منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 10 من 14
  1. #1

    لعبة الكتابة وبلاغة التلقي

    مقدمة


    تبدأ اللعبة حين يحكِّم الكاتبُ حالتَه الإبداعية في عملية تحديد المقادير الخاصة واللازمة للتعبير بنجاح. ومن المشهود به أن -في كل مجال من مجالات الكتابة أو مجالات الفن عامة- أدوات، وهذه الأدوات تحكمها مجموعة من القواعد عند استخدامها. وحين يتبع الكاتب قواعد استخدام الأدوات فإنه ينشئ نصًا مفهومًا يتواصل مع المتلقي بحكم ما تم الإجماع عليه من عمومية القاعدة وانتشارها وألفة طاعتها بين المبدع والمتلقي.
    لكن لعبة المعنى في حالة النص الإبداعي -أو النص الراقي- لا تعتمد قوانين الجمهور البسيط وحسب. إنها تتخذ أدواتها من المشهور المألوف المعياري حين ترى أن في ذلك مصلحة التعبير فتنصب اسم "إن" بها إذا أرادت تأكيد الخبر عن ذلك الاسم. ولكنها تصنع أدوات خاصة بها حين تتطلب الحاجة، وحينئذ فإنها تورد "إن" قبل اسم وخبر، ولكنها لا تنصب الاسم بـالأداة، فكأن الجملة المجبولة على تلك الخلقة تقول أمرًا شائعًا وأمرًا غير شائع: فحين قال الله تعالى على لسان السحرة "إنّ هذان لساحران"، فإن "هذان" لم ترضخ للتأثير الإعرابي التوكيدي الكامن في "إن". وكأن الجملة كانت تحمل نوعين من العلاقات:
    - علاقة شائعة غير مفعلة: حسب القاعدة المعيارية، من حيث "إن" أداة نصب وتوكيد. وهذا ما كان عليه اعتقاد السحرة ومن حولهم من آل فرعون. بل من المعتقد أنه كان التفكير الشائع بين الجمهور الحاضر -الذي يعتقد أن أي عمل خارج عن قدرة الطبيعة البشرية إنما هو سحر، وليس داخلا في عباءة الدين ومعجزاته- بحكم أنه اعتمد على أدوات القاعدة المعيارية من نصب "إن" لما بعدها. وهذا يناسب فكر الجمهور.
    - علاقة خاصة مفعلة: وهي في أن "إن" لم تعمل النصب والتوكيد فيما بعدها، مشيرة إلى أن وجهة النظر الشائعة لم تكن صحيحة. ومن ثم لم تُفعّل خاصية النصب والتوكيد. (وسوف يتم مناقشة تلك المسألة بأشكال كثيرة في نصوص لاحقة، وبتوضيح أكثر).
    هنا لم تكن اللغة وعلاقاتها وسيلة التعبير الجامدة، ولكنها وسيلة التعبير الحية. في جملة واحدة حضرت الأدوات المعروفة، ولكنها تخلت عن القاعدة الخاصة بها من أجل تحقيق نوع من النفي بالتعطيل؛ تعطيل الأداة عن دورها فيؤدي ذكرُها وظيفة، ويؤدي تعطيلها وظيفة أخرى في الوقت نفسه.
    تلك الإبداعية في تأدية المعنى لها أشكال كثيرة، وطرق لا يبلغها إلا من صدقت فيه صفات الفروسية التي حكى عنها ابن جني في خصائصه (كما سنرى في الدراسة لاحقًا). ومثل لعبة المعنى بأدوات اللغة فإن هناك لعبة المعنى بأدوات العروض والأوزان الشعرية.. اللعبة التي نوّعت الأوزان لتؤدي كل نغمة وظيفة ما أو معنى ما أو إحساسًا ما أو فكرة ما. وخلقت لها مبدأ الضرورة الإبداعية (الشعرية) وزحّفت وصنعت العلل، وأرسلت القافية وكتبت السطر بدل البيت.
    في الحقيقة ليس معيار الحكم على اللعبة هو القديم والحديث أو المعياري أو المخترع، أو قواعد البلاغة التي يطبقها القارئ على أي نص دون تمييز لظروف النص عن غيره، ولكن الحاجة هي المعيار، حاجة النص لكي يمكنه التبليغ كما ينبغي، وحاجة الكاتب لكي ينقل إلى القارئ صفاته الشخصية من الاختصار أو الاسترسال أو الحكمة أو الإدراك أو القصور أو أو أو (واعيًا أو غير واع). وأخيرًا الجزء الخاص بالقارئ أو المتلقي وهو الذي عبّر عنه الباحث في عنوان الكتاب بقوله "بلاغة التلقّي" تلك التي تحمل معنى "آلية النقد المتعاطف" الذي ينطلق من إحساسه بالجمال والتفاهم الناضج مع حالة الكلمة والعلاقة بين الكلمتين والموقف وظروف الكاتب ونصه واحتمالات المعاني والأفكار الكامنة في النص المقروء.
    في هذه الدراسة حاول الباحث -قدرَ استطاعته- أن يرصد بعض قوانين اللعبة بين القديم والحديث، لعبة الكتابة ولعبة المعنى بين بلاغة المبدع وبلاغة المتلقي، وكرة الأدوات والقواعد بين القارئ والمتلقي نحو المناسب والمراد والمحتمل والمرغوب فيه ومصلحة البلاغة المتفتحة غير الجامدة.
    والقوانين المرصودة تعبِّر عن نفسها في تطبيقات شعرية ونثرية بين القديم والحديث. وبين الفصحى والعامية. حتى أنها كانت رصدًا للحاجة الكامنة في العلاقات اللغوية أو النحوية أو العروضية الموجودة في نص ما.

