المطلوب من الحكومات الإسلامية
عبد الستار قاسم
يزحف الإسلاميون إلى الحكم في عدد من البلدان العربية، وهم الآن محط الأنظار في انتظار ما يصنعون. لقد جادل الإسلاميون على مر الأيام أن كل النظريات المستوردة قد سقطت ومعها فشل القوميون والقُطْريون، ولن ينجح في حكم بلاد العرب إلا الإسلام معتبرين أنفسهم الفرسان المنقذين. وقد امتد هذا الرأي إلى الشارع العربي بحيث من السهل أن يلمس المرء موقفا شعبيا يقول إن مستقبل الأمة مرتبط بالإسلام، ولا أمل في التقدم والمساهمة في الحضارة العالمية إلا إذا ساد حكم الإسلام.
لحظة الحقيقة قد حلت، وها هم الإسلاميون يشكلون حكومات، ومن المتوقع أن يشكلوا أخرى في عدد من الدول العربية. جماهير العرب تنتظر التجربة الإسلامية، ولا شك بأن دولا كثيرة تراقب عن كثب لترى صنيع الإسلاميين. فهل سينجحون؟ من موقعي كمتخصص في الفكر الإسلامي (وليس في الفقه الإسلامي) أرى أنه من المهم أن يأخذ رافعو الراية الإسلامية الأمور التالية بعين الاعتبار والتي يمكن أن تساهم في إقامة حكم يدفع بالأمة إلى الأمام:
معرفة الحاكم بالماديات
من الملاحظ أن هناك من يعرفون بالأمور الشرعية، لكن معرفتهم بالأمور المادية ضعيفة جدا مما يضعف قدرتهم على التعامل مع الناس وإدارة شؤونهم وترتيب علاقاتهم. إنهم متبحرون بالقضايا الشرعية ولديهم حصيلة واسعة من الأحاديث، ويحفظون أجزاء من القرآن الكريم، لكنهم لا يعرفون الكثير من العلوم المادية والذهنية مثل علم الاجتماع والفلسفة وعلمي السياسة والاقتصاد والمنطق والإدارة. طبعا لا يمكن إدارة شؤون الناس بمجرد المعرفة بأحكام الصلاة أو الوضوء أو الحج، أو أحكام الطلاق والزواج والنفقة، الخ. يتطلب الحكم معرفة واسعة بالفلسفات العالمية، وبالعلوم المختلفة إذا أراد المسلم أن يكون قادرا على تطبيق ما يؤمن به بطريقة علمية ممنهجة وتؤدي إلى ترتيب العلاقات العامة بطريقة سلسة تستقطب اهتمام الجمهور ومشاركاتهم ومساهماتهم.
من المفروض أن يتمتع الحاكم ومعاونوه بمعرفة واسعة متشعبة تمكنه من مخاطبة الناس على مختلف مستوياتهم العلمية والاجتماعية والاقتصادية، وعلى اختلاف مللهم وأفكارهم وآرائهم.
العدل أساس الحكم
يسود الإسلام بالعدل، ويغرب المسلمون عن الحكم بالظلم والاستبداد والاستعباد. الإسلام لا يقوم على القهر أو الكبت أو القمع سواء للمسلمين أو غير المسلمين، وإنما يقوم على العدل والحرص على كرامة الناس وحسن التوزيع ومشاركتهم في صناعة القرار. وفق النصوص الإسلامية، الصراع مستمر بين الحق والباطل، وهو صراع إلغائي وليس قهريا، وذلك بالحجة والدليل والبرهان والإثبات العلمي. يسود الحق من خلال تقديم البينات والأدلة، وليس من خلال أجهزة أمن تراقب الناس وتلاحقهم وترصد أقوالهم وتتخذ إجراءات عقابية ضدهم. وإذا أقام أهل الإسلام العدل فإن دعوتهم ستصل بقوة إلى الناس جميعا، وستكون موضع استحسان وإعجاب، وإذا فشلوا في ذلك فإنهم سيقطون كما يسقط الحكام الظالمون.
العدل في الإسلام أوسع نطاقا من الإنصاف والمساواة والقسط، وهو يشمل الأمور المادية والمعنوية. ولعل هناك من يقدر بأن العدل في الأمور المعنوية يستحوذ أحيانا على أهمية أكبر من العدل في الأمور المادية. ويجب ألا يظن أحد بأن مجرد رفع شعار الإسلام ستصبح الطرق معبدة نحو نجاح الإسلاميين في إقامة العدل.
