كنت
أحسب أننا كسبنا في شخص الأستاذة ثناء صالح أستاذة عروض في طريقها لتكون عالمة
عروض. واليوم اكتشفت أنها أديبة ناقدة كذلك.
وهذا مقال قيم لها عنوانه (
تحليل نفسي للحالة الشعرية عند الشاعر )
http://www.aklaam.net/forum/showpost...69&postcount=1
وعلى
الموضوع في أصله حوار مفيد.
تفرض كتابة الشعر على الشاعر
ثلاث متلازمات نفسية لا يمكن الفرار منها بسبب أغراض الشعر النفسية الثلاثة التي
يسعى إليها الشاعر بالكتابة ...فأما أغراض الشاعر فهي تفريغ شحنات القلق الإبداعي
المتراكمة في نفس الشاعر وإحداث الإثارة في المتلقي بنقل حالة الشاعر النفسية إليه
والتلذذ في العملية الإبداعية .
وأما المتلازمات النفسية الثلاثة عنده والتي
تسببها أغراض الكتابة فهي متلازمة التفريغ – الارتياح ومتلازمة الإثارة – المبالغة
ومتلازمة الإبداع – إشباع الحس الجمالي .
ولنبدأ أولا بالغرض الأول ( التفريغ )
الذي يؤدي إلى متلازمة التفريغ – الارتياح:
تختلف شخصية الفنان عموماً والشاعر
خصوصاً عما عداه من البشر بكونها ذات عتبة تحمل شعوري أقل فهي تتحسس بدرجات أقل من
الملاحظات الجمالية أو النفسية فتعاني بشعور أكثر ضخامة ومبالغة عند التعاطي مع
مدركاتها الحسية والذهنية ...وهذا يمكن أن يسمى عموماً بالرهافة كما هو متعارف عليه
.
وبالتالي فإن مقدار التأثر بالمعطيات الحسية النفسية عند الشاعر سيكون أشد
انفعالاً مما هو عليه الحال عند الإنسان العادي ...ووفقاً لمبدأ نيوتن في فيزياء
الميكانيك الذي ينص على أن كل قوة مؤثرة تثير في الجسم الذي تؤثر فيه رد فعل مقابل
لها يساويها في الشدة ويعاكسها في الاتجاه..... ونظراً لأنني أعتقد أن هذا القانون
ينطبق تماماً على الميكانيكا النفسية للإنسان ( السلوك ) فإن ردود أفعال الشاعر
ستكون أشد تجاه ما يؤثر فيه من قوى المثيرات النفسية ...فتبدو استجاباته تجاه
المثيرات للمتأمل والمراقب مفرطة ومبالغ فيها ..
فالفنان (الشاعر ) يمتلئ سريعاً
ويعاني من ضغط الامتلاء بشدة أكبر من سواه ..مما يجعله أكثر توترا وأكثر إلحاحاً في
طلب تفريغ الانفعالات العاطفية ..فيكون التفريغ عموماً بأي نوع من الممارسة
المزدوجة ذات الطابع التعبيري الجسدي – الذهني أي لا بد من الفعل يمارسه الفنان
..فلا بد من الكتابة أو الرسم أو العزف الموسيقي أو الغناء أو الرقص .. إلخ
فالارتياح يتأتي بعملية التفريغ هذه عند الفنان ..
لكن ما يميز الشاعر عموما عن
غيره من الفنانين أنه مضطر لاستخدام اللغة التي هي في الأساس وسيلة تعبير أشد
منطقية وبالتالي فإن المفردات اللغوية بكونها وعاءً عاماً للفكر والمنطق الإنساني
فإن أول ما يتعرض له الشاعر من قبل المتلقي لفنه هو المحاكمة المنطقية للدلالات
اللغوية ..وفي حين يكون الشاعر أحوج ما يكون للتفلت من قيود اللغة الاجتماعية ذات
الطابع المنطقي فإنه يكون الأشد من بين الفنانين في تعرضه للمراقبة الدلالية سواء
من حيث إخضاع نصه اللغوي لموازين المنطق أو الدين أو العرف أو حتى الشكل اللغوي
..
