المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أسعد الأطرش
شهر رمضان شهر طيب مبارك , فيه يقبل المؤمن خالقه ومولاه بقلب مفعم بروح الإيمان والإخلاص من خلال ثلاث مؤشرات : 1-الطاعة لله تعالى وسرعة الامتثال بأداء فريضة الصوم التي فرضها عليه بقوله تعالى : ( ... فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ... ) . 2- قيام ليالي رمضان , وتلك هي صلاة التراويح التي سنّها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – للأمة . عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُرَغِّبُ فِى قِيَامِ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْمُرَهُمْ فِيهِ بِعَزِيمَةٍ , فَيَقُولُ : « مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ». فَتُوُفِّىَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَالأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ . 3- مضاعفة ثواب الأعمال الّي وعد الله به . عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كل عمل ابن آدم يضاعف : الحسنة عشر أمثالها : إلى سبعمائة ضعف قال الله عز وجل : إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به ؛ يدع طعامه وشهوته من أجلي ، للصائم فرحتان : فرحة عند فطره ، وفرحة عند لقاء ربه ولخلوف فيه أطيب عند الله من ريح المسك الصوم جنة . من خلال تلكم المؤشرات التي أتينا عليها يمكن القول أنّ ثمة نفحات من وحي رمضان الخير تطال المؤمنين ويتعرّضون لها فإذا بهم قد حازوا خيراً كثيراً , وهنا أذكر خمساً من تلك النفحات الطيبات , لأوقظ مشاعر الشوق والهمة في كيان كلّ مؤمن ومؤمنة : 1- نفحة الصبر : هذا الخلق العظيم من أخلاق النبيين والمرسلين ومن سار على هديهم القويم. والصوم هذا الفرض العظيم , بل هذا الركن العتيد من أركان الإسلام يمدّ المسلم جرّاء التزامه فريضة الصوم بطاقة من الصبر , تمكنه من مواجهة كلّ تحديات الحياة من حوله معتمداً على الله وحده , لآنه يصبر لله لا لأحد سواه . ( وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ . ) وهكذا يواجه المسلم بهذه الطاقة من حوله من الجهلة والسفهاء والحمقى , دون أن يغضب أو يثور في وجوههم, وكذلك يواجه بتلك الطاقة العدو في ميدان الجهاد دفاعاً عن الدّين والعرض والوطن والمال . وبهذه الطاقة ذاتها يثبت أمام كل ما يبتليه الله به من البلاء في نفسه أو عياله أو ماله . يواجه الخوف والهلع بصبر وثقة بالله الّذي يبسط عليه رداء حمايته وعنايته . وهكذا يستصحب نفحة الصبر في كل ما قد يتعرّض إليه . ليكون من أصحاب البشرى . ( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ .الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ . أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ. ) . بل ليفوز بخصلة الحب من خالقه ومولاه . (.... وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ . ) وتلك هي الغاية الكبرى من تلك النفحة الرمضانية . 2- نفحة الرحمة : عن سلمان الفارسي قال : خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آخر يوم من شعبان فقال : ( يا أيها الناس انه قد أظلكم شهر عظيم شهر مبارك فيه ليلة خير من ألف شهر فرض الله صيامه وجعل قيام ليله تطوعا فمن تطوع فيه بخصلة من الخير كان كمن أدى فريضة فما سواه ومن أدى فيه فريضة كان كمن أدى سبعين فريضة وهو شهر الصبر والصبر ثوابه الجنة وهو شهر المواساة وهو شهر يزاد رزق المؤمن فيه من فطر صائما كان له عتق رقبة ومغفرة لذنوبه قيل يا رسول الله ليس كلنا يجد ما يفطر الصائم قال يعطي الله هذا الثواب من فطر صائما على مذقة لبن أو تمرة أو شربة ماء ومن اشبع صائما كان له مغفرة لذنوبه وسقاه الله من حوضي شربة لا يظمأ حتى يدخل الجنة وكان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيئا وهو شهر أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار ومن خفف عن مملوكه فيه أعتقه الله من النار قلت ويأتي حديث في فضل الصوم في صوم التطوع . ) أجل إنها نفحة الرحمة التي تقذف في قلب المؤمن جرّاء امتثاله فريضة الصوم , حيث يحسّ بألم الجوع وحرقة الظمأ , فيذوي وجهه ويذبل بدنه , وتضعف قواه , هنا ينهض شعور الرحمة في كيانه تجاه إخوانه الآخرين من الفقراء والمساكين والأرامل واليتامى وذوي الحاجات والكروب فيهرع تحت رواق هذا الشعور الراقي ليكون عوناً لهم على حسب طاقته وقد علمنا الهادي – صلى الله عليه وسلم – طبق قاعدة الجزاء من جنس العمل أن من رحم يرحم . عن عمرو بن دينار عن أبي قابوس قال : سمعت عبد الله بن عمرو يرفعه : إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( الراحمون يرحمهم الله ارحموا أهل الأرض يرحمكم أهل السماء , الرحم شجنة من الرحمن فمن وصلها وصله ومن قطعها قطعه) نعم رحمة برحمة, ولكن ثمّة بون شاسع بين الرحمتين فرحمة الإنسان بالإنسان مهما اتسع إطارها فتحدّها الحدود ,بينما رحمة الله تتسع وتتسع حتى تشمل كلّ شيء . ( وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ.) المتقون, مؤدوا الزكاة , الّذين يؤمنون بآيات الله. هذه الأخيرة كما ترى تشمل ما يدخل تحت الحصر. فهنيئاً لمن نال نفحة الرحمة في رمضان . 