كان القائد يُرسل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو في ميدان القتال ليطلب مدداً للجيش، فيمده عمر بفرد أو أفراد، فمثلاً: أرسل له سيدنا سعد بن أبي وقاصٍ في موقعة القادسية في العراق يطلب المدد، فأرسل إليه رجلاً واحداً وأرسل له: {أرسلت إليك المقداد بن عمرو ولن يُغلب جيشٌ فيه المقداد بن عمرو}
وصدقت فراسته فإن العدو تناوش الجيش وهمّ بعض أفراده بالتخاذل والتقهقر، فصاح المقداد وهجم بمفرده على جيش الفرس المتقدم، وتحمَّس لخروجه نفرٌ من المسلمين فتبعهم الباقون وكان ذاك سبب النصر، وروي أنه قطع خرطوم الفيل الأعظم فكانت هزيمتهم، ولا يستطيع الوصول لذلك الفيل فضلاً عن قطع مشفره أحد
وغنم المقداد في فتح المدائن أدرع كسرى وفيها درع هرقل ودرع لخاقان ودرع للنعمان وسيفه وسيف كسرى فأرسلها سعد جميعها إلى عمر، وهذا المقداد بن عمرو هو الذي لما استمدَّ خالدٌ أبا بكر عندما حاصر الحيرة أمده أبو بكر رضي الله عنه بالمقداد بن عمرو، وقال: {لا يهزم جيش فيه مثله}{1}
لما حاصر عمرو بن العاص حصن بابليون في مصر، وطال الحصار وعلم أن الروم جاءهم مدد وبلغ عدد جيش الروم مائة وعشرين ألف مقاتل، وكان جملة ما معه من جنود المسلمين أربعة آلاف، فأرسل إلى عمر بن الخطاب يطلب المدد، فأرسل إليه عمر رضي الله عنه أربعة آلاف جندى ومعهم أربعة رجال ورسالة: {أرسلت إليك أربعة آلاف جندى وأربعة رجال هم الزبير بن العوام ومسلمة بن مخلد وعبادة بن الصامت والمقداد بن الأسود{2}، وكل رجل منهم بألف فيكون جيشك إثنى عشر ألفا، ولا يُهزم جيشٌ من إثنى عشر ألف مقاتل{3}}
يعنى الرجل من الأربعة بكم؟ بألف .. هذا المعنى مُقتبسٌ من قول الله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً}النحل120
رجلٌ واحد ولكن يساوى أمة، ليس في مظهره ولا قوته البدنية ولكن في جوهره وخبره وقوته الروحانية وصلابته القلبية، ونفسه القدسية التى غُذيت بما عند الله من اليقين.
ولذا كنت ترى خليفة الأمة يرى أن القائد العام يترك منصبه ويتحوّل إلى جندي، ولا يتأثر القائد ولا يتغير ولا يفتر ولا يترك الجهاد ويذهب إلى منزله معترضاً على هذا التصرف، بل إن خالد بن الوليد رضي الله عنه عندما كان في رتبة تعد أعلى من قائد الجيش- باعتبار علو الرتبة العسكرية العليا تكون بعدد المعارك التى خاضها، ولايوجد في التاريخ قائدٌ خاض أكثر من مائة معركة وانتصر فيها كلها، وكل معركة لها تكتيكٌ جديد يحتاج إلى مدارسة كلية الأركان في أنحاء العالم كخالد بن الوليد - ومع ذلك جاءه خطاب العزل وهو في معمعة القتال
والعزل يعني أن يصير جندياً ولا يُعفي من الخدمة، فرضي وأطاع الأمر وجاءه أحد المنافقين وقال: كيف تُعزل وأنت من أنت؟ إن معي مائة ألف سيف أوقفتها معك فلا تنفذ الأمر وكلنا معك، قال: بئسما ما تطلبه مني يا أخي، أنا مجاهدٌ في سبيل الله ولا يهمني في ذلك أن أكون قائداً أو جنديا.