وإذا كنا متفهمين للحالة النفسية للشاعر خلال عملية التفريغ فيجب أن نفهم انه
على الرغم من أن عملية التفريغ تخضع لخصائص الأدوات اللغوية من حيث القواعد الشكلية
والدلالات إلا أنها في الأساس وسيلة تعبير نفسية انفراجية ثائرة متمردة . ...ولكم
أن تتخيلوا الحالة النفسية للشاعر قبيل البدء بعملية الكتابة كما لو كان بالونا ً
مغلقاً ممتلئاً بالهواء الذي يسبب الضغط في داخله في كل اتجاه فإذا ما فتح الشاعر
ثغرة دقيقة ( ثقبا) عبر البدء في التعبير ( الكتابة ) فإن نوعاً من الانفجار سيحدث
بطريقة تتدافع فيها مكنونات النفس نحو الخارج عبر ذلك الثقب التعبيري وبالتالي فإن
تزاحم الأفكار هو السمة الأولى للنص الشعري قبل تنسيقه ليكون متماسكا ...فالتعابير
الشعرية ستخرج بشكل منفلت بحيث يتوجب على الشاعر في تلك اللحظات الحرجة قصيرة الأمد
أن يكون سريعاً في اصطياد أي شعور يتمثل في نفسه للحظات قبل أن يفر ذلك التعبير
الشعري هارباً ... ولو تراخى الشاعر قليلا في تسجيل انفعالاته لتبعثرت هنا وهناك
وتفلتت منه قبل أن يتم القبض عليها ولما وجد أمامه على الورقة شيئاً يمكن قبوله
كعمل فني شعري .. لذا فإن توتر الشاعر في اللحظات الأولى للكتابة يكون كبيراً
لخشيته من إضاعة صياغاته التعبيرية ونسيانها قبل تسجيلها فيما لو اضطر للتفاعل مع
العالم الخارجي في تلك اللحظات .... فتجده يثور لأتفه الأسباب فيما لو تم قطع
العملية التفريغية الانفجارية الإبداعية عنده ...ونحن لا نقطع مثلاً على شارب الماء
العطشان شربته ..كما نحرص على أن ندع الجائع يكمل طعامه قبل أن نطلب منه التفاعل مع
شيٍءٍ آخر .. وهكذا عموماً لا نتقبل قطع أي عملية ذات طبيعة غريزية تفريغية أو
إشباعية يقوم به إنسان لأنه سيجعل ذلك الإنسان قلقاً شديد التوتر نتيجة الانقطاع عن
التفريغ أو الإشباع الغريزيين . ..حتى إننا لا نستسيغه للحيوان أيضاً رأفة به .
..
