ، من فرط الألم ، عنان السماء ، حيث كان الله ، والملائكة ، والشيطان ، يشاهدون ما يجري ، ولا يفعلون شيئاً".
بشاعة مقتل هيباتيا وتعذيبها والتمثيل بجثتها استحثّت الطبيب الإنسان ، زيد حمزة ، فعَلّق على هذا الحدث الإجرامي في جريدة الرأي ، قائلاً: ما زالت أمثال هذه الجرائم متواصلة ، بأشكال مختلفة ، وبفظاعة أشد وأنكى ، يرتكبها المتعصبون من كل الأديان والمعتقدات والأيديولوجيات.. ضد الآخرين.
هيبا لا يذكر عزازيل ، في أوج بوحه الداخلي ، ولا يلقي عليه اللوم في خوفه وضعف إيمانه وحماقات أفعاله: "إيماني مشوب بشكوك كثيرة ، وإيماني ، مثل سحابات الصيف ، رقيق ، ولا ظل له ، ومن أقدر على معرفة الذات من حارسها وخبيرها وصاحبها؟ وما دام الأمر كذلك ، فلا داعي لإلقاء زيف الذات وإفكها على عزازيل اللعين ، والتلذد بهذه الأوهام واستغلالها".
يحضر عزازيل ، في الرواية ، محاججاً صلباً لأوهام هيبا ووسوساته ، وهو دائماً يتغلب عليه في محاوراته المتشعبة بذكاء وقاد ، ودهاء يحتكم إلى العقل والمنطق ، وهيبا نفسه يعترف بذلك قائلاً: "لم أعد أجادل عزازيل فيما يقول ، كنت غير قادر ، أصلاً ، على جداله".
وقناعة هيبا بأفكار عزازيل وخفة ظله وتفوقه في الحوار وحنكته في الإقناع تسللت ، جميعها ، إلى أدغال نفسه ، وحفزته ، مراراً ، لاستدعاء عزازيل لنجدته ، ومؤانسة وحدته ووحشته ، وهذا ما دفعه ، أيضاً ، إلى الاستفسار من عزازيل عن أصل وجوده ومغزى أفعاله ومحمولات دسائسه ومكائده وقبائحه ، فكان يجبب عن تساؤلات هيبا بمكر مكين ، ورصانة لافتة ، ومعرفة عميقة بدواخل النفس الإنسانية ، ولم يكن يشعر أن هذه الأسئلة تستثيره أو تحط من مكانته أو أهميته في حياة البشر ، الذين يلقون برذائلهم وخساساتهم على حيل الشيطان وبراعته في خداعهم وتضليلهم ، وهم أنفسهم أوسع ضلالاً منه ، وأمهر في ارتكاب الآثام والمعاصي.
ورد ذكر عزازيل ومرادفاته ونعوته ، في الرواية ، حوالى ثمانين مرة ، لا تشعر القارئ أن إبليس هو المحرض على ارتكاب الآثام والمعاصي ، وإنما ، من وراء ذلك ، نوازع النفس الإنسانية الأمارة بالسوء ، وعزازيل يقول لهيبا ، بصراحة ، ومن دون تردد: "أنا ، يا هيبا ، أنت ، وأنا هم ، تراني حاضراً حيثما أردتَ ، أو أرادوا..."
وعندما يسأل هيبا عزازيل عن أحب أسمائه إليه ، يجيب: "كلها سواسية ، فالفروق في الألفاظ ، لا في المعنى الواحد".
لكن ، ما هو هذا المعنى الواحد ، إنه النقيض ، قال عزازيل ، نقيض الله المألوه ، ولأن لكل شيء نقيضاً ، أفردنا للشر المحض كياناً مناقضاً لما افترضاه ، وسميناه عزازيل ، وأسماء كثيرة أخرى... لتكون مبرراً للشرور التي يقترفها بنو البشر. وكان هيبا يستدعي عزازيل في الملمات الصعبة لتخليصه من عثراته وتوجساته ، ووصل الأمر إلى درجة اندماج عزازيل وغيابه داخل هيبا ، ليتوسط الفراغ الذي يحياه ، وينام نومته المتفجرة ، ليصحو على ضجيج الحياة من حوله ، ويعيد النظر في مسيرته القلقة.
خسارات هيبا المتتالية ، وإحساسه بالضياع ووقوفه مخذولاً في مماحكاته مع عزازيل ، وعزل الأسقف نسطور وحرْمه ، وفقدان مَرْتا ، إلى جانب الأسئلة المؤرقة ، والشائكة ، حول مصفوفة تصوراته عن سديم فراغات المطلقات الدينية والمعتقدية ، وعشقه الجامح للجمال والحب أفضت به ، في نهاية المطاف ، إلى غيبوبة حارقة ومدمرة استمرت عشرين يوماً ، ليصحو بعدها خائر القوى ، فاقداً كلَّ شيء: "لقد انتهى كل شيء. انهزم نسطور ، واختفت مرتا ، وغاب عزازيل ، وعرف أهل الدير حقيقة حالي. لقد انتهت حياتي كلها ، فليس أمامي إلا الموت".
لكن عزازيل يستنكر اندفاعه هذا ، ويرى أن حياته في الكتابة: فمن يكتب لن يموت أبداً.
كتب هيبا حكايته وأكملها ، ووضع رقوقها في صندوق ، وواراه التراب ، عند بوابة الدير ، هامساً في باطن أعماقه: "ولسوف أدفن معه خوفي الموروث ، وأوهامي القديمة كلها. ثم أرحل مع شروق الشمس ، حراً.."
تاركاً للمتلقي تعمير بنيان الحكاية ، واستكمال فراغاتها ، ومعاينة الخيار الذي اتخذه هيبا لشق دربه وترسيم مشروع جديد ومحدد لمسيرته ، وهو صاحب الضمير الشقي ، والباصرة القلقة ، لكن الحية التي لم تستطع الركون إلى اليقينيّات الجاهزة ، وكانت تطمح إلى مراجعة موضوعية للأحداث التاريخية التي عاشها في المقطع الزمني من حياته الواعية ، الذي استمر عشرين عاماً ، وأحاط بأحداث عدة من قرون متتالية وعاصفة.
التاريخ : 16-07-2010