انتقاء
واقفة هي الأشجار حين تموت ، يتوقف النسيم عن مداعبة أفنانها ،
تغادرها الطيور ،
تهجرها العيون المغرمة بالجمال ،جاحدة هي الأرض حين لا تحتضن أوراق أشجارها الساقطات ،
قاتلة تلك العيون التي تجعل العاشق منقادا إليها ، يعانق أوجاعا تسكن جسدا مثخنا بالجراح ،
ساقطة هي الأيام حين تفتح دكاكين عهرها في أسواق الرذيلة ، وتشحذ من لآلئ الليل قبسا لتستعيد بعضا من أنوارها المسروقة ،
قريبة هي الأنوار إلى عتمة الليل في عيني سارة ذات العشرين ربيعا ،
تلك التي قدت أثواب سترها لتكون جسدا مشاعا للجميع ، جسرا يعبر عليه كل الماشين عند منعطفات الطرق الليلية ،
في ميادين النخاسة لا ترتق أثواب الفضيحة،
ذات ليلة صفاء باردة النسمات ،
داعب أوتار قلبها صوت فتى غرير أتاها يطرق مسامعها محملا بسحر الحياة وعبق العشق ،
جفلت وهي تشعر بدبيب أقدامه ،
صوت مس شغاف قلبها دون أن تراه ،
تلملم قميصها الشفاف الفضفاض ، يخزيها عري جسدها الموطوء لحظة اشتهاء ،
تفضحها عيونها الباحثة عن الخلاص ،
تتراءى عيونها في عتمة الليل كفنار يهتدي به كل من ضل الطريق إلى دروب الغواية ،
أقدامها تدغدغ شوارع قلبها المفتون ،
يغسلها ماء طهر معتق بشفيف ألحان قيثارة،
نمت بذور التغيير في براعم منداة ،جلست تستقي من ماء المطر ،
قطراته الساقطة على قذالة شعرها الذهبي المتماوج ، كونت بلورات هلامية على وجهها العاجي ،
عاشقة إلى حد النخاع ،
ضمآنة لسحر حديث حبيب يأتيها كل يوم من نوافذ غرفتها المغلقة ،
لا تعرف من أين و كيف يأتيها ..؟ كيف يتسلل إلى مخدعها ..؟،
ملت استقبال ركام الأجساد الشبقة تسكن وديانها النضرة ،
محظور عليها أن تنام ، قد يأتيها مخمور ، أو موبوء ، أو مأبون ، ليعبث بتضاريس جسدها الموءود ،
تزكمها رائحة زنخ الرذيلة ، تنظر إلى سرمدية الكون بهدوء ،
تتطلع إلى مسارات الرحيل بتوئدة مثل مناهل الفضيلة
،سكرانة كل الدروب بخمرة الوجد
،أسبوع مر ولم يأت اشتاقت إليه ،
فتحت مصراعي نافذتها عله يأتي ، رغم صفير الريح ، وهزيم الرعود ، و برد قارس يصل حتى النخاع ،
قابعة هنا ، تذرعت بحبال أعذار واهية أمام إصرار سيول لا تعترضها العرم ،
لم تذعن لرغباتهم ، ولا لجوع بطن كان يقرص أمعاء خاوية ،
حتى وإن كانت ( فاتورة الحساب ) لحظة من لهاث جسد موطوء ،
تجتر أيام طهرها الأولى ، قبل أن تمطرها غيمة الرذيلة تنتظر ما تجود به الغربان الناعبة
،الأحلام هي ذاتها لم تتغير لن تربو إلا لقلوب متبولة بالعشق وعيون مفتونة بالجمال
(لن تطفأ الشمس أنوارها ) قالها ذات مرة ، حين جلسا في هودج أحلامها المتعففة ،
يغرقان في سمو الروح ، يسكران في خمرة الهيام والوجد ،
يذوبان في صمت أبلغ من أي حديث
( أنا جسد مباح للجميع فلم لا تتبضع منه منيتك وترحل )
( أريدك والطهر صنوان ) كفرت بكل ما يربطها بالأمس ، عافت نفسها تلك الأحلام الوردية المراوغة ، أملها الجديد يسمو ترانيمَ صوفية رغم أوجاعها ، اللاهثون إليها يزدادون إصرارا ليقتحموا حجبها التي لم تنتهك مذ أن مر طيفه عليها ، الأصوات تتعالى
(نريد سارة كلنا عاشقون لك ، لا تجري وراء سراب المغفرة )
حاولوا كسر بابها الموصد بمغاليق إصرارها ، كانت خائفة مذعورة ،
الكلُّ شاهرٌ سيف شهوته ، محملٌ برغبة الاستسقاء من رحيق رضابها ،
أصوات قرقعة العربات تستفز السكون ،
الغوغاء في ازدياد ، يحملون مشاعل من ذبالة أحقادهم ،
خرج كل من في القرية يهتف ، يلعن الرذيلة والفساد ،
يلعن المتاجرة بالأجساد ، حتى النساء جئن ينتقمن لأنفسهن منها ،
بعد أن أذلت كبرياءهنَّ وأوقدت في قلوبهن نار الغيرة المتقد ،
لم تعد سارة تلك التي كانت تبدد كل شبقهم في مراتعها النضرة ،
نسوا توسلاتهم ، يهرقون ماء وجوههم مقابل خلوة ، أو وعد به تجود ،
( ارحلي بعارك ، أخزاك الله ، أيتها الفاجرة )
تهاوت مشاعل الغضب على الدار لتحرقها بمن فيها،
ألسنة اللهب تأكل كل ما في البيت ، الدخان يتعالى ، راحت الحجارة ترجم جسدها الغض ،
لا تعرف أين تتجه يتحلقون حولها ، الظلام دامس ، الدماء تنز منها ، ،
صراخها مكبوت ، سقطت على أرض موحلة اختزنت كل مواجعها بأنات واهنة ،
راحت تنطق بصوت ضعيف النبرات وكأنه في حالة احتضار ،
لم تنفع توسلاتها ولا بكاؤها .
في لحظة غير محسوبة
توقف كل شيء وكأن الجموع تحجرت ، حبيبها قادم على صهوة جواده ، صرخ صرخة وجفت لها القلوب ، رددت أصداءها كل البيوت
تهاوت الأحجار من أيديهم ، ارتعدت فرائصهم ، شهر سلاح ( من لم يكن بلا خطيئة ) بوجوههم
، فروا جميعا ، ولوه الأدبار كاسفين ، انكشفت كل سوآتهم ، عوراتهم بدت للجميع تظهر يتخبطون في فوضى عارمة ،
تملكها ذهول مهيب ، فاضت نفسها بفرح طفولي ،
سألته وقد مسها ارتعاش أن أحست بدفء يديه تمس ح الدموع من عينيها
_ من أنت ،
لمعت على شفتيه ابتسامة ،ثم مضى كما يمضي طيف الخيال
راحت تتخبط في ظلمة عينيها التي انطفأ فيها النور
صرخت بحرقة ..
كيف ... لي ..أن أعيش ..؟
لاتخرجني من هوة سحيقة ... لأ سقط في هوة أخرى .......
تردد صدى صوتها بين الوهاد و بين متاهات الدروب القصية
يبحث عن خلاص للإنسان
المقــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــه