التخصص الدراسي.. اختيار صعب
و حائر بين رغبة الآباء وطموح الأبناء
تحقيق: هديل عادل
في غمرة نتائج الثانوية العامة وموسم حصاد متفوقيها يبدو المشهد سعيداً مبتهجاً في كثير من البيوت، الا ان المتأمل يكاد يبصر استعدادات لمعركة على وشك ان تبدأ.. طرفاها اولياء أمور لا يريدون الا الخير كما يتصورونه لأبنائهم، وشباب وشابات ممتلئون بالأمل ومشاريع المستقبل. نقطة الخلاف التي تفجر المعركة هي التخصص الجامعي بين طالب يعتقد انه ادرى الناس بامكاناته والأحق بتخطيط مستقبله، وولي أمر يعتبر نفسه أبعد نظراً وأكثر استيعاباً للحياة من ابنه الذي يفتقد الخبرة، ولا يعرف من الحياة الا جانبها المشرق. المواجهة حتى النهاية، الاستسلام تحت مسمى عدم عصيان ولي الأمر، التفاوض الهادىء، محاولة الضغط.. اساليب مطروحة وممارسات يلجأ لها الأبناء في مواجهة المعركة. “الخليج” في هذا التحقيق ترصد التفاصيل:
كانت رؤية محمد احمد متضحة منذ بداية العام الدراسي، حيث انه وضع من تخصص “الاستشعار عن بُعد” هدفاً له، يسعى للوصول اليه بكل ما أوتي من طاقة، وكان سبب اختياره لهذا الاختصاص التابع لكلية الجغرافيا ندرته، ومن ثم حاجة الدولة له.
لم يجد محمد اي ممانعة من أهله حول اختياره لهذا القسم، ولكن الممانعة كانت على فكرة السفر التي يستلزمها الاختصاص، لعدم توافره في جامعات الدولة، ورغم ذلك لم ينزعج من تدخل والديه لأنه يعرف حرصهما على مصلحته، لذا أجل المناقشة حتى ظهور النتائج، حيث حصل على نسبة 89،2% مما سهل عليه مهمة اقناعهما بالسفر، وبالفعل قالا له توكل على الله فأنت تمتلك القدرة على تحمل المسؤولية.
بين رغبتين: تقف نجلاء احمد عبدالحميد بين رغبتها في دراسة برمجة الكمبيوتر ورغبة أهلها في دراسة الطب، في هذا الموقف سألناها عن رأيها فقالت: “رغم ان قناعتي كبيرة بدراسة البرمجة، لكني تأثرت بوجهة نظر والدي الذي رسم لي صورة واضحة عن طبيعة الدراسة والعمل في كل من الاختصاصيين، وحجم الخريجين في كل منهما، وان كثيرين في هذا الوقت يدرسون الكمبيوتر، مما سيترتب عليه عدد اكبر من الخريجين، وفرص اقل في مواقع العمل”.
وتضيف “بدأت أقتنع برأي والدي فأنا لا امتلك الخبرة الكافية للتوصل الى الاختيار الأنسب، وسأصلي استخارة وأتوكل على الله”.
لم يواجه محمد مبارك الهاجري اي صعوبة في تقبل والديه لاختياره كلية المحاسبة، بل ان والده شجعه على ذلك لايمانه برغبة ابنه، بالاضافة الى تفوقه في مادة الرياضيات التي تعد اساسية في المحاسبة.
وارجع سبب اختياره للمحاسبة الى قلة عدد المواطنين الذين يلتحقون بهذا الاختصاص اضافة الى حبه لمادة الرياضيات التي هي من أهم متطلبات المحاسبة.
تجربة إجبار: اما خالد سعيد فله تجربة خاصة في هذه القضية، يستعيدها معنا بقوله “كان حلمي ان ألتحق بكلية التصاميم الداخلية، وموهبتي في الرسم والتصميم تؤهلني للنجاح في هذا الاختصاص، بل والابداع في مجال العمل مستقبلاً، هكذا كنت أعتقد، ولكن رغبة والدي كانت في دخولي كلية الصيدلة التي لم اتخيل نفسي فيها يوماً، حاولت كثيراً اقناعه، ولكنه لم يستجب، ووجدت نفسي مجبراً على دراسة الصيدلة، دخلت القسم، ووجدت صعوبة كبيرة في تقبل المواد واستيعابها مما ترتب عليه تدني مستوى تحصيلي الدراسي، ومازلت اعاني كيفية رفع معدلي التراكمي، حتى إنني لا اعرف ان كنت سأستطيع المواصلة في هذا الاختصاص ام لا”.