بين الفكر والفقه
ساد الفقه الإسلامي عبر القرون وتراجع الفكر مما أدى إلى تراجع الأمة بصورة عامة ووصولها إلى ما وصلت إليه من الذل والهوان. انشغل المسلمون بقضايا الفقه أو الحلال والحرام، وعزفوا عن قضايا الفكر أو الحق والباطل، أوسعوا في التفاصيل الفقهية مما عقّّد حياة المسلمين وشعائرهم وسلوكهم اليومي، وحول الإسلام إلى حد ما إلى دين كهنوتي بدل أن يكون دينا عمليا يضع بصماته دائما على أرض الواقع. لقد أدخلت التفاصيل الفقهية التي في أغلبها اجتهادية تفتقر إلى تأييد نصي المسلمين إلى حالة من الهلع الأخروي بحيث ترك العديد من الناس أمور الدنيا ليسلموها إلى أناس طغوا وبغوا في الأرض. الدين الإسلامي ليس دينا كهنوتيا أو رهبانيا، ويجب إخراج الناس من حالة الاستكانة إلى حالة العمل والنشاط.
في ذات الوقت، عزف المسلمون عن قضايا الحق والباطل وهي المتعلقة بالبحث العلمي والمنهجية العلمية لاكتشاف آيات الله، والتي هي الحقائق الكونية التي أوجدها الله سبحانه وتعالى وتحكم علاقات الكائنات والأشياء بعضها ببعض. وهذه هي الآيات أو النواميس أو القوانين الكونية التي ركز عليها أهل الغرب فاكتشفوا بعضها وطوروا التقنية وقدموا الجديد للناس في كل أنحاء الأرض. وما دام المسلمون يؤمنون بأن دينهم هو الحق، فهم الأولى بتخصيص الميزانيات الكبيرة للبحث العلمي ودعم العلماء والباحثين، وبهذا يستطيعون الوصول إلى الحقائق التي تدحض الباطل.
يدعو هذا المسلمين أو الحكومات الإسلامية في طور التشكل إلى التركيز على ثلاثة أركان إسلامية جوهرية وهي العلم والعمل والجهاد، حيث بهذه الأركان تقوم الأمة وتتقدم. صحيح أن الشعائر تفرش الأرضية الأخلاقية أو الحوافز التي تدفع بالمسلم نحو العلم والعمل والجهاد، لكنها تبقى غير قادرة على بناء الأمة إذا خلت من محتواها الأخلاقي، أو إذا عجز الناس عن ترجمة محتواها الأخلاقي على أرض الواقع. العلم والعمل والجهاد أركان من صلب الفكر الإسلامي، ولا توجد إمكانية للتقدم إذا انفصل الفقه عن الفكر.
هذا ويبقى الفكر مرجعية الفقه لأن الفكر يختص بالعلاقات الكونية، أما الفقه فيختص بالعلاقات الإنسانية. العلاقات الكونية، أو الكليات الكونية أوسع من الكليات الإنسانية، وهي تعبر عن قدر الله سبحانه أو القوانين الثابتة، أما العلاقات الإنسانية فأكثر تحديدا، وحيث أنها جزء من العلاقات الكونية الكلية فإنها لا يمكن أن تتعارض معها. فإذا طرأ خلاف اجتهادي بين المسلمين حول مسألة فقهية فإنه من الضروري ردها إلى الحقيقة العلمية التي توصل لها الفكر، إذ الفكرة المبنية على أساس علمي أقوى من الفكرة المستندة إلى التخمين. وهنا لا بد من التذكير بان القرآن يشمل على مئات الآيات التي تدعو إلى العلم، وهي آيات ضمن البعد الكوني، ويشتمل على آيتين حول لباس النساء وهما ضمن البعد الإنساني. لقد شغلت آيتا اللباس المسلمين كثيرا بينما بالكاد تشغل بالهم مسألة الرقي العلمي بالجامعات ومراكز الأبحاث.
الحرية الخَلْقية والحرية الاجتماعية
الحرية في الإسلام خَلْقية وليست اجتماعية أو تارخية. صحيح أن القرآن الكريم لم يقدم تشريعات مباشرة حول الحرية، لكنه لم يقدم تشريعات أبدا حول القضايا الخَلْقية. لم يرد تشريع أن على المسلمين أن يأكلوا لأنهم يأكلون بالطبيعة او بالخَلْق، ولم يأمرهم بالتنفس لأنهم يتنفسون بالطبيعة أيضا. لكنه أمرهم مثلا بأكل من طيبات ما رزقهم، وهذا أمر له علاقة بسلوكيات الأكل وليس بفعل الأكل نفسه. لم يشرع الله سبحانه حول الحرية لأنها خَلْقية، وهي من فطرة الإنسان. خلق الله للإنسان القدرة على التمييز، وهو بذلك يملك القدرة على الاختيار، ولهذا هو مسؤول، وعلى ذلك سيحاسب.