  2. #2
    الفصل الأول
    مدخل دراسة الطبيعة الإبداعية

  3. #3

    1- آلية النقد المتعاطف (قديمًا وحديثًا):
    إن محاولة البحث هنا لا تخضع لمنظور بلاغي، وإنما هي محاولة في النقد من منظور أسلوبي: حيث يسعى الباحث إلى تعليل الظاهرة بعد أن يتقرر وجودها . متذرعًا بمنطق التعليل والتبرير كما دلَّنَا عليه معلمُنا العبقريُ الخليلُ بن أحمد (ت175 هـ) الذي يُعَدُّ مِنْ أوَّل من أشار إلى التعليل من علماء العربية القدماء حين أجاب رفيقًا له سأله يومًا عن مصدر تعليلاته: هل أخذها عن العرب، أم اخترعها من نفسه؟ فقال: " إن العرب نطقت على سجيتها وطباعها وعرفت مواقع كلامها، وقام في عقولها علله، وإن لم ينقل ذلك عنها، واعتللت أنا بما عندي أنه علة لما عللته منه، فإن أكن أصبت العلة، فهو الذي التمست، وإن لم تكن هناك علة له، فمثلي في ذلك مثل رجل حكيم دخل دارًا محكمة البناء عجيبة النظم والأقسام، وقد صحت عنده حكمة بانيها بالخبر الصادق أو بالبراهين الواضحة، والحجج اللائحة، فكلما وقف هذا الرجل في الدار على شيء منها قال: إنما فعل هكذا لعلة كذا وكذا، ولسبب كذا وكذا، سنحت له وخطرت بباله محتملة لذلك، فجائز أن يكون الحكيم الباني للدار فعل ذلك للعلة التي ذكرها هذا الذي دخل الدار، وجائز أن يكون فعله لغير تلك العلة، إلا أن ذلك مما ذكره هذا الرجل محتمل أن يكون علة لذلك، فإن سنح لغيري علة لما عللته من النحو هو أليق مما ذكرته بالمعلول فليأت بها "
    وما أقرته لنا ملاحظة صاحب الكتاب:‏ وليس شيء مما يضطرون إليه إلا وهم يحاولون به وجهًا‏ .‏ ملازمًا لما ورد من قوله: أو لعل الأول وصل إليه علم لم يصل إلى الآخر"
    وبناء عليه، فإن ما يقدِّمه الباحث الآن ليس إلا تجربة تمثل -في علم الأسلوب- ما يُسَمَّى بــ"النقد المتعاطف" كما شرحه الناقد صلاح فضل في علم الأسلوب (مبادئه وإجراءاته) (صــ70، 71، الطبعة الأولى، دار الشروق). فالعمل الأدبي ككلٍّ ينبغي إعادة التقاطه من داخله وفي شموليته، مما يقتضي تعاطفًا معه ومع مبدعه. "ولو أنا أردنا الحق فإن أي شرح للنص وأية دراسة فيلولوجية ينبغي أن تنطلق من نقد لجمالياته، مفترضة كمال العمل الذي تدرسه، وخاضعة لنوع من إرادة التعاطف معه". وهذا ما طبقه "سبتسر" على دراساته المستفيضة لكل من "ثيربانتيس" و "ديدرو" و "كلاوديل" و"رومان" و "برست" وغيرهم.
    مجرد قبول النص الأدبي دلالة على أن جمالياتٍ نصوصيةً مخبوءةٌ داخل لغة هذا النص، وعدم استخدامها من قبل يعود إلى أسرار بلاغية لم تتفتق للشعراء بينما تفتقت لهم أسرار إبداعية أخرى استثمروها وأفادوا منها حتى أنهكوها، ولم تعد صالحة لنا كإبداع جديد. .
    وبما أن الشعر هو حالة تمثل لغوي راقية، وأنه تجسد فنيّ لأبلغ مستويات الإبداع اللغوي قولًا وإدراكًا؛ ومن ثَمَّ فهو حساسية انفعالية عالية، يمارسها الإنسان بعد بلوغه مستواها الذي هو تلاحم حضاري للواقع ويمثله الفرد، مع الوجدان الجمعي للغة ويمثلها الموروث اللغوي، وبذلك تتمازج درجات الإبداع بين ما هو فردي وخاص وما هو جمعي وموروث. ومن هنا فإن القصيدة هي خلاصة هذا التوحد الإلهامي الذي به يتحقق (انبثاق اليوم من الأمس) كما يقول رولان بارت .