فمتلازمة التفريغ -الارتياح هي سبب ونتيجة في العملية الإبداعية وفي الحالة
الشعرية عند الشاعر
لذلك ..ومراعاة لمسألة التدفق الشعري المحتدم في لحظات
التعبير الأولى ينبغي عند ملاحظة النص بعد الانتهاء من عمليات التنسيق التي يقوم
بها الشاعر للتعابير الخام ..ينبغي الإشارة إلى أن أجمل الاقتناصات التعبيرية ذات
الوقع العاطفي المتأجج هي تلك التي تكون أقل عرضة للتشذيب من قبل الشاعر بعد تدفقها
في اللحظات الأولى للانفجار التعبيري
الغرض الثاني للكتابة هو
الإثارة للمتلقي لنقل حالة الشاعر إليه والتأثير فيه وينجم عنه متلازمة الإثارة - المبالغة
فالإثارة فعل الشاعر الأساسي الذي يناط به
عمله الفني.....ويحتاج الشاعر لممارسة الإثارة لأنها الأداة التي يبدأ الاتصال
عبرها مع المتلقي البعيد ...فهي بمثابة رنين الهاتف الذي ينبه ويجذب من يود محادثته
كشاعر .لذا فإن هذا التنبيه (صوت الرنين ) ينبغي أن يكون بشدة مناسبة كي تلفت
انتباه المتلقي الذي قد يكون محاطاً بالضجيج ...أي ينبغي أن تكون
الإثارة قوية كي تدفع القارئ للاتصال مع الشاعر عبر نصه ..وكيف تكون الإثارة قوية
؟
الأمر بسيط للغاية ... لابد أن يشعر القارئ
بأنه معني بذلك الرنين كي يوافق على الاتصال ,,وهذا
يعني أن الإثارة تكون موجهة للقارئ باستعمال رقمه الخاص ...إذن لا بد أن يستعمل
الشاعر وخاصة في منطقتي عنوان النص وفاتحته مفردات ذات طبيعة حساسة
موجهة حسب المضمون الذهني والجمالي الذي يرغب الشاعر بإيصاله وكذلك حسب الفئة
المستهدفة من المتلقين... فهنا تبرز أهمية أن تكون
المفردات ذات مدلول اجتماعي ثقافي عمومي أقرب ما تكون للمصطلحات المتفق عليها بين
الشاعر والشريحة الثقافية التي ينتمي إليها المتلقي المطلوب جذبه ...فالحس الإعلامي الدعائي عند الشاعر يؤدي هنا دوراً حاسماً في
اختيار تلك المفردات لتكون مصيدة للقارئ ...كي يرغب بفتح أذنيه جيداً ..من المتوقع
في هذه الحال أن يمارس الشاعر فعل الإغراء الرمزي المرتبط بالمضمون ( محتوى الموضوع
) المطلوب نقله للمتلقي . ..والإغراء كما هو معروف يتسم بنوع من الإبهار
الناجم عن زيادة إثارة حاجات المتلقي ..بالمختصر المفيد ينبغي
أن تقوم الإثارة بمداعبة الحاجات والدوافع الغريزية للمتلقي كدوافع الحب الجنسي في
شعر الغزل أو الحب الإلهي في شعر المتصوفة أو دوافع الأخلاق النبيلة في شعر الحكمة
...أو تقوم بالتلميح لمعالجة القضايا الحساسة المرتبطة بالحياة النفسية للمتلقي
كمواضيع الثورة في هذه الأيام ...وهكذا
..
طبعا هذا يعني أننا فصلنا الآن بين
المواضيع الخاصة بالمعالجة الشعرية والمواضيع الأخرى التي يمكن تناولها في الأنواع
الأخرى من الكتابة ..والتي تخص الصحافة أو العلوم الاجتماعية والإنسانية فمثلاً
..لا يمكن تناول موضوع يتعلق بالخدمات التحتية في المجتمع كمحور لنص شعري ..وقس على
ذلك مواضيع أخرى تتعلق بالإدارة أو التجارة أو الفكر من المواضيع الباهتة في الشعور
،إنما مجال الشعر مختص بكل ما يضطرب له الشعور والوجدان بلذة او ألم ...فالإثارة تكون إما للذة أو للألم في نفس المتلقي
..
وكي يتم الإغراء وتحقق الإثارة هدفها في
الجذب فإن ذلك يستلزم الاعتماد على خاصة المبالغة والزيادة في
تصوير ما هو مطلوب للتلذذ أو ما هو مطلوب للإيلام النفسي ...فبغير المبالغة تفشل
الإثارة ..والتلازم بينهما لا مفر منه في الحالة الشعرية عند الشاعر
...والشاعر يمارس ذلك بموهبته الفطرية دونما انتباه أثناء الكتابة ، كما
يمارسه كمطلب فني بوعيه وإتقانه.. فيجدّ عند ذلك في طلب الفاتن من المعنى أو الصورة
الشعرية باتباع نهج المبالغة ..وهو مضطر لهذه المبالغة لتحقيق فعل الإثارة الضرورية
لامتلاك وعي المتلقي .