القهر والكبت ممنوعان في الإسلام لأن في ذلك اعتداء على خَلْق الله، وكل من يعمل على كبت إنسان إنما لا يعمل ضد التشريع وإنما يعمل ضد الخلق. العمل ضد الخلق عبارة عن عمل ضد قانون كوني كلي، وليس مجرد عمل ضد تشريع له حيز إنساني. ولهذا لا يمكن أن يكون الإنسانة المقهور مسؤولا لأنه لا يملك أمره او لا يملك حريته، والإثم على من لا يحترم حرية الإنسان.
أما وقد أنظر الله سبحانه إبليس ليوسوس ويحشد مناصريه وأعوانه وينظم صفوفهم، فإن الإنسان ليس أشد خطرا على الإسلام من إبليس. وفي الحرية ما يسمح للمسلمين لمعرفة كيف يفكر الآخر، ويفتح المجال لتطوير الجدل الإسلامي والحجج الإسلامية.
حرية الإنسان لا تشمل فقط قول الرأي أو التنقل أو اختيار العمل المناسب، وإنما تشمل أيضا حرية تكوين الرأي. أي على الحاكم المسلم أن يوفر مختلف المعلومات للناس لكي يتمكنوا من تكوين الرأي بشكل سليم. وقد أمر الله المسلمين ان يتبينوا إن جاءهم فاسق بنبأ، وقال إن الذين يكتمون البينات كمن تغلي في بطونهم النار. وإذا مارس الحاكم المسلم التضليل، فإنه يفقد صدقيته ويتحول إلى مجرد هيكل للتندر والسخرية. وهذا يعني أن الصحافة الحزبية التي تنشر ما يطيب للحزب فقط ممنوعة إسلاميا.
الحرية في الإسلام أكثر اتساعا من الحرية في الديمقراطية، لكن العكس هو الذي بدا عبر الزمن لأن عادات وتقاليد الشعوب الإسلامية تتنافى مع الحرية الإسلامية، فقلبوا الإسلام بالطريقة التي تتناسب مع رؤيتهم التراثية للإنسان. الحرية في الديمقراطية تاريخية اجتماعية، وتقوم على التحررية (الليبرالية) والفردية، لكن الحرية في الإسلام تنبثق من تكريم الله للإنسان. ولهذا من المهم أن يتوقف الحاكم المسلم عن الترويج للإسلام من خلال دمقرطته. الحرية في الإسلام تشمل حرية تكوين الرأي وفتح المجال أمام انبثاق الطاقات الإنسانية للتظور وتتبلور، وتشمل نظاما انتخابيا يجنب الناس الغبن والوقوع في فخ الضلال.
التعصب
التعصب آفة قاتلة في حياة الشعوب، والإسلام بريء منه ويحظره. يأمر الله سبحانه بالعدل بين الناس وليس بين المؤمنين فقط، والرسول عليه السلام يأمر بعدم الغش إطلاقا سواء كان المستهلك مسلما أو غير مسلم. الإسلام يدعو إلى التعامل مع الآخرين باللين والحكمة والموعظة الحسنة. ولهذا على الحاكم ألا يتصرف بأنه حاكم لمسلمين فقط، وإنما حاكم لكل الشعب بكافة أطيافه، وعليه ألا ينتقص من حق أحد.
المعنى أن على الحاكم المسلم أن يوفر الفرص للجميع، وألا يجعل الوظائف الحكومية حكرا على المسلمين، وألا يوظف المال العام لخدمة أصحابه فقط. المال مال الناس والوظائف للناس، والكفاءة هي معيار الوظيفة وليس الدين او الجنس أو العرق. التعصب أعمى ويضعف المسلمين، ويدفع الآخرين للعمل ضد الحكم القائم، ومن الضروري ألا يمارس الحاكم المسلم ذات الممارسات التي ثار ضدها الإنسان العربي.
عقدة المرأة
قمت ذات مرة بعد الآيات القرآنية التشريعية في القرآن الكريم بما في ذلك الأوامر والنواهي المكررة وأنا معتقل لدى الإسرائليين فوجدت أنها تناهز الأربعمائة آية. الآن لدينا حوالي أربعمائة تشريع حول لباس المرأة. ربما يعود السبب إلى أن العرب ينظرون إلى المرأة تقليديا نظرة غير سوية وبعيدة عن النظرة الإسلامية. هناك آيتان في القرآن الكريم حول لباس المرأة إحداهما موجهة للرسول عليه السلام وتشكل حكما مطلقا وتتضمن تغطية الجيوب، والثانية موجهة للنبي عليه السلام وهي ظرفية مرتبطة بعلة وتتضمن دنو الجلابيب أو بعضها. لكن لباس المرأة يشغل بال المسلمين أكثر من مسائل التنمية الاقتصادية، وأكثر من مسألة نهب المال العام والفساد الإداري. تجد المتدين مسهبا في الحديث عن شعر النساء، لكنه يلوذ بالصمت إذا سأله أحد عن قمع المخابرات للمواطن.