  4. #4
    مراجع الجزء السابق من الدراسة:





    (مع الاعتذار لأنها منسقة في ملف الوورد بصورة لن تظهر المرجع بشكل دقيق إلى موضع الإشارة في النص النقدي)..

  5. #5
    أسلوب طه حسين في ضوء الدرس اللغوي الحديث صـ،9 الدكتور البدراوي زهران نقلا عن الأسلوب والأسلوبية للمسدي صـ48، 49 ومراجعه / دار المعارف.
    الإيضاح في علل النحو للزجاجي ص 66.
    الخصائص (الموسوعة الشعرية).
    الخصائص (الموسوعة الشعرية).
    علم الأسلوب (مبادئه وإجراءاته) صــ70، 71، الطبعة الأولى ، دكتور صلاح فضل. دار الشروق.
    الصوت القديم الجديد دراسات في الجذور العربية لموسيقى الشعر الحديث صـ6 د. عبد الله الغذامي الهيئة المصرية العامة للكتاب 1987م.
    كلمة "حساسية" غير صحيحة لغويًا، ولم أعثر لها على كيفية اشتقاق. وقد وجدتها في معاجم الأخطاء الشائعة مثبتة، وصحتها (رهافة الإحساس، مرضية الإحساس)، ولكن الباحث أثبتها لأنها منقولة عن اقتباس من الصوت القديم الجديد دراسات في الجذور العربية لموسيقى الشعر الحديث صـ5 د. عبد الله الغذامي الهيئة المصرية العامة للكتاب 1987م.
    الصوت القديم الجديد دراسات في الجذور العربية لموسيقى الشعر الحديث صـ5 د. عبد الله الغذامي الهيئة المصرية العامة للكتاب 1987م.

