قالت العرب قديماً، كل إناء بما فيه ينضح، وهي عبارة صحيحة وعميقة المعنى، فالإناء الذي امتلأ حتى آخره، لابد أن ينضح بما فيه، فإن كان خيراً، فنعم بما نضح، وإن كان سوءاً، فكفانا الله شره، فبيوت العلم أكثر ما ينضح منها رجال صالحون، وبيوت الجهالة والسفاهة فإلى الشوارع يهيمون، وفي البلاد يخربون.
وقيل:
مَلكْنا فكان العَفْو منَّا سَجيَّةً فلمَّا ملكْتُمْ سالَ بالدَّم. أبْطَحُ
وحَلَّلْتُمُ قتلَ الأسارى وطالَما غَدوْنا عن الأسْرى نَعفُّ ونصفَح
فحسْبُكُمُ هذا التَّفاوتُ بيْنَنا وكلُّ إ.ناءٍ بالذي فيه. يَنْضَحُ
ومن رواية مقتبسة، قيل إن قرية صغيرة لم تصلها المدينة بعد، كان أهلها يسمعون الأعاجيب عن إحدى المدن، بعادات أهلها وطريقة عيشهم المنفتحة، كانوا يتشوقون لمعرفة حقيقة ما يسمعونه عنها، فقرروا إرسال رجلين منهم ليستطلعا تلك المدينة، ويأتياهم بالحقيقة.
غاب الرجلان لفترة، ثم عاد أحدهما، فالتف قومه من حوله، سألوه بلهفة: أخبرنا كيف وجدت المدينة؟ كيف هم أهلها؟ ما حقيقة ما كنا نسمع عنها؟ قال لهم الرجل بكل ثقة: لقد كرهتها، فهي مرتع للفساد فملاهيها كثيرة وأهلها فاسقون فاسدون جهال، لا دين لهم ولا أخلاق، بعد أن عرف الناس الإجابة التي انتظروها طويلاً، انفضوا من حوله، لاعنين تلك المدينة الفاسدة.
بعدها بأيام عاد الرجل الثاني، فلم يهتم أحد بسؤاله عن تلك المدينة، فقد عرفوا حقيقتها ممن سبقه، إلا أنه بدأ يتكلم عن تلك المدينة بكلام غير الذي سمعوه، فقد قال لهم لقد عرفت الحقيقة: لقد أحببت تلك المدينة الراقية الجميلة بحدائقها وبنظافتها وبطيبة أهلها، فهي مدينة فاضلة، مليئة برجال العلم، وبدور العبادة، وبالمتاحف والمسارح.
ارتبك أهل المدينة، فهل المدينة فاسدة أم فاضلة؟ هل أهلها طيبون أم فاسقون؟ لم يجدوا لهم مجيباً على هذا الأسئلة إلا حكيم القرية، كان شيخاً خبر الحياة، وتعلّم منها الكثير، فوثق به الجميع، ذهبوا إليه باحثين عن الحقيقة، وأخبروه بأخبار الرجلين.
قال الحكيم: كلاهما صادق، فالأول نضح بما في سريرته، فقد ذهب، حال وصوله المدينة، إلى أقرب حانة فوجدها ممتلئة بالناس، وعاشر أسوأ قومها، أما صاحبه، فحال دخوله المدينة ذهب إلى المسجد، فوجده ممتلئاً بالناس، وعاشر أفاضل أهلها، فأخبركم بما نضحت به نفسه.
فمن ير الخير، فهو لا ير إلا ما في داخل نفسه، ومن ير الشر فهو لا ير إلا ما في داخله، وهكذا كلٌّ يرى الناس بعين طبعه، وكلُّ إناء بما فيه ينضح.