العقل الأدي العربي
سـامـي بالـحـاج عـلـي
مــدخــل :
نحن العرب متهمون في عقولنا .يقول أحد مرتادي نقد العقل العربي : "إن نقد الفكر العربي، قد أحالنا إلى وضع العقل في قفص الاتهام " (1). فهل ترى وصلت صدمة الحداثة إلى الحدّ الذي شكّك في العقول ؟ وهل أن الأمر موجة أخرى من موجات جلد الذّات و تجريح النّقس. ألم نرفض الدعاوي الغربيّة و نعتناها بالعنصريّة و مركزيّة الذّات المتضخّمة حين ألحقت بنا نعوتا قريبة مما ننعت به أنفسنا اليوم . ألم نردد بان العقل هو "الاعدل توزيعا بين الناس". فما بالنا نذود طعنة الآخر عنا لنطعن أنفسنا بأنفسنا بأساليب أكثر إقناعا و أشدّ خطورة. كيف لا و إعلام الحداثة مع أقلام أصحاب المشاريع الثقافيّة الرّائدة منخرطون في هذه الموجة الطاغية. و لا يجب أن نغفل عن اقبال الجمهور عليها و الافتنان بها و كأنّهم مازوشيون يلذ لهم تعذيب الذات في الصّميم. ألا يحق للملاحظ أن يفسّر المسألة بحملة تشكيك في امكانيات الإنسان العربي و قدرات العقل لديه خاصة أنها السلاح الذي انبنت عليه كل الدعوات الثورية و الإصلاحية سبيلا للخروج من التخلّف الحضاري الذي نعيش.
و انطلاق هذه الحملة مع أواخر السبعينات لتتواصل مستعرة إلى يومنا هذا يدفع إلى اعتبارها الموجة القصوى من تموجات الهزيمة. فجيل الهزيمة تشكك في كل شيء و نعت نفسه و أمّته بأسوأ النعوت. تنذر على نفسه و أساء لماضيه و حاضره و لم يبق إلاّ العقل. و ها قد آن أوانه ليتلقى نصيبه من التشكيك و التّجريح. العقل العربي في هذه الدراسات "وعي شقي", عقل مجترّ فاشل, زمانه ميت راكد ", "آلياته عتيقة عقيمة, لغته جوفاء رنانة" ,حاضره تأصّل في الوهم و الهوى و التمنّي " (2). تتكدّس جل النعوت السلبيّة على هذا العقل دون أن ينسى صاحب كل قلم أن يعد بالسؤال عن الأسباب عبر مراجعة الآليات و الأدوات العقليّة لان القصور في بنية العقل يكمن ويمتد إلى الخطاب. يتجلّى في المعلن و يندسّ مع المسكوت عنه. و تقف الأوضاع و التحوّلات التاريخيّة شاهدا عليه.
هذا وجه من المسألة . أما الوجه الثاني فهو أننا حقّا نعيش وضعا حضاريّا مأزوما: التّخلف و الانحطاط و التدهور حقائق لا تنكر. انتقلنا من صنع الحضارة إلى الهامش المستهلك المغزوّ في عقر داره. منذ أكثر من قرن و نحن نحاول النّهوض دون أن نتقدّم خطوة. كتاباتنا تستعيد المسائل الحيوّية دون أي صدى علمي أو واقعي. و من هنا يكون مشروعا أن تكون المراجعة شاملة عميقة متسلّحة بالعلم و العقل لتتخطّى عوائق الأوهام و المركبات النفسيّة. و يغدو من الضروري كواجب علمي وطني أن ينقد العقل لأن: "نقد العقل جزء أساسي و أولي من كل مشروع للتقدّم" ... و لأنه " لابدّ من الوعي بأن سلاح النقد يجب أن يسبقه و يرافقه نقد السلاح " (3). و هل من سلاح فاعل في تاريخ البشريّة أمضى من سلاح العقل.
1 / عن العقل و العقلانيّة و العقل الأدبي :
قد لا نختلف كثيرا في تعريف العقل فهو " أداة المعرفة و طاقة التجريد و مركز التفكير و الأحكام المشكّلة للتفوّق النوعي للإنسان" (4). لكنّنا مع العقلانيّة و اللاّعقلانيّة في جدل و غموض. لنتّفق أوّلا على أن أيّ" موقف ضدّ العقل لا يمكن أن يخرج عن دائرة العقل لأنه يعبّر عن نفسه دائما بوسائل عقلانيّة" (5). و لنتّفق ثانيا أن العقل يختلف عن الفكر باعتبار أن الأول "أداة" بينما الثاني مجرّد "مضمون" يحتوي الآراء و المذاهب و المعتقدات فيما يلخّص برؤية الإنسان لذاته و محيطه و كونه. أمّا العقل فلا يتعدّى المفاهيم و الآليات المعتمدة كأداة للتفكير (6).
مثل هذه التعريفات ضروريّة لأنّنا في الخطاب العربي المعاصر نشتكي دقّة المصطلح و المفاهيم.. فالعقلانيّة مثلا لا تتناول في الخطاب الفلسفي بنفس الدلالات التي نجدها في عقلانيّة الكتابات الحضاريّة.. في الأولى حديث عن الفطري و المكتسب، و مقابلة بين نظام العقل و نظام الكون, و مقارنة بين العقل في العلوم الإنسانية و العقل في العلوم الصّحيحة، و مناقضة بين العقل و العقائد الغبيّة. بينما العقلانية الحضاريّة تلغي سمات كثيرة لتركّز على العقل كأداة لاكتساب و إنتاج المعرفة ينبغي إعمالها و اعتمادها في وجوه الحياة لتحارب الجهل و الوهم و الخرافة و الأسطورة والتفكير الغيبي. لكنّها تقع في تناقضات كثيرة قد ترجع إلى بنية العقل ذاته.
و الأكيد أن ملاحظة ماكس فيبير max weber عن تواكب الرّأسماليّة و العقلانيّة منطبقة على واقع الحال. فمفهوم العقلانية لديه لازم لتحليل المجتمعات الرّأسماليّة لأن الأخذ بالعقلانيّة يصل إلى ذروته في هذه المجتمعات عبر السّيطرة على كلّ شيء بالحساب و التّكميم و عبر وضع أسلوب حياة منتظم يتحكّم في شتّى مجالات النّشاط الإنساني حتى حياته اليومّية (7). هذا ما يقودنا إلى أن العقلانيّة في الغرب واقع معيش. لكنّها عندنا مطلب نطمح إليه. و خطابنا حولها يعيش ما نعيش من توتّر و أزمة بسبب التمزّق بين ضغط الواقع و سلطة الموروث و سطوة المنتج الغربي المتفوّق. و إذا كان لا بدّ من أن ننقد خطابات للوقوف على هناته و تناقضاته , فإنّه من الأوكد أن ننقد الآليات التي بها ننتج هذا الخطاب سياسيّا كان أم حضاريّا، أدبيّا أم فلسفيّا.
يفرّق الفلاسفة بين العقل العلمي الفلسفي و العقل الفنّي. ولا يختلف أصحاب الكتابات الحضاريّة على تصنيف العقل حسب القوميات و الحضارات. فيتحدّثون عن عقل عربيّ و "عقل غربي". لذلك يحاول هذا البحث أن يحصر اهتمامه في "العقل الأدبي" و أن بدا المصطلح غريبا نوعا ما. يدافع أصحاب الموسوعة الفلسفيّة العربيّة عن العقل الفنّي بقولهم : " لو كانت منطقة الفنّ لا معقولة تماما لاستحال وجودها" (8). وهم يقسّمون تجلّيات العقل الفنّي إلى قسمين : العقل الفنّي التّعبيري (أي الأدب) و العقل الفنّي التّشكيلي (وهو ما اعتمد وسيلة أخرى غير اللّغة). أمّا فعاليات العقل الفنّي – عندهم- فتشمل الحقول الثّلاثة : الإبداع و الدّراسة و التذوّق. و ينسحب على العقل ما ذكر عن العقلانيّة أيضا فهو "يؤكّد المعقوليّة الكامنة فيه و لا يلغيها حتّى بــرفضها" (9). و العقل الفنّي التّعبيري هو العقل الذي يعتمد اللّغة وسيلة للتّشكيل الجمالي الفنّي. هو يخرج اللّغة من الوظيفة التّواصليّة إلى وظائف أخرى انفعاليّة و تأثيريّة و جماليّة .. فالعقل الفنّي التعبيريّ هو " العقل الأدبي ".
لا شكّ أن الأدب نشاط معرفيّ. و الإنتاج الأدبي شعرا و نثرا، إبداعا و نقدا و تنظيرا و تلقّيّا، عمليّة معرفيّة و صنيعه عقليّة. العقل هو منتجه .و العقل هو متقبّله . و العقل كذلك حاضر بدرجة مّا في تشكّله و مضمونه. و العقل الأدبي عندئذ هو الآليات و المبادئ المعتمدة في إنتاج الفكر الأدبي والفن الإبداعي الأدبي و التّلقي الذّوقي أو النّقدي. العقل الادبي هو البنية المنتجة للأدب لأن لكل عقل بنية. و خصوصية المجال – وهو هنا المجال الفنّي الأدبي – تؤثر بموروثها و حاضرها و قضاياها في خصوصيّة العقل ليجوز أن نتحدّث عن عقل أدبي ذي بنية محدّدة أو قابلة للتحديد كمنظومة متماسكة من العلاقات بين مكوّنات محدّدة تنتظم في ثباتها بقوانين معيّنة. و بنية العقل الأدبي العربي هي ما يحاول هذا البحث أن يلفت الأنظار إليه دون أن يقصد عملا أدبيّا محدّدا أو جنسيا أدبيّا مخصوصا و لازمنا تاريخيّا واحدا...لأن بنية العقل فوق الأعمال الفرديّة و الأجناس الأدبيّة. لكنه يختار أن يعني بالإبداع الأدبي دون النقد أو التّنظير أو التاريخ داعيا إلى مشاريع نقديّة متكاملة تمسح كلّ هذه الجوانب مثلما نجد في المشاريع النقديّة ذات الرؤية الشموليّة الكليّة . و ليس صعبا على الملاحظ أن يتفطّن إلى أن أصحابها اهتمّوا بالنّص الدّيني و النص الفلسفي و النص الحضاري و أهملوا النصّ الأدبي إهمالا تامّا.
و محمد عابد الجابري الذي قارب العقل البياني أهمل الجانب الإبداعي ليعنى بالنّقد و البلاغة و النّحو، تاركا استنتاجات هامّة حول بنية العقل العربي و تكوينه يمكن أن يكون لها انعكاساتها على أي نقد مزمع للعقل الأدبي الإبداعي. و يقيني أنّ كلّ ناقد أدبي تصدّى لعلم من أعلام أدبنا أو لعمل أدبي نشأ بين ظهرانينا، يقيني أنّه يمتلك تصورا – بالقوّة أو بالفعل – عن بنية العقل الإبداعي الأدبي. و الأكيد أيضا أن أيّ مبدع لابد أن يحقق في إنتاجه معالم و مقاسم من هذا العقل، لأنّ العلاقة بين العقل الأدبي و الإبداع الفردي هي كعلاقة بين اللّسان و الكلام بالمعطى السّوسيري للمصطلحين. لذلك نكاد نجزم أن مبحثنا مطروق منذ القدم. لكنّه لم يبرز في شكل كلّي منتظم. و قد ابتدأ بعضهم مشروع الجمع و التّنظيم و التّجلية. لكنّ الجهود ما تزال في بدايتها. و هم أنفسهم يؤكّدون أن العمل ينبغي أن يستمرّ. لا شكّ أنّ أدونيس و شكري محمد عيّاد و مصطفى ناصف و المسدّي و اليوسفي و جابر عصفور و كمال أبو ديب و غيرهم كثير أسماء دالّة في هذا المجال. بل لعلّ أول من تصدّى لما نبحث هو الشاعر الجاهلي الذي كان يقضي سنة كاملة ينقّح حوليته، لأنّ "إعادة النّظر في الشّعر إنّما هي عمليّة عقليّة " (10) تستلزم مقياسا يستند إلى بنية عقليّة تغذّيه. و هي "بنية عقليّة تراثيّة يجب أن تتموضع داخل بنية كلّية للحياة العربيّة" (11). و ما إحياء التراث إلاّ أن " يصير التّراث عنصرا في بنية الوعي أو الكيان العربي" (12).
و يدعونا لطفي اليوسفي للبحث عن القيم الجماليّة الإبداعيّة العربيّة لأنّه يفسّر بغيابها عجز الثقافة العربيّة عن الإسهام في صناعة الرّاهن الثّقافي الكوني. " فهذه القيم ما تزال محجّبة في صميم النّتاج الإبداعي القديم و لا سبيل إلى تمثّل تلك القيم حجما و مدى إلا بالوقوف على ما انبنى عليه تاريخ الإبداع العربي من تصدّعات و انقطاعات " (13). إن اليوسفي يطالبنا بالتّحوّلات البنيويّة الحاسمة في الإبداع الأدبي العربي عبر تاريخنا الطّويل حتّى تصبح ثقافتنا ثقافة عالميّة منتجة.
1 ) محمد عابد الجابري : مقال "أزمة الإبداع في الفكر العربي المعاصر " مجلة "فصول" المجلد (4) العدد (3) سنة 1984 ص 110.
2 ) الجابري " الخطاب العربي المعاصر " الطبعة الأولى، دار الطّليعة بيروت 1982 ص 190.
3 ) المرجع نفسه ص 7.
4 ) الجابري : فصول 4 / 3 1984. ص 108
5 ) " الموسوعة الفلسفيّة العربيّة " طبعة أولى معهد الإنماء العربي بيروت 1986 ص 596.
6 ) الجابري فصول 4 / 3 1984 ص 108.
7 ) مقال " المؤسّسة الأدبيّة و التّحديث " بيتر بيرجر ترجمة محمد عناني مجلة فصول 5/3/1985 ص 72
8 ) 9 ) الموسوعة الفلسفيّة ص 596.
10 ) د. محمد الحافظ الروسي. مقال "جودة الشعر" عالم الفكر. مجلد 22 العدد 3/ 4 سنة 1994 ص 269.
11 ) الجابري. فصول 4/3/84 ص 214.
12 ) كمال أبو ديب فصول 4/3/84 ص 214
13 ) لطفي اليوسفي مقال "أسئلة الشّعراء و نداء الهوامش" فصول مجلّد 16 العدد الأوّل صيف 97 ص