تقنية المعلومات هي الاختيار الذي أجمعت عليه العائلة والابنة معاً، هكذا قالت علياء محمد علي، فهي وأسرتها متفقون على ضرورة ان يتوافق الاختصاص الذي يلتحق به الطالب مع رغباته وميوله وامكاناته، مما يضمن له النجاح والتفوق في المرحلة الجامعية، ومن ثم التوفيق بل والابداع في حياته المهنية، من هنا كانت الطريق ميسرة امام علياء، خاصة ان اختيارها لتقنية المعلومات جاء بعد اهتمامها طوال السنوات الماضية بالحاسب الآلي اضافة الى امتلاكها الامكانات والمهارات التي تؤهلها للنجاح فيه، وأضف لذلك كله تشجيع عائلتها لاختيارها واخذهم بيدها ليس فقط في هذه الخطوة، بل من بداية مسيرتها التعليمية.
مطلوب مساحة: بداية شرح احمد عادل القدرة وجهة نظره حول تدخل الأهل في اختيار الابن لمهنة المستقبل قائلا “يجب ان يعطي الآباء ابناءهم مساحة كافية تتناسب مع ميولهم وقدراتهم التي يعرفها الوالدان تماماً، ليستطيع الابناء اتخاذ القرارات التي تحقق طموحهم، وعليه يكون تدخلهم ضمن حدود معينة تقتصر على توضيح سلبيات وايجابيات الاختيار سواء في مجال الدراسة او طبيعة العمل، ليكون الابن على دراية تامة بما ينتظره في الجامعة”.
ويوضح احمد رأيه: “للوالدين الحق في طرح خيارات اخرى ولكن من باب التبصير لا الفرض مع الوضع في الحسبان لدى كلا الطرفين قدرات ومهارات الطالب صاحب التجربة”.
اما عن تجربته فيقول احمد: انا شخصيا افاضل بين طب الأسنان والهندسة، بالاضافة الى خيارات العائلة التي استبعدت بعضها نهائياً لعدم وجود ميول عندي لدراستها او العمل بها مستقبلاً، ليستمر بعد ذلك البحث عن الأنسب في جميع الاتجاهات من حيث التخصص والجامعة الأقوى أكاديمياً، فهو قرار يجب ان يأخذ وقته في التفكير والبحث دون التحيز لمن سيكون القرار النهائي.
اما ميرة سعيد فاختارت تخصصاً تضمن فيه رضا الاهل والمجتمع ايضاً، فقد قررت الالتحاق بكلية الشريعة والقانون، الاختصاص الذي تعلم تماماً انه يناسبها كفتاة مسلمة يجب ان تتعلم شريعة دينها مما سيعود عليها وعلى عائلتها ومحيطها بالفائدة.
وتؤيد ميرة تدخل الاهل في مثل هذه القرارات المصيرية وذلك حرصاً على مصلحة اولادهم.
انتصار: محمد علي ارحمة استطاع اقناع والديه بدراسة تخصص نظم المعلومات الذي كان يتمنى الالتحاق به طوال سنوات الدراسة، وعن ذلك يقول “قدم لي اهلي مجموعة من الخيارات لعدة تخصصات لم يكن نظم المعلومات أحدها، في حين انها رغبتي الوحيدة، لذا لم أتنازل عن حلمي وبدأت محاولاتي في اقناع أبي، وقدمت له أسباب اختياري لهذا التخصص، وحدثته عن مدى تعلقي به، ووعدته بالنجاح والتفوق في التخصص الذي طالما تمنيته”.
ويضيف: “بدأ والدي يستجيب لرغبتي، واكتفى بنصحي بالتأكد من ان هذا الاختصاص هو ما يناسبني، والذي سأحققه فيه النجاح، فاستمعت لنصيحته وقلت له ان المستقبل القريب سيثبت له حسن اختياري ان شاء الله”.
