«الضفدع المغلي»... فخٌّ أميركي لمصر
يظن الكثيرون، داخل مصر وخارجها، أنها أفلتت من مخططات تقسيمية (أ ف ب)
خالد عبد الآخر
تظل نظرية «الضفدع المغلي» واحدة من أصدق النظريات سياسياً، وإن ثبت عدم دقتها علمياً. في عالم السياسة ما يكفي من أمثلة تُذكِر بحيلة وضع الضفدع، الذي لا يشعر بالتغير البطيء في درجة الحرارة، داخل إناء به ماء يتم تسخينه تدريجياً، فلا يقفز حتى يموت دون أن يدري أنه يموت.
هناك مقولة شهيرة منسوبة لجون آدمز، ثاني رئيس بتاريخ أميركا، «هناك طريقتان لقهر واستعباد الأمم: الأولى بالسيف، والأخرى بالديون». إن جادل البعض في صحة نسب المقولة لقائلها، فإن تجارب الواقع والتاريخ تُصعِب عليهم الجدال في صحة مضمونها. ولكن كيف يتم توريط الأمم ودفع الدول دفعاً إلى فخ الاستدانة؟ هنا يأتي دور أسلوب «الضفدع المغلي» كأحد أهم الوسائل. والمثال الأوضح ــ لا الأوحد ــ على هذه النظرية بمنطقة الشرق الأوسط، هو استراتيجية واشنطن تجاه مصر منذ بداية أحداث ما يسمى بـ«الربيع العربي».
الدول كالأفراد، تمتلك جهازاً مناعياً متعدد الوظائف. أما بالنسبة إلى الدول، فكأن جهازها المناعي خماسي الوظائف: «سياسي – اجتماعي – اقتصادي – عسكري – ثقافي». وأن تمتلك دولة ما مناعة عسكرية أو اقتصادية، لا يعني أنها بالضرورة تمتلك نفس المناعة الاجتماعية أو السياسية مثلا، أو العكس. ويختلف التكتيك الهجومي المطلوب باختلاف طبيعة الدولة ونقاط قوتها وضعفها. فالحديث هنا عن أسلوب «الضفدع المغلي» يعني إنهاك الدولة المستهدفة بشكل تصاعدي بطيء، من دون اللجوء إلى عنف مباشر قد يستفز غريزة المقاومة لدى هذه الدولة. حتى تصل تلك الدولة إلى مستوى عالٍ من الضعف والاحتياج تفقد معه مناعتها أمام التدخل الخارجي الانتهازي، تماماً كما يفقد جسد مريض الإيدز مناعته أمام ما يعرف طبياً بـ«العدوى الانتهازية». بالتالي تفقد إرادتها ومن ثم قرارها. فالهدف هنا ليس تدمير الدولة المستهدفة و إحراقها، بل السيطرة على قرارها السياسي وتوظيفها، بما تملك من طاقات، لصالح مشاريع الطرف الخارجي المسيطر.