ويمارس الشاعرالمبالغة
بالاعتماد على فنون البلاغة الثلاثة ( التشبيه والاستعارة والكناية ) لإضفاء
التضخيم على الصفات الواقعية ..فلو أخذنا على سبيل المثال بيتاً من شعر
الغزل القديم ليزيد بن معاوية ما زال المتذوقون يعدونه
من عيون الشعر العربي الجميل :
وأمطرت لؤلؤاً من نرجس
وسقت.......... وردا وعضت على العناب
بالبرد
وقمنا بتجريد الصور الشعرية في هذا البيت
من المبالغة المستمدة من البلاغة لأمكننا شرحه كما يلي :
بكت فتساقطت قطرات دموعها من عينيها وجرت
على خديها الأحمرين وعضت بأسنانها البيضاء على شفاهها الحمراء
...
فانظر ما الذي تفعله المبالغة في إثارة
مشاعرنا وفي مقدار المتعة التي تضفيها على تذوقنا لجمال الصور الشعرية في هذا البيت
قبل تجريده من المبالغة وانظر كيف أصبح باهتاً بعد تجريده منها ..
....
ويمكننا القول بناء على ما تقدم: إن
العلاقة بين متعة التذوق والمبالغة هي علاقة طردية دائماً في الشعر الذي يعتمد على
التصوير الشعري بشكل خاص ، فكلما ازدادت نسبة المبالغة ازدادت متعة التذوق عند
المتلقي ..ومن هنا فإن عبارة ( أجمل الشعر أكذبه ) تبدو صحيحة في هذا النوع من
الشعر التصويري ..ويعني ذلك في المحصلة أن المبالغة في الحالة الشعرية هي قيام
الشاعر أثناء الكتابة بتمثل ما هو غير واقعي وإلحاقه بالواقعي من المشاعر ..وذلك
كذب بلا شك ...
و لو تصورنا شاعراً يحاول الاستغناء
عن المبالغة ... بدعوى تحري الصدق في القول كم سيكون مقدار نجاحه في إثارة مشاعر
المتلقي وجذبه ؟ الجواب : سيكون حظه من ذلك قليل حتى وإن كان مبدعاً .
ومن هنا يمكن التعامل مع الآية القرآنية
الكريمة التي نزلت خاصة لوصف الحالة الشعرية عند الشعراء والتنبيه إلى عدم
المصداقية الناجمة عن المبالغة في ما يقولونه ..كي لا يتخذ أحدهم منظّراً فكرياً أو
اجتماعياً بالمطلق حتى وإن كان مؤثراً في جمهوره بقوله تعالى .. {وَٱلشُّعَرَآءُ يَتَّبِعُهُمُ ٱلْغَاوُونَ } * { أَلَمْ تَرَ
أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ } * { وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ
يَفْعَلُونَ } * { إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ
وَذَكَرُواْ ٱللَّهَ كَثِيراً وَٱنتَصَرُواْ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ وَسَيَعْلَمْ
ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ } ....... سورة الشعراء.
فالله تعالى يعلم حال الشعراء أثناء تلبسهم
في الحالة الشعرية ... ويعلم عدم استطاعتهم التجرد عن
المبالغة الملازمة لفعل الإثارة لنقل ما لديهم إلى المتلقي
...
من هنا يمكن القول أنه من
الخطأ محاكمة الشاعر حسب ما يأتي في شعره من مخالفات شرعية بسيطة ..كوصف
اللذة في تعاطي الخمرة ..أو وصف جسد المرأة ..أو اللقاء بين الحبيبين ..اللهم إلاً
أذا كانت المخالفة الشرعية هي ديدن الشاعر وخطه الأساسي في الكتابة
..