  6. #6

    2- طبيعة الإبداع وتبرير الضرورات في الشعر والنثر
    (لغويًا ونفسيًا ونحويًا):
    وبناء عليه نجد أن طبيعة الكتابة الإبداعية ترفض كثرة القيود؛ وذلك مبدأ تفهّمه الشاعر العربي الأول في أساليبه العروضية، وحرّر نفسه بقدر الحاجة واللازم؛ فنراه "تعامل مع الوزن بتحرر وبنفس مفتوحة، وقد ساعده طائفة من النقاد القدامى على ذلك، ولم يجعلوا من تحرره عيبًا يخل بالقصيدة".
    الحاجة واللزوم التي صنعت بابًا من البلاغة –في غير العروض- اعتبره الشعراء قسمة حلالاً لهم شرّعتْها رؤيتهم الإبداعية كأساس من أسس الفن التي تضيف أبعادًا جديدة لمخالفة القاعدة النحوية بحجة الفائدة أو المبرِّر ؛ وشرح ذلك سيبويه في قوله: "وليس شيء مما يضطرون إليه إلا وهم يحاولون به وجهًا‏ .
    وانقسم النقاد إزاء تلك الظاهرة إلى أقسام: رافضة في مواقف، ومؤيدة في أخرى أو محاولة الاقتصار على الضرورات الشعرية القديمة، مصنفين بعضها بالضرورات الحسنة، وبعضها بالقبيحة دون رؤية واضحة أو تفسير ملمٍّ بأبعاد متكاملة للقضية (حينما تمت القضية في ساحة الشعر وحده). فابن جني في خصائصه يجعل من الشاعر العربي (صاحب الضرورة) فارسًا مدلاً بقوة طبعه وشهامة نفسه، رغم علمه "بأنه لو تكفر في سلاحه، أو أعصم بلجام جواده لكان أقرب إلى النجاة وأبعد عن الملحاة (الخصائص، 1: 216).
    والزاوية -التي ينظر الباحث منها إلى ما اجتمع معظم النقاد والأدباء على تسميته بـ"الضرورة الشعرية"، محاولين تبريرها (بحالة الإبداع الشعري) للحفاظ على هيبة القاعدة النحوية- هي زاوية مختلفة، تجعل الباحث يعلن اعتراضه المنطقي على التسمية نفسها ببرهان ودليل ورؤية خاصة بهذه الدراسة:
    1- في حين أن النحو العربي ما زالت تتردد فيه جملة "وهذا سماعيّ" (ومعنى ذلك أن التفسير المنطقي -لوضعية تركيب ما ورد في حديث (كما في درس مجيء الحال من النكرة ورأي الخليل بن أحمد ويونس بن حبيب ، وغيره كثير في كتب النحو) أو في غير حديث من كلام العرب- لم يتسنَّ للمقعدين العثور عليه) وقد يكون سبب ذلك قلة الشواهد بسبب ما أطلعنا عليه الجمحي من فقدان الكثير من التراث الأول؛ مما جعل المقعّدين يعلنون قاعدة لا تنطبق على أحد التراكيب، فيصفونه بـ"السماعي". وحينذاك لا يعرف المتعلِّم: هل المعيار هو قول النحويّ والقاعدة التي وُلِدتْ بعد التركيب أم التركيب بشحمه التراثي ولحمه الذي كان قبل القاعدة.
    2- ما دامت هناك تراكيب في النثر العربي، وفي الحديث، والقرآن لا يمكن للقاعدة احتواؤها، فسوف نسمح لأنفسنا بالتخلي قليلاً عن كلمة "الشعرية"، فالأمر يخص مناطق أخرى غير الشعر. وحين نقرأ ما قال الرضي في شرح الكافية:
    "ويجمع بين " يا " والميم المشددة، ضرورة، قال:
    - إني إذا ما حدث ألما * أقول يا اللهم يا اللهما
    من السهل هنا أن تقول إن الشاعر أخطأ حين جمع بين أداة النداء "يا" والميم المشددة .
    ولكن النحاة كانوا منصفين حين قالوا إن ذلك ضرورة بمعنى أنها تجوز في الشعر".
    وهذا يجعلنا نسأل لماذا آثر الشاعر استعمال "يا"، رغم أن الميم عوض عنها ولا يجوز الجمع بين العوض والمعوض
    فأقول إن الشاعر هنا شعر بأنه في حاجة إلى الإلحاح في النداء بدليل أنه كرر أسلوب النداء.
    وقد ذكر الرضي أيضا هذا البيت:
    جمعت وفحشًا غيبة ونميمة * ثلاث خلال لست عنها بمرعوي
    في الضرورة
    والأصل أن يقول : جمعت غيبة ونميمة وفحشا
    ولكن الشاعر لا يلتزم بهذا الاستعمال الأصلي، بل يفتن في الاستعمال وكأنه أراد أن يبين مدى احتشاد هذه الخلال؛ فجاء بهذا التركيب الإبداعي.
    ومثل هذه الحاجات التعبيرية لا تقتصر على الشعر، فما كان هناك حاجة لتسميتها به.

