سورية يا حبيبتي..
قصة قصيرة
بقلم( محمد فتحي المقداد)*
جلس في مكتبه وأمامه كومة من المعاملات التي لا تنتهي كالسيل الجارف, والتي كلها مشاكل الناس وهي تأخذ معظم حيّز غرفة المكتب ويكاد لا يبين من خلفها وهو يجلس خلف طاولته, وللمراجع الذي يدخل على مكتبه أن يتوقع أنه غير موجود, وتكون المفاجأة بأن الأضابير والمعاملات تعتلي لتشكل حاجزاً يضيع هو بدوامتها.
وبعد أن خفّتْ حركة المراجعين, وقد أخذ منه الجهد والتعب أخرج سيجارته وراح يثعب عليها, بعد أن دق الجرس على المستخدم ليجلب له فنجان القهوة, استند إلى الخلف ورفع رأسه إلى صدر المكتب, وراح يتأمل خارطة سورية التي تتربع على الجدار بأكمله, ورغم أنها أمام ناظريه ولكنه قليلاً ما يتأملها أو تلفت انتباهه, لأنه أدمن أشياء المكتب ولا يكترث بها, حيث أن ألفة الأشياء تذهب رونقها وتراكم الأعمال اليومية وكثرة المراجعين, حتى أنه كثيراً ما ينسى سيجارته بين أصابعه ودخانها يسني عليه فما إن تصل نارها إلى إصبعه و يشعر بالألم فيرجعها للمنفضة .
راحت أفكاره تسرح في رحاب طفولته وأولاد حارته وشقاوتهم وضجيج ألعابهم, والمدرسة التي ضمتهم جميعاً على اعتبار أنها في حارتهم و قريبة من منازلهم جميعاً وبذلك يشكلون تجمعاً, حيث يختلقون المشاكل مع زملائهم القادمين من الحارات البعيدة عن المدرسة قليلاً, وكثيراً ما تنهي تلك التحرشات بالمشاجرات والتي كثيراً ما كانت تمتد للمعارك والاشتباك بالأيدي ومن ثم التراشق بالحجارة عندما يبتعد الفريقان على قدر مسافة بينهم.
وأما تلك الأناشيد التي حفظوها أيام الطلائع و ما زال صداها يتردد على مسامعه بين فينة وأخرى, و تسمّرت نظراته بتلك الخريطة التي تعلّم رسمها بإتقان على يدي أستاذ الجغرافيا المتميز, الذي غرس الكثير من القيم الجغرافية في قلوب و أرواح الطلاب الذين تشربوا حب تلك الأرض والتراب, والذين لو افتدوه بالغالي و النفيس فليس بالكثير على ذلك الوطن.
وجال في نظره من أسفل الخارطة وحدد مكان قريته, ويكون بذلك حدد موقع جلوسه على الخارطة, و تحوّل إلى الأعلى شمالاً حتى بلغ خط الحدود, ومن ثم اتجه للغرب حتى شاهد زرقة مياه البحر المتوسط, ومن بعد ذلك اتجه للشرق والجزيرة السورية بخيراتها وفراتها و دجلتها, وسدّ فراتها العظيم.
ولم يتمالك نفسه أمام الإحساس المفاجئ الذي انتابه في تلك اللحظة, حتى شعر أنه قد انهار أمام سيل الدموع المتدفقة, التي وجدت طريقها دون أن يكون له أي القدرة على إيقافها وهو يرى أن الخارطة قد بكت من كل جنباتها بعد أن اصطبغت بالدماء السورية ويخيم عليها صوت الأنين والجراح, والدموع التي رفدت أنهارها. وانطلقت حنجرته تشدو بتلك الأنشودة الطلائعية التي تجعل جسده يهتز بعنف ويرقص قلبه فرحاً وتطرب روحه, فيرفع رأسه بشموخ وهو يردد الكلمات بمعانيها الكبيرة والجميلة:
سوريا يا حبيبتي.. أعدت لي كرامتي
أعدت لي حريتي.. بالعدل والكفاح
وشعلة الجراح..
تبددت الأحلام وغامت الرؤية بعد انسداد الأفق في جميع الاتجاهات, إلا اتجاه السماء التي تقبل الأدعية من الأكف المرفوعة والأصوات المبحوحة, وهذا هو المتاح فقط بالمجان دون رقيب و حسيب اتصال مباشر بالله, الجميع يأمل بانتهاء المحنة, وتوقف سيل الدماء السورية على الأرض السورية, الكل يقتل الكل, والكل يدعي حب سورية.
لكن سورية قطعت عليه نوبة تحليقه الحزين وهو يغني أنشودته الطلائعية,قائلة:" يجب عليكم أن تحبوا بعضكم بعضاً, ومن ثمّ تعالوا و أحبّوني".
أنا لكم .. وأنتم لي..
أنا منكم .. و أنتم مني..
أنا منكم وإليكم..
وأنتم مني وإليّ..
قام من وراء مكتبه, وراح يمسح ربوع الخارطة بيمناه, ويجفف دموعه بالأخرى و انخرط في تقبيل كل أجزائها, علّهُ يحصل منها على قُبلة تكون قادرة على فتح أفقه المسدود من جديد.
------------------------ انتهى
بصرى الشام
11\ 8 \ 2012م