لماذا اللجوء إلى أسلوب «الغلي» أحياناً؟
يظن الكثيرون، داخل وخارج مصر، أنها أفلتت من مخططات تقسيمية ما زال سيفها مصلتاً على دولٍ أخرى مثل سوريا والعراق واليمن وليبيا. بل إن التباهي بهذا «الإنجاز» تحول إلى ملاذٍ يلجأ له النظام الحاكم، كلما تطلب الأمر ضخ جرعة تفاؤل بالمجتمع المصري القلِق من الهزات الاقتصادية المتتالية. حيث تنتشر في مصر في العامين الأخيرين مقولة مزعجة لا تتسم بالدقة أو الحكمة مفادها أن: «الحمد لله أن حال مصر الآن ليست كحال سوريا والعراق». بينما في الواقع لا يمكن لمصر أصلاً أن تكون مثل سوريا أو العراق، والأمر هنا لا يتعلق بالأفضلية بل بالاختلاف. وهو نفس الاختلاف الذي يدركه صانع القرار الأميركي. فمن ينحي التحليلات المتسرعة التي تغفل التفاصيل والفروق جانباً، ويتأمل في الخريطتين الاجتماعية والجغرافية لبلد مثل مصر، سيدرك بسهولة استحالة تقسيم مصر التي تحظى بنسيج اجتماعي فريد الانسجام عرقياً وثقافياً. مصر بلد الأغلبيات الكاسحة: أغلبية مسلمة كاسحة بين السكان (92 – 94%)، أغلبية سنية كاسحة بين المسلمين (98 – 99%)، أغلبية أرثوذكسية كاسحة بين المسيحيين (88 – 90%). وبين هذه الأغلبيات يختفي التمايز القبلي، ويندر العرقي لينحصر بأقليات ضئيلة جداً لم تخطر يوماً ببال غالبيتها فكرة الانفصال. هذا فضلاً عن عوامل ديموغرافية تجعل من الكثافة السكانية العالية بغالبية مدن بلد الـ 92 مليوناً، مانعاً بشرياً أمام أي مغامرات داعشية (في ظل غياب الحاضنة الشعبية) واسعة النطاق شهدتها ساحات صراع. المواجهة العسكرية المباشرة بين الجيش المصري وعصابات الإرهاب تنحصر بمنطقة حدودية لا تزيد مساحتها عن 750 كلم مربع (50 كم طولاً و15 كم عرضاً)، في ظل تفوق واضح للجيش لا يسمح للإرهاب أو مموليه بتوسعة نطاق المعارك.
و إذا كانت الجغرافيا في مصر، لا تسمح بانعزال الأطراف عن المركز أو اتصال هذه الأطراف بالخارج بما يفوق اتصالها بالداخل، فإن التاريخ يظل حائط الصد الأقوى أمام أي مشاريع تقسيمية. فلما كان لا بد من وجود أساس تاريخي ما (حقيقي أو زائف) لأي مشروع تقسيمي بأي بلد، إلا أن أول وآخر تقسيم بتاريخ مصر كان منذ 53 قرناً وانتهى بتوحيد القطرين (!) هناك فارق كبير يغفله البعض بين الانقسام السياسي أو الاجتماعي، وبين التقسيم السياسي أو الاجتماعي. وأبداً لا يعرف مصر وخصائصها، كل من يتوهم أن يطالها تقسيم من أي نوع كان. لكن واشنطن تعرف مصر وتعي خصائصها، لذلك فإن مشاريعها تجاه مصر لا تشمل أي فدرلة أو تقسيم سياسي أو اجتماعي.
أما من يدرس الحالة المصرية ليحدد نقاط الضعف، فسيجد عسراً في التمييز بين كتلة سكانية وأخرى في الشعب المصري إلا على أساس الدخل والثروة. حيث حجم التفاوت الواضح وتزايد اتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء، في بلد تبلغ به نسبة الفقر 27.8% بالبيانات الرسمية، و40% بالبيانات غير الرسمية. أما الأهم فهو ما يكشفه «تقرير الثروة العالمي» الذي يصدره «كريدي سويس» سنوياً:
وفقاً لتقرير عام 2104 (استعرض بيانات 46 دولة)، حصة أغنى شريحة تمثل 1% من سكان مصر (البالغين فقط بالطبع) كانت 48.5% من مجموع الثروة الكلية عام 2014، و32.3% عام 2000. بينما حصة أغنى شريحة تمثل 10% من سكان مصر كانت 73.3% عام 2014، و61% عام 2000. مصر قد لا تنفرد بالخلل في توزيع الثروة واستئثار الشرائح الأغنى بالنسبة الأكبر من الثروة، لكن ما يميز الحالة المصرية هو التزايد المستمر في هذا الخلل، فضلاً عن «معدل» هذا التزايد الذي يضع مصر في المرتبة الثانية بعد الصين، وفقاً لتقرير عام 2015 (استعرض بيانات 58 دولة): من مجموع سكان مصر، وبالتصنيف الاجتماعي على أساس الثروة، شكلت الطبقة الوسطى نسبة 5% من مجموع السكان (وتمتلك 25.2% من مجموع الثروة)، علماً بأن التقرير حصر الطبقة الوسطى على أساس الثروة (عينية + مادية)، بحيث تشمل من تتراوح ثرواتهم بين 14.544 ألف دولار كحد أدنى و145.44 ألف دولار كحد أقصى. أما الأكثر ثراء فكانت نسبتهم 0.4% فقط. وبينما انخفض مجموع ثروات الطبقة الوسطى بين عامي 2000 و2015 بقيمة 7 مليار دولار، ارتفعت ثروات الطبقات الأكثر ثراء بقيمة 79 مليار دولار، أما متوسط حجم الثروة الكلية للفرد الواحد من المجموع الكلي للسكان (البالغين فقط) فقد تقلص بنسبة 3.4% بين عامي 2000 و2015، وبنسبة 10.9% بين عامي 2010 و2015 (هو الانخفاض الأسوأ بين دول العينة).
نقطة ضعف مصر تكمن في الاقتصاد والتفاوت الطبقي، وهي المدخل الأمثل لإنهاك مصر بدفعها إلى الاستدانة بالتوازي مع خلخلة تماسك المجتمع المصري طبقياً. هناك دول أكثر تقدماً وغنىً من مصر تعاني التفاوت نفسه في توزيع الثروة، إلا أن فقراء هذه الدول لا يعانون ما يعانيه فقراء مصر من تدني مستوى شبكة الأمان الاجتماعي والخدمات العامة. هذا كله لا يعني انخفاضاً حاداً في مستوى العدالة الاجتماعية فحسب، بل يعني أيضاً تهديداً محتملاً للسلم الاجتماعي إن استمر تزايد اتساع الفجوة في الثروة والدخل، بهذا المعدل الخطير.
أدوات ووسائل الغلي
لا يوجد رئيس مصري لم يلجأ للاقتراض. لكن ليس بين جميع رؤساء مصر من جرؤ على اتخاذ وتنفيذ القرارات الاقتصادية «الصادمة» التي اتخذها الرئيس عبد الفتاح السيسي مؤخراً، وبدأت الحكومة المصرية في تنفيذها تلبية لشروط (أو أوامر) صندوق النقد الدولي، من فرض ضريبة القيمة المضافة إلى تعويم الجنيه وتخفيض الدعم على الوقود والطاقة تمهيداً لرفعه، بالإضافة إلى إلزام مصر بسداد ما عليها من مستحقاتٍ متأخرة لشركات النفط والغاز الأجنبية. قرارات أخرى متوقعة لاحقاً مثل تقليص جهاز العاملين في الدولة وبيع حصص من شركات عامة وأصول حكومية لمستثمرين أجانب.
