في عصر الباروك، أي الزمن الذي عاش فيه يوهان سيباستيان باخ، لم تكن الحياة سهلة أو مُريحة. لم تكن هناك أجهزة تدفئة أو راديو أو تلفزيون أو هاتف أو سيّارات أو طائرات. والقليلون فقط، أي أفراد الطبقة الارستقراطية، هم من كانوا يعيشون في راحة ويُسر. أما معظم الناس فكان عليهم أن يكدّوا ويكدحوا لساعات طوال يوميا كي يؤمّنوا عيشهم. الرعاية الطبّية كانت بدائية. والكثيرون كانوا يعانون تحت حكم الملوك والملكات والأباطرة. إذ لم تكن أفكار الحرّية والديمقراطية قد ظهرت بعد.
في ذلك الوقت أيضا، كانت مهنة الموسيقيّ مختلفة عمّا هي عليه اليوم. كان هناك فقط نوعان من الوظائف الموسيقية: إما العمل للكنيسة أو العمل لدى الأسرة الحاكمة. وعندما تحصل على وظيفة موسيقيّ، لم يكن مسموحا لك بأن تتركها إلا بعد موافقة صاحب العمل. باخ، مثلا، ترك الخدمة في بلاط فيمار ليلتحق بوظيفة أخرى فتشاجر مع الدوق ثم أرسل إلى السجن ليمكث فيه شهرا. كانت تلك هي المرّة الوحيدة التي عرف فيها السجن. ولم يكن وقته في السجن ضائعا، بل استمرّ يؤلّف الموسيقى وهو رهن الاعتقال.
عندما نتذكّر عصر الباروك فإننا نتحدّث عن فترة امتدّت من بداية القرن السابع عشر وحتى منتصف القرن الثامن عشر، أي حوالي مائة وخمسين عاما. هذا التحديد الزمني قد لا يكون دقيقا بالضرورة. لكنّه يمثل الحقبة التي كانت خلالها الفنون، من رسم ونحت وموسيقى ورقص ومعمار، تحمل نفس الملامح: التأثيرات الدراماتيكية الكبيرة، والحركات التعبيرية العنيفة، والأنماط المعقّدة، والألوان القويّة، والتباين الهائل بين الضوء والظلّ، والخطوط المتعرّجة والمزخرفة.
كان الباروك فترة رائعة بحقّ. كان عصر المغامرات والاكتشافات الكثيرة. الفلكيّون، أمثال كوبرنيكوس وغاليليو، كانوا يحدّقون في أعماق السماء ليكتشفوا أن الأرض تدور حول الشمس. و انتون ليفنهوك كان يكتشف عالما جديدا كليّا تحت عدسات الميكروسكوب: البكتيريا وخلايا الدم، وغيرهما كثير. و وليم هارفي كان يكتشف الدورة الدموية. وإسحق نيوتن.. الجاذبية. وكان جيمس كوك في طريقه لاكتشاف الجزر الجنوبية النائية في المحيط الهادئ.
http://www.youtube.com/watch?feature=player_embedded&v=nqEOTYZuu-M
لم يكن باخ يحظى بتقدير كبير أثناء حياته. والقليل من موسيقاه نُشر وهو حيّ. لكن ذلك لم يكن علامة على عدم الاحترام. كانت الموسيقى في ذلك العصر تُكتب لكي تُعزف في وقتها ودونما تفكير في المستقبل. وكان يُنظر إلى الموسيقى كخدمة تُؤدّى لصاحب العمل؛ أي كمنتج استهلاكي وليس سلسلة من الإبداعات الفنّية التي يمكن أن تعيش مع الناس لقرنين أو ثلاثة.
في موسيقى الباروك ثمّة إحساس بالروعة والإثارة وديناميكية الحركة والطاقة الإيقاعية الكبيرة التي تكشف عن خطوط موسيقية تستمرّ وتدوم ونادرا ما تتوقّف. حتى الملابس وتصفيف الشعر والأثاث والحدائق كانت تعكس هذه السمات. الحدائق المشهورة في فرساي خارج باريس هي مثال جيّد على هذا. كان الباروك عصرا من الروعة والترف والإبداع. وكلمة "رائع" التي نستخدمها عادة لوصف الأعمال الفنّية المتميّزة تنطبق في الواقع على العديد من إبداعات عصر الباروك.
من أشهر وأروع القطع الموسيقية التي انتقلت إلينا من ذلك العصر موسيقى باخ المسمّاة "أغنية على الوتر الأدنى للكمان" (1720م). الكلمة في بداية الاسم تشير إلى قطعة موسيقية يؤدّيها مغنّ منفرد بمصاحبة آلات موسيقية.
لكن أين هو المغنّي في هذه القطعة؟ المغنّي هنا هو الكمان نفسه. أي أن الكمان، بمعنى ما، يقوم بدور المؤدّي. أما لماذا "الوتر الأدنى للكمان" فلأن للكمان أربعة أوتار، وكلّ وتر مخصّص لطبقة صوتية أو نغمية مختلفة. وأدنى هذه الأوتار أو الدرجات أو السلالم هو الذي يُصدر صوتا ثريّا ومكتملا. وهذا هو السبب في أن باخ تعمّد أن يعزف المقطوعة بأكملها على هذا الوتر بالذات.
هذه المعزوفة سهلة جدّا. ومع ذلك فإن لها تأثيرا عميقا في نفس السامع. تشعر وأنت تستمع إليها كما لو أن الموسيقى تأخذك إلى عالم آخر. بإمكانك أن تغلق عينيك وأنت تسمعها لتتخيّل شيئا ما جميلا وبعيدا جدّا. ليس من المستغرب إذن انه من بين أكثر من ألف مقطوعة موسيقية كتبها باخ، فإن هذه القطعة تُعتبر أشهر أعماله على الإطلاق.
لم يكن باخ شخصا غنيّا أبدا في حياته. ولم يبتكر أشكالا موسيقية جديدة. كما انه لم يكن يتمتّع بشهرة واسعة، على الأقل حتى وفاته. لكنه اليوم يقف على رأس قائمة المؤلّفين الموسيقيين العظام. وبعض النقّاد يعتبرونه الأعظم بينهم. هذا طبعا مجرّد رأي. لكن ما يزال لموسيقاه ذلك التأثير العميق والقدرة على إثارة المشاعر والأفكار.