سيره سرديه عن غسان كنفاني
سيرة غسان
---------------------------------------------
" رغم كل شئ فقد كان " غسان " رومانسيآ وعاطفيآ ومناضلآ سويآ في آن واحد "
يمضي شريط الذكريات في ذهن غسان مفعما بحكايات الطفولة , حكايات ولدت معه عام 1936 , وروتها المياه لمروج عكا .
تلك المدينة الشامخة علي تراب فلسطين . ما أروع صورة والده المحامي وهو يترافع عن المظلومين في ساحات العدل . تتابع علي شريط الذكريات صور ناطقة بمعاناة المظلومين في عهد الانتداب البريطاني . كانت الأراضي تتساقط من أيدي أصحابها ولا يحق لهم حتي أن يقولوا لا . وسط هذا الجو المأساوي كان صراخ غسان الرضيع يعلو وهو بين ذراعي أمه التي كانت تهزه قائلة : ما بالك تصرخ .. اصمت قليلا .. كفاك بكاء . فيرد عليها والد " غسان " المحامي قائلا بنبرة عميقة الأبعاد : اتركيه يصرخ .. دعيه يوقظنا .. فالنوم حرام علينا ومن حولنا الظلم يكشر عن أنيابه والسجون قد فتحت أبوابها للجميع . كان " غسان " يصرخ مثل باقي أبناء شعبه وأهله في فلسطين , وكان والده يستمع لصراخه وكأنه يستمع لصراخ الآلاف من المظلومين الذين يلجأون إليه بحثا عن العدالة المفقودة , وكلما نجح في رفع الظلم عن أحد المظلومين عاد إلي بيته راضيا هانئا يحمل طفله ويهدهده ويؤمن له الألعاب التي تجعله يبتسم ولو لساعات ذلك النهار الذي حقق فيه بسمة علي شفتي مظلوم من أبناء شعبه المكبلين بالقيود .
وهكذا شب الطفل " غسان " يبتسم بقدر ما يحقق والده من ابتسامات للمظلومين , ويربط " غسان " في حياته بين عدد الابتسامات التي رسمها علي وجهه منذ أن كان طفلا وعدد القضايا التي رسم فيها والده البسمة علي الوجوه بعد مرافعات ناجحة من مرافعاته المحكمة في بلاغتها وحججها , الأمر الذي جعل " غسان " محبا للغة وبلاغتها , متعلقا بالحجة والمنطق في قول الحق . جعلها سلاحه المنفصل . لكنه لم يحب أن يكون مجرد محام في قضية جزئية, بل اختار الدفاع عن قضية الحق , قضية وطن ضاع , وبضياعه شردت الأسر وتشتت في بقاع الأرض .
كان " غسان " ممن فتحت لهم أبواب العيش في منطقة الخليج لتكون إحدي محطاته يدافع فيها عن حقه وحق أهله وأهل ديرته في العودة والتحرير بعد أن لجأت أسرته إلي لبنان ثم دمشق تاركه كل أملاها في عكا للمغتصبين الجدد ..
واختار " غسان " الصحافة وميدان الكتابة منبرا يشحذ فيه الكلمة سلاحا من أجل فلسطين .
وفي وقت الذي بزغ نجمه الفلسطيني في عالم الكلمة والأدب , كان شقيقه " مروان " قد نجح في دراسة القانون والمحاماة في جامعة القاهرة , وبزغ نجمه في كرة القدم كواحد من أفضل حراس المرمي في قارتي آسيا وإفريقيا خلال النصف الثاني من الستينات , وأثبتا أن العربي الفلسطيني ليس مخلوقا من عدم , ولن يكون مجرد لاجئا مشردا , بل هو حي لم يمت , ينتظر العودة إلي الوطن بشبابه النابغ في كل ميادين الحياة , من الرياضة إلي الأدب .
تلك كانت رسالة أولي تعشعش داخل الأعماق الحزينة لكل مهاجر فلسطيني نزح وطنه مشردا لاجئا إلي الأوطان الشقيقة ضم الوطن العري الكبير .