إلزام مصر بقرارات ستؤدي إلى تحطيم وسائل الإنتاج وانتزاع بقيتها من يد الدولة
لكن هل النظام المصري مطمئن حقاً لتبعات قراراته الأخيرة؟
المفارقة أن السيسي الذي أبدى إعجابه بالرئيس الراحل أنور السادات، واصفاً أفكاره بأنها كانت تأتي من خارج الصندوق (صندوق الأفكار التقليدية)، يعلم جيداً أن أفكار السادات بالذات كانت آتية من داخل الصندوق (صندوق النقد الدولي). فالسادات كان أول رئيس مصري يحاول تنفيذ شروط الصندوق بالكامل عام 1977، وفشلت محاولته بعدما أدت إلى اندلاع «انتفاضة يناير» الشعبية التي لم تخمد إلا بتدخل الجيش، الذي اشترط قائده (المشير الجمسي) وقتها على السادات أن يتراجع عن قرارته، التي تسببت في موجة غلاء فاحش بأسعار السلع الأساسية. ومن اللافت ما يبديه النظام المصري والإعلام الموالي من احتفاء وحماس غير مفهومين عندما يتعلق الأمر بمجرد «قرض»، بالتوازي مع محاولات يائسة لإضفاء طابع وطني إصلاحي على تلك القرارات وكأنها فخر صناعة عقل صانع القرار المصري، عبر وصفها بـ «البرنامج المصري الخالص» ونفي شروط الصندوق بنص بيان سابق لوزارة المالية فضلاً عن تصريحات رئيس البنك المركزي. كل هذه المبالغات تجاه هكذا قرارات، لا توحي في الواقع باطمئنان صاحبها، بل بقلقه وإدراكه (بمعزل عن طبيعة قناعاته الأيديولوجية) لمدى خطورة تبعاتها. لكنه، برغم قلقه، سيغامر ويسير في هذا الاتجاه بعد أن بدد خلال عامين فقط جزءاً كبيراً من رصيد تأييده الشعبي، بدلاً من استثماره في تحرير مصر من قيد أميركي اعتباري، ظل يعيقها منذ عقود عن مجرد التفكير في أي بدائل منطقية. فمن جَبُنَ عن خوض المغامرة بالخارج من البداية، ليس أمامه إلا أن يخوض المغامرة في الداخل حتى النهاية.
ليس من الممكن فهم قصة فيلم بشكل كامل من خلال لقطة واحدة، وقطعة واحدة من «لعبة بازل» لا تكفي لفهم كامل الصورة. من يريد فهم استراتيجية واشنطن تجاه مصر عليه أن يراجع مجمل مواقفها السابقة (ومواقف أدواتها من مؤسسات ودول) منذ تنحي مبارك وحتى الآن، بترتيبها الزمني:
في فترة حكم المجلس العسكري، رفض المجلس برئاسة المشير حسين طنطاوي قرضاً من صندوق النقد الدولي بقيمة 3.2 مليار دولار، برغم موافقة الصندوق الذي أكد وقتها استعداده لدعم مصر وتونس بمبلغ 20 مليار دولار (قسمها الأكبر لمصر برغم عدم وجود برلمان مصري بهذه الفترة) بشروط أقل تشدداً من شروطه الحالية. تخوف طنطاوي حال دون إتمام القرض، بشهادة سمير رضوان وزير المالية الأسبق في حكومة عصام شرف التي فاوضت الصندوق. وخلال هذه الفترة بدأت تتشكل ملامح عصابات الإرهاب بصيغته الحالية في سيناء.
في فترة رئاسة مرسي، وافق الصندوق على طلب مصر بالحصول على قرض بقيمة 4.8 مليار دولار، بشروط لا تختلف كثيراً عن شروط القرض الحالي. لكن القرض لم يرَ النور إثر عزل مرسي بـ«ثورة 30 يونيو» عام 2013 قبل شهور قليلة من تسليم القرض في تشرين الثاني/ نوفمبر. واقترضت مصر من قطر وليبيا وتركيا. وخلال هذه الفترة وقع أول هجوم إرهابي ضخم على الجيش المصري في سيناء.
في فترة رئاسة عدلي منصور ثم السيسي: اقترضت مصر، من السعودية والإمارات وبقية دول الخليج ما عدا قطر، ما وصف بأنه «أكبر تدفق نقدي بتاريخ مصر»، فضلاً عن دعم مواد بترولية وعقود سداد أجل بقيمة 50 مليار جنيه (مع ملاحظة أن أرامكو جمدت العقود قبل قرض الصندوق مباشرة). و لم تكتف مصر فوق ذلك بقرض الصندوق، بل فاوضت جهات متعددة حول المزيد من القروض: البنك الدولي، البنك الأفريقي للتنمية، ألمانيا، الصين، أندونيسيا، قروض صغيرة من دول اليابان وكوريا الجنوبية والدول الاسكندنافية، طرح سندات للبيع في بورصات أجنبية. بمجموع قروض قد يصل إلى 40 مليار دولار (بحال حصول مصر عليها مجتمعة) لتتحول إلى ديون خارجية محتملة، فضلاً عن 53 مليار دولار على الأقل ديون خارجية قائمة. وخلال هذه الفترة تكثفت عمليات الإرهاب وترسخ وجوده كأمر واقع في سيناء.
