لم يتوقف الأدب الفلسطيني بأجناسه المختلفة عن ممارسة التحريض على النضال ضدّ المشروع الصهيوني منذ ظهوره، وقد استطاع أن يكون فاعلاً حقيقياً في إيقاد شعلة الهبّات الثورية،
كما استطاع أن يواكب الأحداث ويؤرّخها ويستشرف الآتي.
أزعم أن الشعر هو السبّاق دائماً، في واقع أدبنا العربي، في القبض على اللحظة وتصويرها، لأن الشعر يستطيع عكس الحالة الانفعالية المتوافقة مع حركة الناس.
انتفاضات شعب فلسطين جاءت ولادة طبيعية منتَظرة من شعب تراكمت معاناته، ونفد صبره، وتمرّد على كل السياسات «منذ ما قبل مؤتمر مدريد، إلى أوسلو، وحتى الآن» في مسار مفاوضات عقيم لم يفرز غير المزيد من التنازل والاستلاب، وكانت قد زيّنت له وعوداً برّاقة لم تسفر إلا عن خيالات، بعيدة عن تحقيق عودته إلى أرضه، وتحرّره.
تلك السياسات «التفاوضية» ساهمت في تكريس مخطّطات الصهيونية ومن يدور في فلكها بتفكيك التوجّه الواحد المفترض للأدب الفلسطيني، من خلال تقسيم تجمّعات الشعب الفلسطيني إلى فئات أرادوا لها أن تبدو منفصلة عن بعضها بالكليّة، بانين خيالاتهم على حجج واهية، وتصوّرات لا يوجد لها بصيص حقيقة في نسيج المجتمع الفلسطيني المتلاحم في ثوابته.
ذلك التخبّط الذي فرد ظلاله على القضية الفلسطينية، في السنوات الأخيرة على الأقل، كان له الأثر المؤقّت على خريطة الأدب، فمن الأدباء من رأى الخلاص في هذا التوجّه السياسي المتمثّل بالمحافظة على الثوابت «الوطن كلّ الوطن، والعودة»، أو في تقبّل التعايش واقتسام الأرض، وما يجرّ من تطبيع وانفتاح، أو من خلال حوار الثقافات والحضارات.
تأتي انتفاضات شعب فلسطين لتضع الأمور في نصابها، وتأخذ بيد كل من غرّرت به النظريات المهووسة لتضعه مرّة ثانية على طريق الأمنيات الحقيقية للشعب الفلسطيني.
ولا يعني هذا أن الأدب لم يواكب، ولكن علينا أن نعترف أنه «أي الأدب» الذي رأينا بعض ملامحه البهيّة تبرق هنا وهناك لم يرقَ بعد إلى قامة الفعل الشعبي الفلسطيني المارد الذي نراه الآن يتمثّل على الأرض، بتحمّل نزيف تضحيات ليس له مثيل، وفي صبر أسطوري فاق كل التصوّرات الهزيلة التي راهنت عليها عصابات الصهاينة ومن يدور في أفلاكهم.
الشعر كما عوّدنا دائماً كان السبّاق في القدرة على المواكبة والتصوير ورسم ملامح المستقبل.
القصّة أيضاً تتلمّس طريقها من خلال نصوص إبداعية تتكئ في الأغلب على حدث طازج يقود إلى انفتاح على كامل القضيّة، ولا بد لي أن أشير إلى أن القصّة الفلسطينية ما زالت تعاني كما يعاني الشعر والرواية في الشتات الفلسطيني من ضبابيّة في الرؤى الوصفية التي تأتي غالباً بعيدة عن مطابقتها للواقع، وهذا ما أعزوه إلى الانقطاع النظري عن المشاهد الحقيقية للأفعال على الأرض بسبب الانقطاع الجغرافي، والذي لم يبق منه إلا ما تبرزه وسائل الإعلام أو المناقلة، أو الرؤى الانطباعية المقتلعة من الذاكرة.
إن هذه المرحلة وهي ترتقي بأدواتها يوماً بعد يوم، تفرض على الأدباء الفلسطينيين الموجودين على الأرض «الشاهدة بالصوت والصورة، وباللحم والدم»، أن يقوموا بواجبهم الوطني، الأدبي، الثقافي كونهم الأقدر «من خلال تماسّهم المباشر» على بعث روح جديدة، وضخّ دماء جديدة في شرايين أدبنا المقاوم.
وإنني على يقين بأننا نعيش الآن فترة انتظار لن تطول، حتى تطلّ علينا أشعار وقصص وروايات سوف ترقى إلى مستوى فعل شعبنا العربي الفلسطيني على الأرض، وتكون قادرة على التحريض والوصف والتأريخ والاستشراف أيضاً.
ولا شك في أن أيّ منا يتطلّع إلى مقوّمات فعلية تملؤنا بالفخر والاعتزاز، ويبعدنا في الوقت نفسه عن الإحساس بالعجز القسري.
إنني على يقين بأن أكبر وأعظم نتاجاتنا الأدبية السابقة واللاحقة لن ترقى إلى قامة الدم النازف بغزارة على أرض فلسطين.. وطننا الأبديّ الغالي.