الاحتشام مطلوب من كل من الرجل والمرأة، ومن الضروري أن ندرك أن القرآن خاطب الرجل والمرأة على قدم المساواة، ولو كان عقل المرأة صغيرا وكانت قاصرة، لكان لدينا قرآنان، أحدهما للرجال الذين يفقهون، والآخر للنساء القاصرات. خلق الله سبحانه المرأة والرجل من نفس واحدة، وخلقهما متكاملين تربطهما المودة والرحمة والسكن، ولم يكلف أحدهما بشيء لم يكلفه للآخر. المرأة مكلفة بالجهاد وتلقي العلم والإنفاق ودفع الزكاة والصلاة والصوم وحج البيت، الخ. فقط ميز الله المرأة في أنها المحطة الأخيرة لحفظ النوع، وميز الرجل بالقوامة التي تتضمن الحرص على الأمن. وإذا كان هناك من تشريعات تميز بها كل طرف فذلك له علاقة بالتركيب الفسيولودجي وليس بالمكانة الاجتماعية أو العقلية أو التكليفية. وإذا كانت الشهادة تشمل امرأتين ورجلا فذلك لأسباب اجتماعية وليس خَلْقية لأن الآية الخاصة بالشهاد ظرفية مرتبطة بعلة.
هناك فتاوى حول المرأة تعتدي على التشريع الإسلامي وعلى الفكر، ومن المهم أن تأخذ الحكومات الإسلامية القادمة هذا الأمر بعين الاعتبار. التشريع الإسلامي لا يسمح بالمجاملات ولا بدخول الأهواء، وعلى الحاكم المسلم أن يكون حارسا أمينا لا مهادنا لفتاوى ما أنزل الله بها من سلطان. وعلينا أن ندرك أن النساء نصف العالم، ولا أرى أمة مشغولة بالنساء مثلما ينشغل بهن العرب.
الميثاق مع الآخرين
تفوز الحركات الإسلامية في الانتخابات النيابية التي تجري في البلدان العربية وفق الأسس الديمقراطية للانتخابات، وهي في ذلك في ميثاق صريح مع القوى السياسية الأخرى على أن الحكم يتم ترتيبه وفق ما تفرزه الانتخابات، وأن قواعد وأسس هذه الانتخابات يجب أن تُحترم من قبل الجميع. لقد اتفق الجميع على اللعبة الديمقراطية والتزموا بها، وبهذا تكون الحركات الإسلامية قد دخلت في ميثاق مع مختلف القوى السياسية على احترام النهج الديمقراطي قبل الانتخابات وأثناءها وبعدها.
إسلاميا، لا يجوز نقض الميثاق مع الآخرين إلا إذا نقضوه هم أو ألغوه أو ناقضوه أو انتهت مدة سريانه، وعلى الحركات الإسلامية من الناحية الشرعية أن تلتزم بما اتفقت عليه مع الآخرين ضمنا أو صراحة. أي أنه من المطلوب أن تلتزم الحكومات الإسلامية القادمة بما شرّع الله سبحانه، وأن تراعي أن التزامها يوفر لها مصداقية في مختلف الأوساط، ويجمّل وجه المسلمين، ويساهم في نشر الفكرة الإسلامية. وإذا رأت الحركات الإسلامية أن النظام الديمقراطي الانتخابي يعتوره خلل وثغرات فإن عليها تقديم بديل يقتنع به الآخرون ويوافقون عليه.
الموقف من إسرائيل والولايات المتحدة
لقد أذاقنا أهل الغرب وبالتحديد الولايات المتحدة الذل والهوان، وأذاقتنا إسرائيل الهزائم المريرة المتكررة. وإذا كان لدولة عربية أن تكون مقنعة للجماهير العربية فعليها أن تكون واضحة في موقفها من الغرب عموما والولايات المتحدة على وجه الخصوص، وهذا ينطبق على الحكومات الإسلامية.
إسلاميا، الاعتراف بإسرائيل والقبول بها حرام شرعا. إسرائيل تحتل أرضا عربية إسلامية وتنتهك المقدسات، ورفضها غير خاضع للجدل من الناحية الشرعية. أما العلاقات مع الدول الغربية فيجب أن تقوم على الاحترام المتبادل والمصالح المتبادلة. وبما أن هذه الدول بمجملها قد ظاهرت على إخراج الفلسطينيين من أرضهم ومكنت إسرائيل، وقامت باستعمار البلدان العربية وتمزيقها ونهب ثرواتها، فإن على هذه الدول أن تدفع ثمن ما قامت به. لا نستطيع الآن أن نغرم هذه الدول بسبب ضعفنا، لكن المسلمين مأمورون بالإعداد والاستعداد واكتساب القوة لكي يبقوا محترمين مهابي الجانب.