أما الرسالة الثانية التي آمن بها " غسان " وشقيقه " مروان " هي جمع الكلمة وحشد الطاقات الشابة والقادرة علي الالتفاف حول هدف العودة والتحرير , تحرير فلسطين من المغتصبين فكانا عضوين فاعلين في النقابات الشبابية مع الطلائع المثقفة .
" غسان " عضوآ بارزا في اتحاد الكتاب والصحافيين الفلسطينيين منذ أوائل الستينات وشقيقه " مروان " عضوا نشطا في اتحاد الطلبة الفلسطيني وهي النقابة التي تعتبر الأولي من نوعها بعد سنوات النكبة والتشرد , منذ أن تشكلت رابطة الطلاب الفلسطينيين في القاهرة عام 1953 م .
لكن سهام " غسان " النافذة لم تقف عند حد جمع الشتات الفلسطيني وجمع الكلمة والرأي في سائر أنحاء الوطن العربي , بل امتدت إلي شعوب العالم المتقدمة في أوروبا , ونفذ إليها من خلال التصاقه بالنقابات الدولية للكتاب والصحافيين التقدميين في أوروبا , وتعمق ارتباطه بهذا البعد الدولي عندما عقد قرانه علي مناضلة دانمركية , مثقفة , وجعل من ارتباطه بها حلقة من حلقات النضال الاجتماعي في مواجهة الالتفاف الصهيوني العالمي علي الرأي العام الأوروبي .
زواج كهذا لا يمكن أن يكون أمرآ عاديآ أو بعيدا عن حلقات الصراع الحضاري الطويل المدي بين الطلائع العربية القائدة لأمتنا العربية , وبين حركة الصهيونية العالمية , وهو لا يختلف في هذا الأمر عن علاقة الزواج العاطفية والإنسانية التي تمت فصولها في القاهرة بين شقيقه " مروان " وزميلته في الجامعة " نجوي" التي أصبحت واحدة من أفضل المذيعات التلفزيونيات في العالم العربي خلال السبعينيات .
كان مؤلما هذا النهج في التفكير لدي المتربصين بكل فكر يشق الطريق إلي فلسطين , وكان شعورهم بخطورة " غسان " تماما مثل شعورهم بخطورة أن يكون شقفيقه " مروان " نجما محبوبا للجماهير الرياضية المحبة لكرة القدم في العالم العربي . فبدأت الحرب ضدهما .
لم تكن حربا ضد شخصين هما " غسان " و" مروان " بل كانت حربا ضد رمزين لهما أبعادهما القومية والوطنية .
ولم يكن غريبآ أن تنطلق بعض الآقلام تدين " مروان في حادثة كروية رياضية , وتدس له من موقعها الإعلامي , وتبث الفتنة لإحياء بذور الوقيعة والخلاف بينه وبين نصبه الإنساني الثاني .
أما " غسان " فقد وهموا عندما ظنوا أن فكره سيواري التراب مع جسده , وكانت المؤامرة .. وكانت الخطة المحكمة في الثامن من يوليو عام 1972 .
يوم اغتالته ايدي الصهيونية المجرمة . أدار محرك سيارته لتنفجر قنبلة المؤامرة .. لكنه لم يمت ... !! لان روحه باقيه يبقي " غسان " مبعث الأمل لشعب حاصره أخطبوط اليأس .. وتبقي آثاره نبراسا للأجيال . ككاتب وناقد وقاص وروائي مقدام .
وقد باحت أديبة النساء العربيات " غادة " برسائل الحب التي تبادلتها مع " غسان " الذي لم يمهله الدهر زمنا كافيا ليمتعنا بكل ما حباه الله من موهبة الإبداع الأدبي وان كانت رسائل الحب ما بين " غادة " و" غسان " هي , اكتشاف جديد في شخصية " غسان " – الإنسان المهذب الشهيد , والمحب الرومانطيقي – المحبوب – والمناضل الملتزم الأصيل .