3- نفحة المغفرة : يا لها من نفحة طيبة , من نالها فقد نال الخير من أطرافه كلّها ويا لخسارة من حرمها , فقد حرم الخير , وأي حظ يبقى لهذا ؟! عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، ( أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم صَعِدَ الْمِنْبَرَ ، فَقَالَ : آمِينَ ، آمِينَ ، آمِينَ ، فَقِيلَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنَّكَ حِينَ صَعِدْتَ الْمِنْبَرَ قُلْتَ : آمِينَ ، آمِينَ ، آمِينَ ؟ قَالَ : إِنَّ جِبْرِيلَ آتَانِي فَقَالَ : مَنْ أَدْرَكَ شَهْرَ رَمَضَانَ فَلَمْ يُغَفَرْ لَهُ فَدَخَلَ النَّارَ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ ، قُلْ آمِينَ فَقُلْتُ : آمِينَ ، وَمَنْ أَدْرَكَ أَبَوَيْهِ ، أَوْ أَحَدَهُمَا فَلَمْ يُبِرَّهُمَا فَمَاتَ فَدَخَلَ النَّارَ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ ، قُلْ : آمِينَ ، فَقُلْتُ : آمِينَ ، وَمَنْ ذُكِرْتَ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْكَ فَمَاتَ فَدَخَلَ النَّارَ فَأَبَعْدَهُ اللَّهُ , قُلْ : آمِينَ , قُلْتُ : آمِينَ . ) تأمّل , كم هي عظيمة تلك الخسارة , فأحرص أن تبذل قصارى جهدك في هذا الشهر المبارك , لعل نفحة المغفرة تجد إليك سبيلاً , فتكون من الفائزين ببركة هذا الشهر , والمغفرة إنما هي محق الذنوب ومحوها , وحرق سجلات المعاصي , ومن ثمّ استقامة على الطاعات والقربات , فتتبدّل السيئات حسنات بفضل الله غافر الذوب والخطيئات, إ( ( إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا . ) وإني موقن أن نفحة المغفرة هذه هي الجناح الأول من جناحي النجاة يوم القيامة . 4- نفحة العتق من النار : هذا هو الجناح الثاني من جناحي النجاة يوم القيامة , العتق من النار . هذه النفحة العظيمة هي العطية الكبرى التي من أعطيها فهو في بحبوحة من أمره, فلا بأس عليه إن شاء الله تعالى , فالعتق من النار هو الخلاص من لأوائها ونكالها ومشاهد العذاب التي يتعرّض لها أهلها . ومن تلك المشاهد : 1- فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ.تأمّل حالهم, إنه حال المكدود المنهوك من شدة الآلام . 2- هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ . يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ . وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ . كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ . 3- وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ . فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ . وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ . لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ . العتق من النار خلاص أكيد من كلّ هذه المشاهد المرّوعة التي يزخر بها القرآن العظيم , ليقصينا عن النار رحمة بنا وعطفاً علينا ورفقاً وحناناً . وخذ هذا الدعاء الشريف الغني , كرره كلّ صباح وكلّ مساء على امتداد ما بقي لك من العمر تعتق من النار بفضل الله العزيز الغفار , عَنْ سَلْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : ( مَنْ قَالَ : اللَّهُمَّ إِنِّي أُشْهِدُكَ ، وَأُشْهِدُ مَلائِكَتَكَ وَحَمَلَةَ عَرْشِكَ ، وَأُشْهِدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ أَنَّكَ أَنْتَ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ وَحْدَكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ ، مَنْ قَالَهَا مَرَّةً ، أَعْتَقَ ثُلُثَهُ مِنَ النَّارِ ، وَمَنْ قَالَهَا مَرَّتَيْنِ ، أَعْتَقَ ثُلُثَاهُ مِنَ النَّارِ ، وَمَنْ قَالَهَا ثَلاثًا ، أَعْتَقَ كُلَّهُ مِنَ النَّارِ . ) أخي أغار عليك , كما أغار على نفسي , لا تحرم نفسك من هذه النفحات , فلا أريد لك أن تكون في قافلة الخاسرين . 5- نفحة الهداية : هذه هي النفحة الثمينة حقاً , فمن أوتيها فقد نال كلّ نفحات الخير في رمضان وفي غير رمضان . وهذه النفحة إنما هي القرآن كله بما فيه من عقيدة ونظام ومنهج حياة , وأخلاق وآداب , وأمر ونواه , وحقائق عن الكون والإنسان والحياة . (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ........... ) ففي رمضان يكون المسلم أقرب ما يكون من القرآن أكثر من غيره, فهذه فرصة يجب أن تغتنم لتتمكن الهداية في كيانه أكثر , فيمضي في موكب نورها نحو الغاية الكبرى ألا وهي الله والجنة . تلك باقة من نفحات رمضان شهر الخير والفضيلة والسلام , المأمول أن تجد آذاناً صاغية وقلوبنا واعية لتأخذ مكانها في حياة المسلمين .