وهذا
يفضي بنا إلى أن نجرد اللغة في الكتابة الشعرية عند الشعراء عن الدلالات المنطقية
الأخلاقية والدينية ..فقد عذرهم رب العالمين في ذلك عندما قال(أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ ) فهذ الأودية التي يهيمون فيها ليست سوى أودية المفردات التي تخلت
عن دلالاتها الاجتماعية ذات الطابع القيمي المتعارف عليه....وما أضعف الشاعر
عند انتهائه من كتابة نصه في الدفاع عن شعره من ناحية الدلالات القيمية ..فغالباً لا يكون الشاعر نفسه قادراً على تقمص حالته الشعرية في
واقع الحياة ....ونستدل على ذلك من أن التعبير الشعري عند الشاعر قد كان في
الأصل حالة انفجار ثوري تعبيري تحت ضغط امتلاء المشاعر بالرؤى والانفعالات الشعرية
ضمن الحالة الشعرية ...
يتبع
...
نأتي الآن إلى الغرض الثالث من أغراض كتابة الشعر عند الشاعر وهو التلذذ بالعملية الإبداعية الذي يفرض على الشاعر
المتلازمة النفسية الإبداع – إشباع الحس الجمالي والتي تتسم
بها الحالة الشعرية عنده .
في البدء أريد أن أؤصل العملية الإبداعية المتمثلة في الكتابة عند
الشاعر فأردها إلى الظاهرة النفسية التي تظهر عند الطفل منذ بدء تفتح وعيه حوالي
السنة الرابعة من العمر وهي ظاهرة أحلام اليقظة
..فالطفل يبدأ بتخزين مدركاته التي تكتظ بما هو ضخم من التصورات غير
الواقعية التي يلبسها الطفل لباس الواقع ويعيشها لوحده وهو يعلم أنها خاصة به .. .
فعندما يكتشف الطفل أنه يمتلك أداة الخيال وأنه قادر على إعادة صياغة العالم وفقاً
لحاجاته ورغباته هو عبر أحلام اليقظة ...فإنه يحوز على
متعتين اثنتين إحداهما متعة إعادة تشكيل العالم بتقمص ما يشبع دوافعه الغريزية من
شخصيات القصص التي يأخذ فيها دائماً دور البطولة ، والثانية هي متعة الاستعراض التي
توفرها مشاركة الأصدقاء في التقمص عبر اللعب أو مشاركة الآخرين عموماً ويدخل فيهم
من يزعج الطفل في حياته عبر حلم اليقظة الذي سيمكن الطفل من الانتقام أو إعادة
اعتباره والانتصار لكرامته ممن يسيء إليه في الواقع .
أحلام اليقظة تستمر عند الإنسان حتى الموت ...لكنها تشهد نشاطاً مميزاً
عند الطفل وعند المراهق بشكل واضح ... وفي حين يؤثر ارتفاع معدلات النشاط الواقعي
في الحياة على معدل نشاط أحلام اليقظة فيضعفه أو حتى يقوم بقطعه وإيقافه لفترات
معينة مع الانخراط في معترك الحياة اليومية وممارسة العمل أكثر عند الإنسان العادي
.. فإن شخصية الفنان عموماً تتميز باستمرارية ارتكازها بشكل كبير
على تحقيق التوازن عبر التقمص المرتبط أصلا ً بحلم اليقظة فحتى لو ازداد معدل
النشاط الواقعي عبر ممارسة العمل في حياة الفنان الشاب فهو لن يتخلى عن الخيال في
إدارة شؤون شخصيته ...لكن بسبب نضج العقل والحاجة إلى المصداقية في الحياة و كي
يحقق الفنان الشاب الاحترام الذاتي فإنه يحاول التعويض باستخدام العملية الإبداعية
بدلاً من حلم اليقظة فهنا تصبح الحالة الشعرية عند الشاعر هي الإطار نفسه الذي كان
يحيط سابقاً بحلم اليقظة ...لكن الآن الشاعر يصر على مشاركة هذا الحلم مع الأصدقاء
وهم المتلقون الذين يوجه الشاعر إليهم نتاجه الشعري
...