نحن في أمسِّ الحاجة إلى نفوس تربت هذه التربية، لأن خالداً لم يكن مقتنعاً بقرار عمر رضي الله عنه لأنه لم يخطىء حتى يعاقب، ولكنه يعلم أن عمر عزله خوفاً على المسلمين أن يفتنوا بخالد في الحرب، وعمر يربي الأمة على كمال اليقين بالله، فانحاز خالد لمصلحة الجماعة بلا جدال ولا نقاش، لأنه تربَّى التربية الإيمانية على المائدة المحمديَّة؛ وهذا بالضبط ما يحتاج إليها المجتمع المسلم لينهض من كبوته وليعيد مجد الأمة مرة أخرى
فكيف نتوصَّل لذلك؟ هل بالكتب والقراءة والإطلاع كما يقول البعض؟ هل بالخطب والمواعظ والفضائيات؟ لا بل باستعادة النهج النبوى للتربية كما قال عز وجل: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ} البقرة151
لو ذهبنا بعد ذلك في تاريخنا المبارك لوجدنا أن هؤلاء الرجال هم الذين قادوا الفتوحات الإسلامية، إبتغاء وجه الله. انظر إلى عقبة بن نافع عندما وصل إلى المحيط الأطلسى وخاض البحر بفرسه وقال: {والله لو أنى أعلم أن هناك أرضاً خلف هذا البحر، لخُضت هذا البحر إليها لأجاهد في سبيل الله}، لا ليكون مليونيراً ولا ليجمع ثروات، ولا ليتولى قيادة أو ليتبوأ منصباً، وإنما كلُّ ما يريده هو وجه الله جلّ في عُلاه كما قال الله تعالى عنهم: {يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} الكهف28
انظر إلى أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه وقد بلغ من العمر أرذله كما يقولون، ولكنهم كانوا يحنون إلى الجهاد كما تحن الطيور إلى أوكارها في المساء، سمع أن معاوية جهّز جيشاً لغزو القسطنطينية، فذهب ليجاهد معه، وفي وسط الميدان مرض، فجاءه قائد الجيش يزيد بن معاوية وقال : أتشتهى شيئاً يا صاحب ضيافة رسول الله؟ لأنه هو من أستضاف رسول الله عند الهجرة، قال: {نعم إذا أنا متُّ احملنى واخترق صفوف الأعداء؛ وآخر ما تصل إليه من الأرض فادفنّى هناك}.
انظر إلى الوصية للرجل التي يوصي بها عند لقاء الله، ونفَّذ له الوصية بعد موته، فحمله الجند واخترقوا صفوف الأعداء وآخر مكان وصلوا فيه إلى الأرض حفروا فيه ودفنوه هناك، وهذا المكان بجوار سور القسطنطينية ومازال ضريحه المبارك ومسجده الزاهي إلى الآن يزدهي به أهل هذه البقاع جميعها.
والأمثلة في هذا المجال لا تُعدُّ ولا تُحد، لكن ما أبغي أن أصل إليه، عندما ضعُفت روح اليقين، أو كلما ضعُف اليقين وتنافس المسلمون في الدنيا وفى الحظوظ والشهوات والأهواء .. ضعُفت عندهم روح الجهاد وخبت عندهم القيم الإيمانية، فمكّن الله عدوّهُم منهم، ولا مخرج لهم في هذه الأحوال إلا بالرجوع إلى التربية الأولى التي كان عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع صحبه الكرام
{1} الإصابة في تمييز الصحابة {2} النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة، وقيل خارجة بن حذافة بدل مسلمة، وفى وفيات الأعيان ذُكِرَ أنَّ عمرو بن العاص استمدَّ عمر رضي الله عنه بثلاثة آلاف فارس،فأمده بخارجة بن حذافة والزبير بن العوام والمقداد بن الأسود الكندي{3} إشارة إلى الحديث الشريف: {وَلاَ يُغْلَبُ اثْنَا عَشَرَ أَلْفاً مِنْ قِلَّةٍ}. أخرجه أحمد عن ابن عباس، وفى مسند الشهاب زيادة {إذا صبروا وصدقوا}