كان بإمكان واشنطن منع حلفائها وأدواتها من إقراض مصر. لكن عندما ينشر صندوق النقد الدولي فيلماً ترويجياً عن الاقتصاد المصري بعنوان «مصر... فرصة للتغيير»، ويصرح مسؤول في وزارة الخزانة الأميركية ــ لـ«رويترز» ــ أن واشنطن تدعم القرض وتراه مهماً وضرورياً لمصر، على تواصل مع إدارة الصندوق التي تسعى لضمان تمويل القرض بالكامل من مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى، فإن هذا يعني أن واشنطن هي أكبر المشجعين، بل والمحرضين، على سياسة الاقتراض التي تورطت بها مصر. هذا التشجيع يظل قائماً بمعزل تام عن تغير رؤساء وحكومات مصر، أو أي تذبذب طفيف قد يطرأ على العلاقة بين واشنطن والقاهرة من وقت إلى آخر.
ليس السؤال هل ستنجح مصر في علاج اقتصادها وسداد ديون القروض في السنوات المقبلة، أم لا. بل السؤال هو: هل يريد الصندوق لمصر أن تنجح في سداد ديون القروض؟
لفهم حجم الخطر الذي يهدد مصر، يكفي أن نعلم أن ديون البرتغال واليونان وأوكرانيا (أول ثلاث دول في قائمة أكبر دين للصندوق)، هي بالترتيب: 21.7 و16.6 و11.3 مليار دولار. أي أن مصر بقرض 12 مليار بواقع 4 مليار لمدة 3 سنوات، ستتخذ موقعها المتقدم في قائمة الدول المدينة للصندوق. من بين أكثر من 70 دولة مدينة للصندوق، لم تنجح إلا 11 دولة فقط منذ عام 2000 في سداد كامل ديونها، هي كوريا الجنوبية، البرازيل، روسيا، الأرجنتين، الأوروغواي، تركيا، لاتفيا، المجر، مقدونيا، رومانيا، آيسلندا. وبين هذه الدول دول صناعية كبرى، وأخرى تنتمي للناتو أو تحت مظلته فلن يسمح بانهيارها، فضلاً عن المجر التي «طردت» الصندوق حرفياً عبر مطالبته رسمياً بالرحيل حماية لاستقلالها الاقتصادي، وأعادت ما تلقته من قرض لم تكن تحتاج إليه أصلاً. فما موقع مصر، في ظل ظروفها الحالية، في معادلات قوة الاقتصاد واستقلالية القرار قياساً بهذه الدول؟
يعلم صندوق النقد الدولي (بما يعبر عنه من إرادات قوى تدور غالبيتها العظمى في الفلك الأميركي) أن ما وصف بأنه «أكبر تدفق نقدي بتاريخ مصر» عبر القروض الخليجية، لم ينقذ الاقتصاد المصري من الانحدار السريع. وأن مصر لا تمتلك رؤية ــ فضلاً عن خطة ــ تضمن علاج عجز الميزان التجاري عبر رفع حجم الصادرات أو التوسع في الصناعة وإعادة فتح المصانع المغلقة لتقليل الواردات، أو تعظيم دخل القطاعات الخدمية من العملة الأجنبية. كما يعلم الصندوق أن مصر ستصرف أموال القروض على علاج عجز الموازنة ومنع انهيار الجنيه، لا على مشروعات تنموية إنتاجية، ثم تضطر للاستدانة مجدداً لتسديد أقساط ديون القروض القديمة بقروض جديدة. وأن مصر على وشك السقوط بدوامة الاقتراض المستمر التي سقطت بها دول