فالعملية الإبداعية سيتدخل فيها عاملان في الحالة الشعرية
الأول يرتبط بما لدى الشاعر ويرغب بعرضه ( الاستعراض ) لأصدقائه والثاني يرتبط
بأصدقائه الافتراضيين وهم المتلقون أنفسهم ...فكي يضمن الشاعر مشاركتهم سيتقرب
إليهم بما هو موجود فيه ويعلم أنه موجود عندهم أيضاَ ..لذا فإن متلازمة الإثارة -المبالغة كما ذكرت سابقاً ستحتل مكانة مهمة في الحالة
الشعرية عند الشاعر أثناء إشراك المتلقي من خلال قدرة الشاعر على تمثل حالة المتلقي
أثناء تذوقه للعمل الشعري .
ولعل هذا الكلام يدفع بنا إلى القول إن الشاعر لن
يتمكن من كتابة الشعر إذا تصور عدم وجود المتلقي مطلقاً لا الآن ولا في المستقبل
... ونستنتج أن العملية الإبداعية (الكتابة ) تستلزم
إشراك المتلقي بما لدى الشاعر عبر عملية الاستعراض من قبل الشاعر والتذوق من قبل
المتلقي ..
لكن في الحقيقة فإن الحالة الشعرية تتضمن فضلاً عن متعة الاستعراض التي
يمكن تأصيلها إلى إشباع دافع الكرامة والإحساس بالاحترام الذاتي عند الشاعر متعة
أخرى مهمة جداً عنده هي متعة إشباع دافع الحس الجمالي وهي متعة
خاصة قد لا تتوفر بشكل واضح ودائماً عند كل الناس , وذلك لأنها تتطلب الصقل المستمر
كي تنمو وتتضح وأريد أن أشبهها بغدة صغيرة في الجسم قد يتمكن الإنسان من العيش بدون
إفرازاتها عندما تكون ضامرة أو ضعيفة النشاط ولكنه يعيش بسعادة أكبر عندما تكون
نشيطة وقائمة على رأس عملها
...
الحس الجمالي في الأصل يرتبط بالغريزة الجنسية عند
الحيوانات إذ نلاحظ كيف تزدهي الحيوانات بالألوان الجذابة خلال مراحل الغزل في
مواسم تكاثر الأسماك والطيور مثلاُ ...لكن عند الإنسان فإن الحس الجمالي وإن كان
يرتبط أصلاً بالغريزة الجنسية إلا أنه ينمو مع الصقل ليتداخل مع جميع أنواع
الانفعالات عند الإنسان خاصة وأن تجربة التفكير ترقى به عبر ربطه بالقيم المعنوية
الأخلاقية والدينية والفنية ...وما يحدث أن الشاعر( الفنان عموما) يكتشف
أكثر من غيره متعة الحس الجمالي أثناء محاولاته المستمرة للتعبير البلاغي فتظهر
قدرة الشاعر (الأديب ) على الكشف عن الخصائص الجمالية للموضوع الذي يصفه بالوصف
والربط بين الصفات وهنا فإن مهمة الشاعر أن يتفوق على المتلقى
ليكشف له بحسه الجمالي ما لا يستطيع المتلقي العادي الانتباه إليه ...فتتركز مهمة
الشاعر في أن يرسم بالكلمات الصور الشعرية التي تشكل المشهد الشعري عموماً
...وبرأيي الشخصي ..كلما كانت الصور الشعرية متسقة
كوحدات بناء صغيرة مترابطة وموظفة ضمن الرؤية العامة لبناء المشهد الشعري كانت تدل
على درجة أرقى وأكثر تطوراً من وعي الحس الجمالي عند الشاعر . الأمر يشبه تماماً أن
ترسم لوحة بالفرشاة والألوان على خلفية قماش اللوحة ...فهل يقبل الحس الجمالي أن
تكون هناك بقع غير ملونة في خلفية اللوحة ؟ غير أن ميزة الصور الشعرية الجميلة أنها
