هكذا رحل نهــاد رضــا..
شاعرالحكمة الجديـــدةيتساقط الكبار ورقة إثر ورقة..
يمضون هكذا.. دون استئذان.. ودون حتى أن نشعر أنهم مضوا..
فجأة نجد مقاعدهم خاوية..
وعندما تتكرر الغيابات لا نتنازل ولو للحظة عن مقاعدنا لنقوم ونسأل:
لماذا مقاعدهم أصبحت خاوية..؟
وعندما نعرف أخيراً من خلال ورقة النعوة، نهب فجأة وكمن لدغ من شيء..
هل حقاً رحل هؤلاء..؟
نهاد رضا الضائع في شوارع باريس، صاحب الترجمات المهمة والأعمال الشعرية والقصصية العديدة، وصاحب الملحمة الضخمة باللغة الفرنسية، والحياة الحافلة بالعطاء، والحكمة والفلسفة والأدب... رحل نهاد رضا تاركاً لنا مكتبة كبيرة وتاريخاً حافلاً بالعطاء.
ولكن لمن..؟ إنه سؤال صعب في زمن أصعب..!
إنه أول شاعر خاض تجربة أعيت الشعراء الفرنسيين أنفسهم، وخرج لنا بملحمة شعرية وبلغة فرنسية أصيلة، وصياغة أدبية رفيعة، لقيت صدى عميقاً في أوساط المفكرين الفرنسيين، ومن هذه الأصداء عدة رسائل بعثها البروفيسور «جان جولمييه» الأستاذ الفخري في جامعة السوربون، والمستشرق «جاك بيرك» (الرسائل موجودة ومنشورة في بعض الصحف).
هذا الشاعر نهاد رضا نشط في ميادين أخرى، حيث صدرت له رواية بعنوان «منافسة في باريس» ومجموعة قصص، وعشرة دواوين شعرية باللغة العربية، وله أيضاً ترجمات عديدة نذكر منها «الإنسان المتمرد» لألبير كامو.. و«تيارات الفكر الفلسفي» لأندريه كريسون.
وهكذا نجد أن معظم أعمال الشاعر والمفكر نهاد رضا بألوانها المختلفة، تجمعها الروح الفكرية الفلسفية المنبثة في نسيج العمل الأدبي الذي بلغت صيغته الفنية الذروة في ملاحمته «العهد المعاصر» وهذه الملحمة ليست كالملاحم الشعرية الأخرى، فهي فريدة في بنائها الهيكلي، وفي مضامينها، وهي ليست لهذا العصر، بل هي معاصرة على الدوام، هي للحاضر، وهي للمستقبل، وهي لا تعنى بالجزئيات إنما تغوص في جوهر الأمور، بالارتباط مع الذات الإنسانية.
والملحمة مؤلفة من سبعة أجزاء:
في الجزء الأول: نحن مع الأنا غير الملتزمة، غير الراشدة، وأمام مشاهد الكوارث التي حلت بالإنسانية في تاريخها، والثوابت المحدقة بها في الحاضر، والهول الأكبر الذي يهدد مستقبلها، يتنبه وعي هذه الأنا الحائرة، ويولد التطلع الى مثل أعلى، الى مدينة فاضلة رمز إليها بأركاديا.
في الجزء الثاني: هناك تبدأ المسيرة، وتنقلب الأنا غير المهتدية على سلسلة من الحجب، التي تعترض بغشاوتها سبيل الهداية، وعلى المريد بعدئذ أن يتحلى بآداب المريد، وبعدئذ تنضم هذه الأنا الى حلقة المريدين في مسيرة صاعدة تناولتها الأجزاء الخمسة اللاحقة.
أما عناوين أجزاء هذه الملحمة السبعة فهي:
إشراقات درويش مولوي، بيان الأزمنة الإنسانية، صعود الفرسان الجدد، نداء المدينة المفتوحة، في ظلال الحكمة، حديقة الأنوار، ورحلات الفكر، وكانت قد صدرت في دمشق في الفترة «1993- 1996».
وكانت هناك مبادرة لترجمة هذا النص الملحمي الإسلامي من قبل الأديب المترجم كمال فوزي الشرابي الى العربية وبإشراف المؤلف.
نهاد رضا، هذا الإنسان الذي كان ممتلئاً بالحب والعطاء والمحبة، لقد رحل تاركاً لنا تاريخاً حافلاً وتراثاً ثراً.
رحل نهاد رضا دون بيت ودون امرأة تبكي رحيله، وأولاد يحملون نعشه الصغير، لم يكن في رحيله سوى بضعة أشخاص ينتظرون الرحيل مثله.
فأية مأساة هذه التي يحياها المواطن والمفكر والعالم في وطنه، وهل من جهة رسمية تتبنى أعماله، وهو الذي كرس حياته للفكر والأدب والفلسفة العربية الخالصة، وتجاوز وتنازل عن حياته الخاصة لأجل هدفه الأسمى والأعظم.. حتى صار جسده بحجم كمشة وقبضة أيام.
فوداعاً أيها الإنسان.. العظيم.. أيها المعذب، وأنت ابن هذا الوطن، وهذه الأمة.. وداعاً وأنت كنت أكبر من مساحة وجعك وكونك.. وداعاً نهاد رضا.. شاعر الحكمة الجديدة.
أحمد خيري