مسؤولية الآباء: يجب ان يتولى اولياء الامور شؤون ابنائهم، حقيقة نعرفها جميعاً، ويفهمها كل منهم بطريقته الخاصة، وموسى مصطفى ابو غالي يعرف تماماً متى يمنح الفرصة لابنائه لإبداء آرائهم، ومتى يجب عليه اتخاذ القرار وحده، وهذا ما أكدته تجاربه العديدة مع ابنائه الذين اجتاز معظمهم المرحلة الثانوية، وفي ذلك يقول: “فوجئت يوماً باختيار ابنتي في الصف الثاني الثانوي للقسم الادبي وهي الاولى على صفها وحاصلة على اعلى الدرجات في المواد العلمية فوجدت حينها انه من الواجب عليّ تعديل مسارها وهي غير القادرة في هذا العمر على معرفة الانسب لها، فانتقلت بعد ذلك الى القسم العلمي الذي حققت فيه نجاحاً كبيراً فيما بعد”. ويضيف موسى “وجدت نفسي مضطراً للنزول عند رغبة ابنتي حين ارادت الانتقال من قسم الهندسة التي كنا قد اقنعناها به الى طب الأسنان، حيث قالت لنا انها التحقت بكلية الهندسة فقط بهدف ارضائنا، حينها استجبت لرغبتها خاصة وانها في هذه المرحلة تمتلك الوعي الكافي الذي يضمن حسن اختيارها”.
ويمر موسى بنفس التجربة هذا العام مع ابنه طارق الذي أنهى دراسته الثانوية حاصلاً على نسبة 99،3% ليتفقا معاً على ان يبقى اختياره ما بين الطب والهندسة.
لا تنكر نادية احمد محمود والدة نجلاء رغبتها في التحاق ابنتها بكلية الطب في حين ترغب الابنة في دراسة برمجة الكمبيوتر وعليه حاولت اقناع ابنتها من خلال شرح مزايا وعيوب كل اختصاص على حدة، موضحة ان الاقبال الكبير على دراسة الكمبيوتر سيقلل من فرص العمل امام نجلاء في المستقبل، ضمن هذه الحدود كان تدخل الأم التي بينت لنا أهمية دورها في هذه المرحلة المهمة في حياة ابنتها فقالت: أعي تماماً واجباتي في المراحل العمرية المختلفة لأبنائي ومن ثم حقوقي عليهم، لذا فأنا اطرح رأيي وأنصح ابنائي وأوجههم، ولكن دون ان أصل لحد الاجبار حتى لا يلومني احدهم يوماً، اذا تعرض لأي فشل لا سمح الله، لذا فأنا أترك لهم حرية الاختيار في النهاية.
التوجيه فقط: اما سعيد الشامسي فلا يجد مبرراً يدفع اولياء الامور لاجبار ابنائهم على أي شيء وليس في اختيار التخصص الجامعي فقط، فيقول ان حق الآباء في التدخل في شؤون ابنائهم، لا يمكن ان يصادره احد منهم فهم من ربوا وتعبوا وبذلوا كل ما في وسعهم لأجل ابنائهم، ولكن يخطىء بعض الاهالي حين يعتقدون ان تدخلهم يعني مصادرة احقية الابناء في ابداء آرائهم في القرارات المصيرية في حياتهم، وعليه يجب ان يقدر الآباء حجم التدخل المطلوب وموقعه قبل اصدار اي قرار.
وعن نفسه يقول سعيد “لم أجبر يوماً ابنائي على شيء خاصة في القرارات المصيرية في حياتهم لأنني مؤمن ان لكل منهم حياته الخاصة التي من حقه ان يحدد معالمها، ودوري هو التوجيه والوقوف إلى جانبهم”.
في عنق الزجاجة: بعيداً يقف المختصون موقف الحياد، ليعطوا صورة اكثر شمولاً للمشهد.. شبه محمد عبدالعزيز الباهلي موجه الخدمة الاجتماعية في منطقة الشارقة التعليمية مرحلة الثانوية العامة بعنق الزجاجة، قائلا: “إنها تمثل انتقالة في حياة الطالب وعليه يجب الاهتمام بها جيداً من قبل المدرسة والطالب واولياء الامور، فجميعنا مسؤولون هنا، ولكن على كل منا ان يعي مسؤولياته تماماً دون الخلط فيما بينها، كما يفعل البعض، فالمدرسة من مهامها تأهيل الطالب علمياً وتربوياً لاجتياز هذه المرحلة بنجاح، والطالب عليه بذل الجهد والاستفادة مما تقدمه له المدرسة والاسرة معاً، اما اولياء الامور فهم اصحاب الدور الاساسي من بداية التنشئة، ليكون الطالب بعد ذلك مؤهلاً لمرحلة جديدة في حياته وهي المرحلة الجامعية”.