  7. #7
    [justify]3- واحترامًا لمكانة القرآن فسوف نبتعد عن كلمة "الضرورة" (وإيحائها الذي اكتسبته من جراء اعتبار بعض هذه المناطق قبيحًا، كما نجد في تعبير ابن جني في خصائصه: "... على قبحها".
    4- في الآية الكريمة "إنّ هذان لساحران" (إنّ المشددة) قيلت تفاسير مختلفة؛ فمنها ما جعل "إنّ" المشددة غير عاملة في "هذان" انطلاقًا من كون "إن" للتأكيد، بينما "هذان" (موسى وهارون) لم يكونا ساحرين فعلاً؛ ومن ثَمَّ لم تعمل "إنّ المشددة" فيما بعدها . (ونرى هنا غلبة حالة من الإبداع في تفسير الآية معتمدة على أن التعبير باللغة والنحو لا يجب أن يلتزم طريقة مدرسية، وإنما سلوكًا يعترف بالعلاقات الجديدة دائمًا -مع الاحتفاظ بقيمة العلاقات الأولى التي أرستْها مدارس النحو المعيارية بعيدًا عن حالات الابتكار الإبداعي- كوسيلة هامة وحاضرة في النصوص التي تؤدي لنا حالة ما).
    وتفسير آخر للآية، أنه لما كان السحرة (قائلو "إنّ هذان..") يتحدثون فيما بينهم بلغة أو لهجة غير التي يتحدث بها فرعون ومن حوله، فقد التُزِم الألف في "هذان" على لغة كنانة وبني الحارث بن كعب ..... الخ "
    وبغض النظر عن اختلافنا أو اتفاقنا مع التفسير، فهناك ثلاث نقاط نتائجية لابد من ذكرها: (أ) أن الآية القرآنية –بتشديد "إن"- صحيحة. (ب) ومن ثمَّ؛ فليست القاعدة النحوية المعيارية إلا إحدى وسائل المعاملات اللغوية فيما يخص الشعر والنثر، وليس الشعر وحسب. (ج) يجد الباحث أن وصف ابن جني لصاحب الضرورات الشعرية بالفارس -الذي "يتكفر بسلاحه، أو أنه يرتكب الضرورات على قبحها...." "لكان...، وأبعد عن الملحاة"– لا يخلو من التقدير الموارب لسلوك الشاعر الجديد. ولكنه تقدير لا يحمل القوة التي يحملها رد "أبي العباس ابن البناء" على سائله. إذ أن ابن جني لا ينفي صفات القبح وتبعياتها بشكل واضح.
    والشعر العربي مليء بالأمثلة التي تشهد بثبوت هذا التحرر. كما أنه لم يرو لنا من الشعر إلا نسبة قليلة منه. وهذه حقيقة ثابتة بالعقل والنقل: وثبوتها بالعقل هو أنه لم يرو لنا من الشعر إلا ما حفظته الذاكرة على مَرِّ ما يقاربُ قرنين من الزمان (وقرنان من الزمان كفيلان بإضاعة الكثير مما قيل). أما ثبوت ذلك بالنقل، فهو ما ذكره ابن سلام الجمحي من أن العرب -لما جاء الإسلام- تشاغلت بالجهاد عن الشعر. فلما راجعوا رواية الشعر، لم يلجأوا إلى ديوان مدون ولا كتاب مكتوب؛ فألفوا ذلك وقد هلك من العرب من هلك بالموت والقتل، فحفظوا أقل ذلك، وذهب عنهم منه أكثره"
    وهنا في ساحة تلك النصوص الشعرية (موضع الدراسة، والتي يتم إدراجها فيما بعدُ) يحاول الباحث أن يرصد العلاقات الممكنة بين الشاعر وقصيدته جيئة وذهابًا، متذرعًا بآلية النقد المتعاطف (كما تمَّ توضيحها سلفًا).
    ويعتمد الباحث -في دراسته- النظر إلى السلوك العروضي –حسب تعريف إليزابيث- على أنه إطار آلي أو عرفي يحتذيه الشاعر أو يسير على
    منواله لينمي من خلاله حركته الشعرية .
    لكن تحولت الأشكال العروضية التي رصدها الخليل بن أحمد إلى قواعد ثابتة وصارمة سار عليها الشعراء طوال العصور السابقة (بوصفها إطارًا صوتيًا أو إيقاعيًا محايدًا وثابتًا مفروضًا عليهم سلفًا ، ولا يتحمّل أي ضغط على تفعيلاته المحددة، ولا أية مسؤولية تجاه المعاني وتطوراتها).
    ومن ثم نادت نازك الملائكة إلى الشعر من حيث هو"إيثار المضمون؛ وذلك كردة فعل مباشرة تتمثل في إحساس الشاعر الحديث بأن الشعر العمودي قد تحوّل إلى تجربة شعرية تهتم بالشكل أكثر من اهتمامها بالمضمون؛ وذلك مما جعل المعنى تابعًا لوحدة البيت العروضية (ينتهي في نهايتها مثلما يبتدئ في بدايتها).
    وإذا أنعمْنا النظر فيما ذُكِرَ عن تجربة الشكل الخليلي -في آخر فقرتين- نجد أن الدكتور عبد السلام والشاعرة نازك الملائكة يستخدمان الفعل (تحوّل). والمعنى اللغوي لذلك الفعل هو " تَحَوَّل: تنقل من موضع إِلى موضع آخر. والتَّحَوُّل: التَّنَقُّل من موضع إِلى موضع" .[/justify]