عدة بإشراف الصندوق نفسه وخططه نفسها. كما يعلم الصندوق أن مصر فرضت ضريبة القيمة المضافة التي تقع على عاتق المستهلك بالضرورة بحكم كونها ضريبة غير مباشرة، مددت في المقابل تجميد ضريبة الأرباح الرأسمالية بالبورصة لثلاث سنوات إضافية، وأزاحت هذه الضريبة عن عاتق الأغنياء كبار المستثمرين والمضاربين. وهذا يعني أن المستثمر الأجنبي سيفضل البورصة على المشاريع الإنتاجية (التي تحتاج إليها مصر مستقبلاً لسداد ديونها) ليجني أكبر الأرباح على حساب صغار المضاربين، ثم ينسحب خارج السوق المصرية باستثماره وأرباحه. وأن ما يروجه النظام المصري حول ضرورة إعادة توزيع الدعم بشكل عادل ليصل إلى مستحقيه، غير قابل للتطبيق عملياً في ظل غياب قواعد بيانات دقيقة لدى الحكومة، فضلاً عن عدم وجود ما يشير إلى إمكانية علاج مساوئ البيروقراطية المصرية قريباً.
يعلم الصندوق أن مصر تسير نحو مكمن الخطر، ويحثها على مواصلة السير بنفس الاتجاه و بسرعة أكبر.
الخلاصة أن الأميركي يطبق نظرية «الضفدع المغلي» على مصر (بنفسه وعبر وسطائه) باستخدام 3 وسائل إنهاك بالتزامن، مع عدم الإخلال بشرط «التصاعد البطيء» لهذا الإنهاك:
إغراق مصر في دوامة القروض، وإلزامها بقرارات تؤدي في النهاية إلى تحطيم وسائل الإنتاج وانتزاع بقيتها من يد الدولة، وتقليص حجم الطبقة الوسطى.
إبقاء جذوة عصابات الإرهاب الوهابي مشتعلة في سيناء. أو على الأقل عدم تسهيل إخمادها بدعم معلوماتي استخباري أو تجفيف شبكات التمويل، لتظل مصر في احتياج دائم إلى صفقات سلاح «مقننة» كماً و كيفاً. وهي صفقات لا تكون في النهاية من نصيب روسيا (على الأقل الأساسية والضخمة منها) كما أثبتت التجربة عملياً بالعامين الأخيرين بعكس ما يشاع إعلامياً، بل تكون من نصيب دول تنتمي إلى الناتو، وبتمويل من دول خليجية متحالفة مع الناتو.
تشجيع اندفاع القرار المصري باتجاه سياساتٍ من شأنها تجذير الخلل في توزيع الثروة، مع نسف ما تبقى من مكاسب اجتماعية/ اقتصادية قديمة للطبقات الأشد فقراً. لتتحول هذه الخريطة الاجتماعية المشوهة إلى «قنبلة اجتماعية غامضة»، ليس من المعلوم كيفية أو توقيت انفجارها.
الفخ الأمريكي ليس مخصصاً لمصر وحدها. ربما يجب على تونس بالذات أن تنتبه وتتأمل كل ما يحدث في مصر بتركيز. فالحالة التونسية هي الأقرب شبهاً للمصرية عند الحديث عن إمكانية تطبيق نظرية «الضفدع المغلي» بالمنطق نفسه والهدف نفسه. وتونس على الأرجح هي الهدف التالي في القائمة بعد مصر مباشرة. لكن لكل حادث حديث، والحديث الآن حول: هل سيقفز الضفدع من الماء الساخن قبل فوات الأوان؟ وإن قرر أن يفعل، فهل تبَقى بقدميه ما يكفي من قوة لازمة لوثبة كهذه؟