ويضيف الباهلي في هذه المرحلة يجب ان يعطى الطالب مساحة كافية لابداء رأيه وتحديد رغبته في اختيار التخصص الجامعي الذي سيلتحق به، على ان يقتصر دور اولياء الأمور على التوجيه والنصح، وفي بعض الاحيان لا مانع ان يصل الى حد الاقناع على ألا يتعدى ذلك، فالاجبار غير مناسب في هذه المرحلة العمرية التي سيقبل فيها الطالب على الحياة الجامعية، فلا يمكن ان يستمر الأهل في تحديد الخيارات الرئيسية لابنائهم، فكثيراً ما يؤدي الاجبار الى فشل الطالب وفي احسن الاحتمالات الى جعله سلبياً غير منتج وعليه يجب ان يراعي الآباء خصوصية هذه المرحلة ويعوا دورهم تماماً دون الخلط بين ما لهم وما عليهم.
آثار نفسية: قدمت لنا منال التيجاني اخصائية علم نفس في مركز الارشاد الجامعي في جامعة الامارات ثلاث صور للطالب تشرح حالاته المختلفة في هذه المرحلة الحرجة، مبتدئة بحالة الطالب النفسية اذا تم اجباره على دخول تخصص لا يريده، حينها سيعيش صراعاً.. هل يرضي أهله؟ ام يحقق طموحه؟ وفي حالة استجابة الطالب لرغبة الاهل، فإنه سيشعر بعدم الدافعية للدراسة وفي بعض الاحيان سيكون ساخطاً عليهم، بل انه عند اول تعثر دراسي سوف يلقي اللوم على والديه كتبرير لفشله، وهو ما يطلق عليه في الطب النفسي ب”مكنزمات الدفاع”. اما الصورة الثانية فتتحدث عن نوع آخر من الطلاب هم الذين يوكلون اهلهم باتخاذ القرارات المصيرية في حياتهم بسبب عدم ثقتهم بأنفسهم، وعدم قدرتهم على تحمل المسؤولية وفي هذه الحالة تكون النتيجة تضاعف الشعور بالسلبية وعدم الثقة بالنفس.
اما الصورة المشرقة فهي للطالب الذي التحق بالتخصص الذي يوافق ميوله وقدراته والتي ستعينه على تحمل اعباء الدراسة ومواجهة ما سيقابله من صعوبات كل ذلك في سبيل تحقيق طموحه الذي طالما حلم به.
وهنا تقول منال التيجاني: يجب ان يتلمس الآباء دواخل ابنائهم وقدراتهم ليساعدوهم على التوصل لما يحقق ذواتهم وليس العكس.
واحة الطالب: ولأن القرار ليس سهلاً ومسؤولية تحديده كبيرة، كان لابد من مساهمة الجامعة احد اطراف القضية، والمتمثلة في التخصص الجامعي في حل هذه المعادلة، من هنا كان تأسيس مركز الارشاد الجامعي في جامعة الامارات ضرورة يحتاجها الطالب قبل الانخراط في الحياة الجامعية، لذا توجهنا الى هناك لنعرف اكثر عن دور هذا المركز ونلتقي هناك بمريم المزروعي اخصائية ارشاد في المركز والتي قالت: “ينقسم دورنا الى قسمين احدهما قبل الالتحاق بالجامعة والآخر بعد دخولها، اما في المرحلة الاولى فنقوم بارسال دعوات لجميع مدارس الدولة الحكومية والخاصة لارسال طلبة مرحلة الثانوية العامة لزيارة الجامعة والتعرف الى الكليات والتخصصات والخدمات التي تقدمها، وتهدف هذه الزيارة الى اعطاء الطالب صورة عامة عن الحياة الجامعية، اما بعد الالتحاق بالجامعة يكون الدور الأكبر لمركز الارشاد الجامعي ليقوم بمساعدة الطالب في تحديد ميوله وما يناسب قدراته ومؤهلاته من تخصصات، والجدير بالذكر ان مركز الارشاد طرح مع بداية العام الدراسي 2003 - 2004 برنامج “واحة الطالب” وهو يساعد الطلبة على التعرف الى مهاراتهم وميولهم وقدراتهم ومن ثم تحديد ما يناسبهم من تخصصات.
وتضيف مريم “نحن نسعى بكل ما نملك من امكانات للوقوف الى جانب الطالب ومساعدته لاجتيار هذه المرحلة الحرجة من حياته بنجاح”.