فضلا ً عن اتصالها العضوي بعضها مع بعض ضمن المشهد الشعري فهي قادرة على أن تتضمن
نوعاً من الحركة التي ينتقل عبرها الشاعر من منطقة إلى أخرى عبر المشهد الشعري بشكل
متسلسل ...وتتأتى هذه الميزة من أننا عندما ننظر إلى لوحة حقيقية مرسومة بالريشة
فنحن نراها ككل ...بل مطلوب منا أن نتأملها ككل وإن كنا نستطيع تركيز بصرنا على بعض
أجزائها دون الآخر بغاية اكتشافه أكثر...لكن الصورة الشعرية ولأنها محمولة عبر
الكلمات لا نستطيع أن نتذوقها كلها دفعة واحدة ولا ينبغي لنا ذلك بل إن إحداها
تنتقل بنا إلى الأخرى عبر تسلسل يفترض أن يكون منطقياٌ مراعاة لعدم الانقطاع في
تصور المشهد الشعري في ذهن المتلقي . لذا فإن هذه الميزة تسمح أيضا ً للشاعر
بنقل حالته الشعرية بشكل مسترسل يساعده عل جذب القارئ تدريجياً لامتلاك وعيه لحظة
القراءة . فالذكاء عند الشاعر أن يراعي ذهنية المتلقي في طلبه متعة
التذوق مع الترابط ...وربما يفقد الشعر بعضاً من هذه الخاصية عند الشعراء المبتدئين
أو الذين لا يعيرون أهمية لإخراج القصيدة كعمل فني متكامل ...
ومطلوب من الشاعر أن يتمكن من إثارة دهشة المتلقي عبر كشفه عن الروابط
الغامضة أو إنشائه لهذه الروابط والعلاقات غير المتوقعة بين الأشياء التي يقوم
برسمها أو وصفها في الصورة الشعرية ...ومن هنا فقد ابتكرت القدرة
الشعرية عند الشعراء ما يسمى ظاهرة تراسل الحواس التي يوظف فيها الشعراء الأفعال
الحسية ويوزعزنها بين الحواس بشكل غير مألوف مخالف للطبيعة وهو ما يزيد من تألق
الصورة الشعرية ويعطيها أبعاداً جمالية عميقة التأثير في نفس كل من الشاعر الذي
أنشأها والمتلقي الذي يتذوقها ...ذلك أن منهج الخروج عن المألوف في الإثارة
يظل هو الأقوى في الحالة الشعرية . ولو انتبهنا إلى ما يتعرض إليه الشعراء من النقد
لوجدنا أن مشكلة تكرار الصور الشعرية واستهلاكها تبرز كخطر
يهدد شخصية الشاعر بالاضمحلال أو الذوبان في الشخصية الشعرية
لغيره من الشعراء إذ المطلوب دائما ً هو الإتيان بالجديد والمتفرد من قبل كل
شاعر وهذا لا يتحقق للشاعر إلا بمزيد من الصقل للحس الجمالي عند الشاعر ...لكن
عملية الصقل نفسها والتي تعتمد بالدرجة الأولى على تثقيف الشاعر نفسًه بالقراءات
الدؤوبة لأعمال غيره من الشعراء هذه العملية نفسها قد ترسم إطارا لأبعاد الحس
الجمالي عند شاعر ما عندما يقع تحت تأثير أحد الشعراء الأقوياء مما يجعله ودون
انتباه منه يعكس خصائص ذلك الشاعر القوي في حسه الجمالي ...فكي لا يحدث ذلك ربما
يجب أن ينوع الشاعر في طبيعة المعطيات الثقافية التي يصوغ بها وعيه الجمالي ..
بعبارة أخرى ...كلما عدد الشاعر ونوّع من طبيعة قراءاته ومصادر معينه الثقافي كان
أكثر فرادة في تشكيل حسه الجمالي ..فثقافة الشاعر هي ثقافة كونية كما أراها في
الحالة المثالية ...يجمع فيها بين فنون العلوم الطبيعية والفنية التشكيلية والأدبية
والدينية ...إلخ .