  8. #8
    ففي استخدام هذا الفعل اعتراف من الكاتبين (الناقد د. عبد السلام، والشاعرة نازك الملاكة) بأنه كانت فائدةٌ ما للشكل الخليلي غير مجرد الإطار، أو كان هناك مساحات من الفنية التي ابتكر لأجل مناسبتها ذلك
    الشكل الخليلي بأوزانه وقوافيه ولكنه (تحول) إلى إطار آلي..
    وأكثرُ العوامل التي تعين على مثل هذه الآلية هو كثرة الاستعمال وبعد العهد. وإنه أحيانًا يطغى علينا تقليد القدماء لا لنفع المنهج بقدر تهيّبنا لمكانتهم واعتزازنا بهم!!
    ونحن نكتسب حركاتنا، ونكوّن علاقاتنا عبر التاريخ بالمحاكاة أكثر منها بالتعلم المتدبر للأمر: فالابن يتشرّب عادات أبيه بتلقائية؛ تلك العادات التي يحاكيها في العقل اللاواعي عنده.
    ولكن يبقى أن الابن يتعامل مع هذه المفردات المكتسبة بفهم جزئي..
    فإن منيرفا سيفوس(مثال للشاعر الابن أو الحفيد/اللاحق) -التي عنّفَتْها أُمُّها، لأنها قلبت منفضة السجائر الزرقاء- قطعت عهدًا على نفسها أن لا تقلب أو تلعب بأي طبق أزرق ثانية لئلا تغضب أمُّها، أو لتفوز بحق الرضا من الأم/الشاعر السابق. ومن ثم فقد لعبت بمنفضة أخرى ذات لون أخضر.
    البنت اهتمت أو انتبهت للشكل واللون /الإطار. ولكن الأم كانت تقصد الطبق المتكامل مع ما تؤديه تلك الأطباق من وظائف. فتتلقى البنت التأنيب؛ لأنها لعبت بواحدة ذات لون أخضر. وعندما اكتشفت أمها الخطأ وضَّحَتْ لها. وبذلك عرفت منيرفا أن المهم أن تتفهّم وضْعِيَّةَ هذه الأطباق من خلال استعمالها الذي أُعِدَّتْ له . (وهذا لا يختلف كثيرًا عن آلية تفسير أبي
    العباس بن البناء للآية القرآنية).
    ولا شك أننا نتفهم مفردات الكون بما تمثله لنا هذه المفردات : فمن الممكن أن نحتفظ بكرسيين، ولكن نهتم جدًا بأحدهما، ونكنّ مشاعر خاصة تجاهه دون الآخر؛ لسببِ أنه كان الكرسي الذي أوقفك عليه أبوك يوم عيد ميلادي بمحبة أو أنه الكرسي الذي كان يحب أبوك أن يقعد عليه كثيرًا، ويحدثك برفق.
    ومن ثم فمن الوارد جدًا نفسيًّا أن نتغاضى عن الفائدة النفعية الحادثة من ذلك الكرسي، أمام تلك المتعة الروحية والبصرية والسمعية التي تؤلِّفها
    حضرة ذلك الكرسي.

  9. #9

    مراجع الجزء السابق من الدراسة

  10. #10
    المرجع السابق 104.
    النحو المبرَّر والضرورة الشعرية (مقال أدبي) ، أحمد حسن محمد، منشور على صفحات الإنترنت في ملتقيات (ملتقى رابطة الواحة الثقافية، أروقة الأدب، التوباد، فضفضة).
    الخصائص (الموسوعة الشعرية).
    شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك، كتاب منحة الجليل بتحقيق شرح ابن عقيل، الجزء الثاني، صـ168. دار الطلائع، مدينة نصر، القاهرة.
    -وردت الحكاية في نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب - المقري التلمساني (أحمد بن محمد)، وبسياق آخر في عبد الكريم الخطيب الإعجاز في دراسات السابقين.، وفي الإعراب المرفوض الدكتور مصطفى صقر(والتفسير لأبي العباس بن البناء، وقد ذُكِر أن السائل استغرب رد أبي العباس بن البناء فقال: يا سيدي، لا ينهض هذا جوابا، فإنه لا يلزم من بطلان ققولهم بطلان عمل إن.. فقال: يا هذا، إنما جئتك بنوارة لا تحتمل أن تحك بالأكف وأنت تحكها بين يديك ثم تطلب منها الرونق.؟؟!!
    منحة الجليل بتحقيق شرح بن عقيل، الجزء الأول، ص44.
    الصوت القديم الجديد صـ105.
    موسيقى الشعر صـ23 للدكتور عبد السلام سلام، كلية الآداب جامعة الزقازيق ًــ23، 24.
    موسيقى الشعر صـ23 للدكتور عبد السلام سلام، كلية الآداب جامعة الزقازيق ًــ23، 24.
    الصوت القديم الجديد صـ41.
    لسان العرب
    الطب النفسي والتحليل النفسي صــ106 إريك برن ترجمة إبراهيم سلامة إبراهيم مراجعة د. فهيم كلير.. الهيئة المصرية العامة للكتاب.
    رؤية في الشعر الجاهلي / دراسة تحليلية في حركية الشعر العربي د/ هلال الجهاد (مراجعة)
    وفي هذا من الحرية والاستمتاع واللذة والتنفيس لطاقة الحياة ما فيه، مما يجعل المرء يبذل كثيرا من حرياته الأخرى مقابل هذه الحرية الكامنة في لذة التفاعل الروحي مع الذكرى.. ولا شك أن هذه ممارسات مشروعة للمخزونات النفسية.

صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة

المواضيع المتشابهه

  1. في الكتابة الإبداعية
    بواسطة ملده شويكاني في المنتدى شؤون القصة
    مشاركات: 7
    آخر مشاركة: 02-18-2018, 03:35 AM
  2. جماليات التلقي وإعادة إنتاج الدلالة
    بواسطة رغد قصاب في المنتدى فرسان المكتبة
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 12-10-2015, 02:12 AM
  3. مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 03-10-2015, 01:56 AM
  4. رؤية نقدية تشفير النص وحرية التلقى
    بواسطة عبدالوهاب موسى في المنتدى فرسان الأبحاث والدراسات النقدية
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 07-10-2014, 03:56 PM
  5. إستراتيجيات الكتابة
    بواسطة ريمه الخاني في المنتدى فرسان الأدبي العام
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 10-29-2007, 07:46 AM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •