تفسيرآيات من سورة الأعراف
(حديث تلفازى بعد تحويله إلى مقال)
د. إبراهيم عوض
"لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِى ضَلالٍ مُبِينٍ (60) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِى ضَلالَةٌ وَلَكِنِّى رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّى وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (62) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِى الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64)"- سورة الأعراف
تمثل قصة نوح واحدا من الموضوعات المشتركة بين العهد القديم من الكتاب المقدس وبين القرآن الكريم. وأول ما يلفت النظر عند المقارنة بين ما ورد عن نوح عليه السلام فى العهد القديم وما ذكره عنه القرآن الكريم هو أن كلام العهد القديم أشد تفصيلا، وينحو نحو ذكر الأرقام والأبعاد ويورد أسماء الأشخاص والمواضع على نحو متسع بينما لا يهتم القرآن عموما بهذه التفاصيل، وإن ذكرها ففى أضيق نطاق. ففى الوقت الذى لا يجد القارئ فى القرآن عن نوح عليه السلام إلا أنه أرسل إلى قومه فقُوبِلَ بالتكذيب والاستهزاء وأن الله أمره بصنع الفُلْك وطلب منه أن يحمل فيه من كل صنف من أصناف الحيوان زوجين اثنين وأن الماء هطل على الأرض فأغرقها الطوفان فى حين نجا نوح وسكان سفينته، وأن امرأته قد خانته، وابنه عصاه وآثر الاعتصام بجبل يمنعه من الغرق لكنه كان من المُغْرَقين، وأنه قد لبث فى قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، نجد العهد القديم يغرق فى تفصيلات كثيرة لم يهتم بها القرآن البتة، فيذكر آباءه جميعا حتى آدم، وكذلك أبناءه الثلاثة، مسميا كل واحد من هؤلاء وهؤلاء، ومحددا عمره والزمن الذى ولد ومات فيه، ويحدد جيله من لدن بداية الإنسان الأول بأنه الجيل العاشر، وحاكيا كيف أنه سبحانه وتعالى قد أعلن له، عندما كان عمره 480 عاما، أنه سوف يبيد البشر جراء انحرافهم وأنه قد أنجب أبناءه الثلاثة حين بلغ الخمسمائة، وأن الطوفان قد وقع حين صار له ستمائة سنة، وأنه استمر 40 يوما وليلة مع تحديد الشهر واليوم الأسبوعى، غير 150 يوما أخرى قضاها نوح ومن معه فى الفلك.
ثم لم يكتف مؤلف قصة نوح فى العهد القديم بذلك بل تحدث عن سبب تسميته:"نوحا" وعن مهنته وأنه كان يزرع الكَرْم وما إلى ذلك، ثم لم يشأ أن يسكت عن سلوكه الشخصى فحكى لنا كيف كان يشرب الخمر ويسكر سكرا فاحشا حتى إنه قد تعرى مرة وهو سكران عريا تاما وانطرح فى خيمته، فدخل عليه بالمصادفة المحضة ابنه حام ورآه على تلك الحال البشعة، فخرج للتو، وأخبر أخويه الآخَرَيْن: سام ويافث، فدخلا وغطياه بثوب معهما. ولما أفاق وعلم بما حدث لعن كنعان ابن حام ودعا لسام ويافث مع أنه لا حام ولا ابنه كنعان قد أساء إليه فى شىء، بل هى المصادفة البحتة التى دفعت حاما أن يدخل على أبيه وهو على تلك الحال التى لا تليق. ثم إنه هو الملوم لا كنعان، إذ هو الذى سكر وانطرح وتعرى، وليس ابنه المسكين. ولو افترضنا أنه كان لا بد أن يُلْبِس الذنب أحدا من ذريته لكان الأحرى أن يُلْبِسه حاما لا ابنه كنعان، الذى لم يكن له دخل بالأمر على الإطلاق، وربما لم يكن قد وُلِد بعد.
على أن الحكاية لا تقف عند هذا الحد، بل تمضى فتقول إن نوحا لم يكتف بلَعْن كنعان، لكنه شمل بلعنته أيضا ذريته... وغير ذلك من التفاصيل الكثيرة التى لا يتطرق إليها القرآن المجيد . أما فى القرآن فقد ظل نوح مشفقا على ابنه المتمرد الكافر يدعو له بالهداية ويترجى ربه أن يرحمه ويعفو عنه. وهما موقفان متضادان تماما: فهو فى العهد القديم يلعن ابنه على شىء كان هو نفسه، وليس ابنه، السبب فيه، ويلعن معه ذريته، على حين أن القرآن يصوره أبا رحيما تحركه عاطفة الأبوة حتى مع الابن العاصى الكافر. ليس ذلك فحسب، إذ يحكى لنا العهد القديم قبل هذا أن الله بارك أبناء نوح جميعا. فمن نصدق إذن؟ أنصدق أن الله قد باركهم أم نصدق أنه قد لعن بعضهم استجابة لدعاء أبيهم عليهم لذنب جناه هو، ولا دخل لهم فيه؟ فانظر الفرق بين النُّوحَيْن: نوح الكتاب المقدس ونوح القرآن العظيم. وفوق ذلك فإن الموضع الذى استقر فيه فُلْك نوح حسب رواية الكتاب المقدس هو جبل أرارات، بينما يقول القرآن إن السفينة قد استوت على الجودىِّ... إلخ.
على أن الكتاب المقدس، فى أثناء حكايته لقصة نوح، قد احتك احتكاكا غير كريم بمقام الألوهية، فنسب إلى الله أبناء فى مقابل نسبة البنات إلى الناس، وهو ما يذكرنا، ولكن بالعكس، بما كان مشركو العرب يقولونه عن رب العالمين من أنه قد اتخذ له البنات فى الوقت الذى يريدون لذريتهم أن تكون من الذكور، فضلا عما قاله راوى قصة نوح فى العهد القديم من أن أبناء الله اتخذوا من بنات الناس زوجات لهم، فكانت ثمرة هذا التزاوج هو جنس الجبابرة مما يشبه ما كان وثنيو الإغريق يقولونه عن بعض مشاهيرهم المتولدين من التزاوج بين الآلهة ونسوة من البشر. كما نسب كاتب السفر الندم والأسف إلى الله على أنه خلق البشر. أى أن الله كان يريد من وراء خلقه للبشر شيئا، ثم بوغت بشىء آخر مختلف جعله يتأسف على ما كان منه، وعزم على تدمير البشرية بسببه. وفوق ذلك نرى الله يحدد عمر البشر حسب القرار الذى اتخذه بمائة وعشرين سنة رغم ما نعلمه من أن أعمار البشر تتفاوت تفاوتا عجيبا من لحظة واحدة حين يموت الجنين أول ما يهل على الدنيا وقبل أن يطلق صرخته التقليدية الأولى إلى ألف وخمسمائة عام على الأقل طبقا لما نعرف عن مكث نوح فى قومه. ومما كتبه مؤلف قصة نوح فى الكتاب المقدس أيضا أن الله قد خلق قوس قُزَح كى يذكِّر نفسه بألا يغرق البشر بالطوفان بعد طوفان نوح مع أن الطَّوَافِين لم تكف يوما عن الوقوع، ومنها ما نسميه فى أيامنا هذه بـ"التسونامى". أى أن الله خلق البشر ثم ندم وحزن على خلقهم ثم عاد فصفح عنهم وخلق قوس قزح حتى لا ينسى أنه قد اتخذ قراره النهائى بعدم إغراقهم.
والآن إلى ما يقوله العهد القديم عن ذلك النبى الكريم، الذى لم يورد عنه القرآن شيئا مسيئا قط، بخلاف الكتاب المقدس، الذى رسم له صورة لا تليق بنبى بل لا تليق برجل عادى من عُرْض الطريق. ليس ذلك فقط، بل إن الكتاب المقدس لم يقل إنه نبى أصلا، مكتفيا بالقول بأنه كان رجلا بارا. ولا أدرى كيف يكون بارا، وهذا هو سلوكه، وهذا هو تفكيره ورد فعله تجاه ابنه وذريته الذين لم يسيئوا إليه فى شىء قط، بل كان هو المسىء إساءة بشعة لنفسه ولهم. تقول الإصحاحات من الخامس إلى العاشر من سفر "التكوين":
"5- 1هذَا كِتَابُ مَوَالِيدِ آدَمَ، يَوْمَ خَلَقَ اللهُ الإِنْسَانَ. عَلَى شَبَهِ اللهِ عَمِلَهُ. 2ذَكَرًا وَأُنْثَى خَلَقَهُ، وَبَارَكَهُ وَدَعَا اسْمَهُ آدَمَ يَوْمَ خُلِقَ. 3وَعَاشَ آدَمُ مِئَةً وَثَلاَثِينَ سَنَةً، وَوَلَدَ وَلَدًا عَلَى شَبَهِهِ كَصُورَتِهِ وَدَعَا اسْمَهُ شِيثًا. 4وَكَانَتْ أَيَّامُ آدَمَ بَعْدَ مَا وَلَدَ شِيثًا ثَمَانِى مِئَةِ سَنَةٍ، وَوَلَدَ بَنِينَ وَبَنَاتٍ. 5فَكَانَتْ كُلُّ أَيَّامِ آدَمَ الَّتِى عَاشَهَا تِسْعَ مِئَةٍ وَثَلاَثِينَ سَنَةً، وَمَاتَ.
6وَعَاشَ شِيثُ مِئَةً وَخَمْسَ سِنِينَ، وَوَلَدَ أَنُوشَ. 7وَعَاشَ شِيثُ بَعْدَ مَا وَلَدَ أَنُوشَ ثَمَانِى مِئَةٍ وَسَبْعَ سِنِينَ، وَوَلَدَ بَنِينَ وَبَنَاتٍ. 8فَكَانَتْ كُلُّ أَيَّامِ شِيثَ تِسْعَ مِئَةٍ وَاثْنَتَى عَشَرَةَ سَنَةً، وَمَاتَ.
9وَعَاشَ أَنُوشُ تِسْعِينَ سَنَةً، وَوَلَدَ قِينَانَ. 10وَعَاشَ أَنُوشُ بَعْدَ مَا وَلَدَ قِينَانَ ثَمَانِى مِئَةٍ وَخَمْسَ عَشَرَةَ سَنَةً، وَوَلَدَ بَنِينَ وَبَنَاتٍ. 11فَكَانَتْ كُلُّ أَيَّامِ أَنُوشَ تِسْعَ مِئَةٍ وَخَمْسَ سِنِينَ، وَمَاتَ.
12وَعَاشَ قِينَانُ سَبْعِينَ سَنَةً، وَوَلَدَ مَهْلَلْئِيلَ. 13وَعَاشَ قِينَانُ بَعْدَ مَا وَلَدَ مَهْلَلْئِيلَ ثَمَانِى مِئَةٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَوَلَدَ بَنِينَ وَبَنَاتٍ. 14فَكَانَتْ كُلُّ أَيَّامِ قِينَانَ تِسْعَ مِئَةٍ وَعَشَرَ سِنِينَ، وَمَاتَ.
15وَعَاشَ مَهْلَلْئِيلُ خَمْسًا وَسِتِّينَ سَنَةً، وَوَلَدَ يَارَدَ. 16وَعَاشَ مَهْلَلْئِيلُ بَعْدَ مَا وَلَدَ يَارَدَ ثَمَانِى مِئَةٍ وَثَلاَثِينَ سَنَةً، وَوَلَدَ بَنِينَ وَبَنَاتٍ. 17فَكَانَتْ كُلُّ أَيَّامِ مَهْلَلْئِيلَ ثَمَانِى مِئَةٍ وَخَمْسًا وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَمَاتَ.
18وَعَاشَ يَارَدُ مِئَةً وَاثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ سَنَةً، وَوَلَدَ أَخْنُوخَ. 19وَعَاشَ يَارَدُ بَعْدَ مَا وَلَدَ أَخْنُوخَ ثَمَانِى مِئَةِ سَنَةٍ، وَوَلَدَ بَنِينَ وَبَنَاتٍ. 20فَكَانَتْ كُلُّ أَيَّامِ يَارَدَ تِسْعَ مِئَةٍ وَاثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ سَنَةً، وَمَاتَ.
21وَعَاشَ أَخْنُوخُ خَمْسًا وَسِتِّينَ سَنَةً، وَوَلَدَ مَتُوشَالَحَ. 22وَسَارَ أَخْنُوخُ مَعَ اللهِ بَعْدَ مَا وَلَدَ مَتُوشَالَحَ ثَلاَثَ مِئَةِ سَنَةٍ، وَوَلَدَ بَنِينَ وَبَنَاتٍ. 23فَكَانَتْ كُلُّ أَيَّامِ أَخْنُوخَ ثَلاَثَ مِئَةٍ وَخَمْسًا وَسِتِّينَ سَنَةً. 24وَسَارَ أَخْنُوخُ مَعَ اللهِ، وَلَمْ يُوجَدْ لأَنَّ اللهَ أَخَذَهُ.
25وَعَاشَ مَتُوشَالَحُ مِئَةً وَسَبْعًا وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَوَلَدَ لاَمَكَ. 26وَعَاشَ مَتُوشَالَحُ بَعْدَ مَا وَلَدَ لاَمَكَ سَبْعَ مِئَةٍ وَاثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَوَلَدَ بَنِينَ وَبَنَاتٍ. 27فَكَانَتْ كُلُّ أَيَّامِ مَتُوشَالَحَ تِسْعَ مِئَةٍ وَتِسْعًا وَسِتِّينَ سَنَةً، وَمَاتَ.
28وَعَاشَ لاَمَكُ مِئَةً وَاثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَوَلَدَ ابْنًا. 29وَدَعَا اسْمَهُ نُوحًا، قَائِلاً: «هذَا يُعَزِّينَا عَنْ عَمَلِنَا وَتَعَبِ أَيْدِينَا مِنْ قِبَلِ الأَرْضِ الَّتِى لَعَنَهَا الرَّبُّ». 30وَعَاشَ لاَمَكُ بَعْدَ مَا وَلَدَ نُوحًا خَمْسَ مِئَةٍ وَخَمْسًا وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَوَلَدَ بَنِينَ وَبَنَاتٍ. 31فَكَانَتْ كُلُّ أَيَّامِ لاَمَكَ سَبْعَ مِئَةٍ وَسَبْعًا وَسَبْعِينَ سَنَةً، وَمَاتَ.
32وَكَانَ نُوحٌ ابْنَ خَمْسِ مِئَةِ سَنَةٍ. وَوَلَدَ نُوحٌ: سَامًا، وَحَامًا، وَيَافَثَ.
6- 1وَحَدَثَ لَمَّا ابْتَدَأَ النَّاسُ يَكْثُرُونَ عَلَى الأَرْضِ، وَوُلِدَ لَهُمْ بَنَاتٌ، 2أَنَّ أَبْنَاءَ اللهِ رَأَوْا بَنَاتِ النَّاسِ أَنَّهُنَّ حَسَنَاتٌ. فَاتَّخَذُوا لأَنْفُسِهِمْ نِسَاءً مِنْ كُلِّ مَا اخْتَارُوا. 3فَقَالَ الرَّبُّ: «لاَ يَدِينُ رُوحِى فِى الإِنْسَانِ إِلَى الأَبَدِ، لِزَيَغَانِهِ، هُوَ بَشَرٌ. وَتَكُونُ أَيَّامُهُ مِئَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً». 4كَانَ فِى الأَرْضِ طُغَاةٌ فِى تِلْكَ الأَيَّامِ. وَبَعْدَ ذلِكَ أَيْضًا إِذْ دَخَلَ بَنُو اللهِ عَلَى بَنَاتِ النَّاسِ وَوَلَدْنَ لَهُمْ أَوْلاَدًا، هؤُلاَءِ هُمُ الْجَبَابِرَةُ الَّذِينَ مُنْذُ الدَّهْرِ ذَوُو اسْمٍ.
5وَرَأَى الرَّبُّ أَنَّ شَرَّ الإِنْسَانِ قَدْ كَثُرَ فِى الأَرْضِ، وَأَنَّ كُلَّ تَصَوُّرِ أَفْكَارِ قَلْبِهِ إِنَّمَا هُوَ شِرِّيرٌ كُلَّ يَوْمٍ. 6فَحَزِنَ الرَّبُّ أَنَّهُ عَمِلَ الإِنْسَانَ فِى الأَرْضِ، وَتَأَسَّفَ فِى قَلْبِهِ. 7فَقَالَ الرَّبُّ: «أَمْحُو عَنْ وَجْهِ الأَرْضِ الإِنْسَانَ الَّذِى خَلَقْتُهُ، الإِنْسَانَ مَعَ بَهَائِمَ وَدَبَّابَاتٍ وَطُيُورِ السَّمَاءِ، لأَنِّى حَزِنْتُ أَنِّى عَمِلْتُهُمْ». 8وَأَمَّا نُوحٌ فَوَجَدَ نِعْمَةً فِى عَيْنَى الرَّبِّ.
9هذِهِ مَوَالِيدُ نُوحٍ: كَانَ نُوحٌ رَجُلاً بَارًّا كَامِلاً فِى أَجْيَالِهِ. وَسَارَ نُوحٌ مَعَ اللهِ. 10وَوَلَدَ نُوحٌ ثَلاَثَةَ بَنِينَ: سَامًا، وَحَامًا، وَيَافَثَ. 11وَفَسَدَتِ الأَرْضُ أَمَامَ اللهِ، وَامْتَلأَتِ الأَرْضُ ظُلْمًا. 12وَرَأَى اللهُ الأَرْضَ فَإِذَا هِى قَدْ فَسَدَتْ، إِذْ كَانَ كُلُّ بَشَرٍ قَدْ أَفْسَدَ طَرِيقَهُ عَلَى الأَرْضِ.
13فَقَالَ اللهُ لِنُوحٍ: «نِهَايَةُ كُلِّ بَشَرٍ قَدْ أَتَتْ أَمَامِي، لأَنَّ الأَرْضَ امْتَلأَتْ ظُلْمًا مِنْهُمْ. فَهَا أَنَا مُهْلِكُهُمْ مَعَ الأَرْضِ. 14اِصْنَعْ لِنَفْسِكَ فُلْكًا مِنْ خَشَبِ جُفْرٍ. تَجْعَلُ الْفُلْكَ مَسَاكِنَ، وَتَطْلِيهِ مِنْ دَاخِل وَمِنْ خَارِجٍ بِالْقَارِ. 15وَهكَذَا تَصْنَعُهُ: ثَلاَثَ مِئَةِ ذِرَاعٍ يَكُونُ طُولُ الْفُلْكِ، وَخَمْسِينَ ذِرَاعًا عَرْضُهُ، وَثَلاَثِينَ ذِرَاعًا ارْتِفَاعُهُ. 16وَتَصْنَعُ كَوًّا لِلْفُلْكِ، وَتُكَمِّلُهُ إِلَى حَدِّ ذِرَاعٍ مِنْ فَوْقُ. وَتَضَعُ بَابَ الْفُلْكِ فِى جَانِبِهِ. مَسَاكِنَ سُفْلِيَّةً وَمُتَوَسِّطَةً وَعُلْوِيَّةً تَجْعَلُهُ. 17فَهَا أَنَا آتٍ بِطُوفَانِ الْمَاءِ عَلَى الأَرْضِ لأُهْلِكَ كُلَّ جَسَدٍ فِيهِ رُوحُ حَيَاةٍ مِنْ تَحْتِ السَّمَاءِ. كُلُّ مَا فِى الأَرْضِ يَمُوتُ. 18وَلكِنْ أُقِيمُ عَهْدِى مَعَكَ، فَتَدْخُلُ الْفُلْكَ أَنْتَ وَبَنُوكَ وَامْرَأَتُكَ وَنِسَاءُ بَنِيكَ مَعَكَ. 19وَمِنْ كُلِّ حَى مِنْ كُلِّ ذِى جَسَدٍ، اثْنَيْنِ مِنْ كُلّ تُدْخِلُ إِلَى الْفُلْكِ لاسْتِبْقَائِهَا مَعَكَ. تَكُونُ ذَكَرًا وَأُنْثَى. 20مِنَ الطُّيُورِ كَأَجْنَاسِهَا، وَمِنَ الْبَهَائِمِ كَأَجْنَاسِهَا، وَمِنْ كُلِّ دَبَّابَاتِ الأَرْضِ كَأَجْنَاسِهَا. اثْنَيْنِ مِنْ كُلّ تُدْخِلُ إِلَيْكَ لاسْتِبْقَائِهَا.
21وَأَنْتَ، فَخُذْ لِنَفْسِكَ مِنْ كُلِّ طَعَامٍ يُؤْكَلُ وَاجْمَعْهُ عِنْدَكَ، فَيَكُونَ لَكَ وَلَهَا طَعَامًا». 22فَفَعَلَ نُوحٌ حَسَبَ كُلِّ مَا أَمَرَهُ بِهِ اللهُ. هكَذَا فَعَلَ.
7- 1وَقَالَ الرَّبُّ لِنُوحٍ: «ادْخُلْ أَنْتَ وَجَمِيعُ بَيْتِكَ إِلَى الْفُلْكِ، لأَنِّى إِيَّاكَ رَأَيْتُ بَارًّا لَدَى فِى هذَا الْجِيلِ. 2مِنْ جَمِيعِ الْبَهَائِمِ الطَّاهِرَةِ تَأْخُذُ مَعَكَ سَبْعَةً سَبْعَةً ذَكَرًا وَأُنْثَى. وَمِنَ الْبَهَائِمِ الَّتِى لَيْسَتْ بِطَاهِرَةٍ اثْنَيْنِ: ذَكَرًا وَأُنْثَى. 3وَمِنْ طُيُورِ السَّمَاءِ أَيْضًا سَبْعَةً سَبْعَةً: ذَكَرًا وَأُنْثَى. لاسْتِبْقَاءِ نَسْل عَلَى وَجْهِ كُلِّ الأَرْضِ. 4لأَنِّى بَعْدَ سَبْعَةِ أَيَّامٍ أَيْضًا أُمْطِرُ عَلَى الأَرْضِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً. وَأَمْحُو عَنْ وَجْهِ الأَرْضِ كُلَّ قَائِمٍ عَمِلْتُهُ». 5فَفَعَلَ نُوحٌ حَسَبَ كُلِّ مَا أَمَرَهُ بِهِ الرَّبُّ.
6وَلَمَّا كَانَ نُوحٌ ابْنَ سِتِّ مِئَةِ سَنَةٍ صَارَ طُوفَانُ الْمَاءِ عَلَى الأَرْضِ، 7فَدَخَلَ نُوحٌ وَبَنُوهُ وَامْرَأَتُهُ وَنِسَاءُ بَنِيهِ مَعَهُ إِلَى الْفُلْكِ مِنْ وَجْهِ مِيَاهِ الطُّوفَانِ. 8وَمِنَ الْبَهَائِمِ الطَّاهِرَةِ وَالْبَهَائِمِ الَّتِى لَيْسَتْ بِطَاهِرَةٍ، وَمِنَ الطُّيُورِ وَكُلِّ مَا يَدِبُّ عَلَى الأَرْضِ: 9دَخَلَ اثْنَانِ اثْنَانِ إِلَى نُوحٍ إِلَى الْفُلْكِ، ذَكَرًا وَأُنْثَى، كَمَا أَمَرَ اللهُ نُوحًا.
10وَحَدَثَ بَعْدَ السَّبْعَةِ الأَيَّامِ أَنَّ مِيَاهَ الطُّوفَانِ صَارَتْ عَلَى الأَرْضِ. 11فِى سَنَةِ سِتِّ مِئَةٍ مِنْ حَيَاةِ نُوحٍ، فِى الشَّهْرِ الثَّانِى، فِى الْيَوْمِ السَّابعَ عَشَرَ مِنَ الشَّهْرِ فِى ذلِكَ اليَوْمِ، انْفَجَرَتْ كُلُّ يَنَابِيعِ الْغَمْرِ الْعَظِيمِ، وَانْفَتَحَتْ طَاقَاتُ السَّمَاءِ. 12وَكَانَ الْمَطَرُ عَلَى الأَرْضِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً. 13فِى ذلِكَ الْيَوْمِ عَيْنِهِ دَخَلَ نُوحٌ، وَسَامٌ وَحَامٌ وَيَافَثُ بَنُو نُوحٍ، وَامْرَأَةُ نُوحٍ، وَثَلاَثُ نِسَاءِ بَنِيهِ مَعَهُمْ إِلَى الْفُلْكِ. 14هُمْ وَكُلُّ الْوُحُوشِ كَأَجْنَاسِهَا، وَكُلُّ الْبَهَائِمِ كَأَجْنَاسِهَا، وَكُلُّ الدَّبَّاباتِ الَّتِى تَدِبُّ عَلَى الأَرْضِ كَأَجْنَاسِهَا، وَكُلُّ الطُّيُورِ كَأَجْنَاسِهَا: كُلُّ عُصْفُورٍ، كُلُّ ذِى جَنَاحٍ. 15وَدَخَلَتْ إِلَى نُوحٍ إِلَى الْفُلْكِ، اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ مِنْ كُلِّ جَسَدٍ فِيهِ رُوحُ حَيَاةٍ. 16وَالدَّاخِلاَتُ دَخَلَتْ ذَكَرًا وَأُنْثَى، مِنْ كُلِّ ذِى جَسَدٍ، كَمَا أَمَرَهُ اللهُ. وَأَغْلَقَ الرَّبُّ عَلَيْهِ.
17وَكَانَ الطُّوفَانُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا عَلَى الأَرْضِ. وَتَكَاثَرَتِ الْمِيَاهُ وَرَفَعَتِ الْفُلْكَ، فَارْتَفَعَ عَنِ الأَرْضِ. 18وَتَعَاظَمَتِ الْمِيَاهُ وَتَكَاثَرَتْ جِدًّا عَلَى الأَرْضِ، فَكَانَ الْفُلْكُ يَسِيرُ عَلَى وَجْهِ الْمِيَاهِ. 19وَتَعَاظَمَتِ الْمِيَاهُ كَثِيرًا جِدًّا عَلَى الأَرْضِ، فَتَغَطَّتْ جَمِيعُ الْجِبَالِ الشَّامِخَةِ الَّتِى تَحْتَ كُلِّ السَّمَاءِ. 20خَمْسَ عَشَرَةَ ذِرَاعًا فِى الارْتِفَاعِ تَعَاظَمَتِ الْمِيَاهُ، فَتَغَطَّتِ الْجِبَالُ. 21فَمَاتَ كُلُّ ذِى جَسَدٍ كَانَ يَدِبُّ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الطُّيُورِ وَالْبَهَائِمِ وَالْوُحُوشِ، وَكُلُّ الزَّحَّافَاتِ الَّتِى كَانَتْ تَزْحَفُ عَلَى الأَرْضِ، وَجَمِيعُ النَّاسِ. 22كُلُّ مَا فِى أَنْفِهِ نَسَمَةُ رُوحِ حَيَاةٍ مِنْ كُلِّ مَا فِى الْيَابِسَةِ مَاتَ. 23فَمَحَا اللهُ كُلَّ قَائِمٍ كَانَ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ: النَّاسَ، وَالْبَهَائِمَ، وَالدَّبَّابَاتِ، وَطُيُورَ السَّمَاءِ. فَانْمَحَتْ مِنَ الأَرْضِ. وَتَبَقَّى نُوحٌ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِى الْفُلْكِ فَقَطْ. 24وَتَعَاظَمَتِ الْمِيَاهُ عَلَى الأَرْضِ مِئَةً وَخَمْسِينَ يَوْمًا.
8- 1ثُمَّ ذَكَرَ اللهُ نُوحًا وَكُلَّ الْوُحُوشِ وَكُلَّ الْبَهَائِمِ الَّتِى مَعَهُ فِى الْفُلْكِ. وَأَجَازَ اللهُ رِيحًا عَلَى الأَرْضِ فَهَدَأَتِ الْمِيَاهُ. 2وَانْسَدَّتْ يَنَابِيعُ الْغَمْرِ وَطَاقَاتُ السَّمَاءِ، فَامْتَنَعَ الْمَطَرُ مِنَ السَّمَاءِ. 3وَرَجَعَتِ الْمِيَاهُ عَنِ الأَرْضِ رُجُوعًا مُتَوَالِيًا. وَبَعْدَ مِئَةٍ وَخَمْسِينَ يَوْمًا نَقَصَتِ الْمِيَاهُ، 4وَاسْتَقَرَّ الْفُلْكُ فِى الشَّهْرِ السَّابعِ، فِى الْيَوْمِ السَّابعَ عَشَرَ مِنَ الشَّهْرِ، عَلَى جِبَالِ أَرَارَاطَ. 5وَكَانَتِ الْمِيَاهُ تَنْقُصُ نَقْصًا مُتَوَالِيًا إِلَى الشَّهْرِ الْعَاشِرِ. وَفِى الْعَاشِرِ فِى أَوَّلِ الشَّهْرِ، ظَهَرَتْ رُؤُوسُ الْجِبَالِ.
6وَحَدَثَ مِنْ بَعْدِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا أَنَّ نُوحًا فَتَحَ طَاقَةَ الْفُلْكِ الَّتِى كَانَ قَدْ عَمِلَهَا 7وَأَرْسَلَ الْغُرَابَ، فَخَرَجَ مُتَرَدِّدًا حَتَّى نَشِفَتِ الْمِيَاهُ عَنِ الأَرْضِ. 8ثُمَّ أَرْسَلَ الْحَمَامَةَ مِنْ عِنْدِهِ لِيَرَى هَلْ قَلَّتِ الْمِيَاهُ عَنْ وَجْهِ الأَرْضِ، 9فَلَمْ تَجِدِ الْحَمَامَةُ مَقَرًّا لِرِجْلِهَا، فَرَجَعَتْ إِلَيْهِ إِلَى الْفُلْكِ لأَنَّ مِيَاهًا كَانَتْ عَلَى وَجْهِ كُلِّ الأَرْضِ. فَمَدَّ يَدَهُ وَأَخَذَهَا وَأَدْخَلَهَا عِنْدَهُ إِلَى الْفُلْكِ. 10فَلَبِثَ أَيْضًا سَبْعَةَ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَادَ فَأَرْسَلَ الْحَمَامَةَ مِنَ الْفُلْكِ، 11فَأَتَتْ إِلَيْهِ الْحَمَامَةُ عِنْدَ الْمَسَاءِ، وَإِذَا وَرَقَةُ زَيْتُونٍ خَضْرَاءُ فِى فَمِهَا. فَعَلِمَ نُوحٌ أَنَّ الْمِيَاهَ قَدْ قَلَّتْ عَنِ الأَرْضِ. 12فَلَبِثَ أَيْضًا سَبْعَةَ أَيَّامٍ أُخَرَ وَأَرْسَلَ الْحَمَامَةَ فَلَمْ تَعُدْ تَرْجعُ إِلَيْهِ أَيْضًا.
13وَكَانَ فِى السَّنَةِ الْوَاحِدَةِ وَالسِّتِّ مِئَةٍ، فِى الشَّهْرِ الأَوَّلِ فِى أَوَّلِ الشَّهْرِ، أَنَّ الْمِيَاهَ نَشِفَتْ عَنِ الأَرْضِ. فَكَشَفَ نُوحٌ الْغِطَاءَ عَنِ الْفُلْكِ وَنَظَرَ، فَإِذَا وَجْهُ الأَرْضِ قَدْ نَشِفَ. 14وَفِى الشَّهْرِ الثَّانِي، فِى الْيَوْمِ السَّابعِ وَالْعِشْرِينَ مِنَ الشَّهْرِ، جَفَّتِ الأَرْضُ.
15وَكَلَّمَ اللهُ نُوحًا قَائِلاً: 16«اخْرُجْ مِنَ الْفُلْكِ أَنْتَ وَامْرَأَتُكَ وَبَنُوكَ وَنِسَاءُ بَنِيكَ مَعَكَ. 17وَكُلَّ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِى مَعَكَ مِنْ كُلِّ ذِى جَسَدٍ: الطُّيُورِ، وَالْبَهَائِمِ، وَكُلَّ الدَّبَّابَاتِ الَّتِى تَدِبُّ عَلَى الأَرْضِ، أَخْرِجْهَا مَعَكَ. وَلْتَتَوَالَدْ فِى الأَرْضِ وَتُثْمِرْ وَتَكْثُرْ عَلَى الأَرْضِ». 18فَخَرَجَ نُوحٌ وَبَنُوهُ وَامْرَأَتُهُ وَنِسَاءُ بَنِيهِ مَعَهُ. 19وَكُلُّ الْحَيَوَانَاتِ، كُلُّ الدَّبَّابَاتِ، وَكُلُّ الطُّيُورِ، كُلُّ مَا يَدِبُّ عَلَى الأَرْضِ، كَأَنْوَاعِهَا خَرَجَتْ مِنَ الْفُلْكِ.
20وَبَنَى نُوحٌ مَذْبَحًا لِلرَّبِّ. وَأَخَذَ مِنْ كُلِّ الْبَهَائِمِ الطَّاهِرَةِ وَمِنْ كُلِّ الطُّيُورِ الطَّاهِرَةِ وَأَصْعَدَ مُحْرَقَاتٍ عَلَى الْمَذْبَحِ، 21فَتَنَسَّمَ الرَّبُّ رَائِحَةَ الرِّضَا. وَقَالَ الرَّبُّ فِى قَلْبِهِ: «لاَ أَعُودُ أَلْعَنُ الأَرْضَ أَيْضًا مِنْ أَجْلِ الإِنْسَانِ، لأَنَّ تَصَوُّرَ قَلْبِ الإِنْسَانِ شِرِّيرٌ مُنْذُ حَدَاثَتِهِ.
وَلاَ أَعُودُ أَيْضًا أُمِيتُ كُلَّ حَى كَمَا فَعَلْتُ. 22مُدَّةَ كُلِّ أَيَّامِ الأَرْضِ: زَرْعٌ وَحَصَادٌ، وَبَرْدٌ وَحَرٌّ، وَصَيْفٌ وَشِتَاءٌ، وَنَهَارٌ وَلَيْلٌ، لاَ تَزَالُ».
9- 1وَبَارَكَ اللهُ نُوحًا وَبَنِيهِ وَقَالَ لَهُمْ: «أَثْمِرُوا وَاكْثُرُوا وَامْلأُوا الأَرْضَ. 2وَلْتَكُنْ خَشْيَتُكُمْ وَرَهْبَتُكُمْ عَلَى كُلِّ حَيَوَانَاتِ الأَرْضِ وَكُلِّ طُيُورِ السَّمَاءِ، مَعَ كُلِّ مَا يَدِبُّ عَلَى الأَرْضِ، وَكُلِّ أَسْمَاكِ الْبَحْرِ. قَدْ دُفِعَتْ إِلَى أَيْدِيكُمْ. 3كُلُّ دَابَّةٍ حَيَّةٍ تَكُونُ لَكُمْ طَعَامًا. كَالْعُشْبِ الأَخْضَرِ دَفَعْتُ إِلَيْكُمُ الْجَمِيعَ. 4غَيْرَ أَنَّ لَحْمًا بِحَيَاتِهِ، دَمِهِ، لاَ تَأْكُلُوهُ. 5وَأَطْلُبُ أَنَا دَمَكُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَقَطْ. مِنْ يَدِ كُلِّ حَيَوَانٍ أَطْلُبُهُ. وَمِنْ يَدِ الإِنْسَانِ أَطْلُبُ نَفْسَ الإِنْسَانِ، مِنْ يَدِ الإِنْسَانِ أَخِيهِ. 6سَافِكُ دَمِ الإِنْسَانِ بِالإِنْسَانِ يُسْفَكُ دَمُهُ. لأَنَّ اللهَ عَلَى صُورَتِهِ عَمِلَ الإِنْسَانَ. 7فَأَثْمِرُوا أَنْتُمْ وَاكْثُرُوا وَتَوَالَدُوا فِى الأَرْضِ وَتَكَاثَرُوا فِيهَا».
8وَكَلَّمَ اللهُ نُوحًا وَبَنِيهِ مَعهُ قَائِلاً: 9«وَهَا أَنَا مُقِيمٌ مِيثَاقِى مَعَكُمْ وَمَعَ نَسْلِكُمْ مِنْ بَعْدِكُمْ، 10وَمَعَ كُلِّ ذَوَاتِ الأَنْفُسِ الْحَيَّةِ الَّتِى مَعَكُمْ: الطُّيُورِ وَالْبَهَائِمِ وَكُلِّ وُحُوشِ الأَرْضِ الَّتِى مَعَكُمْ، مِنْ جَمِيعِ الْخَارِجِينَ مِنَ الْفُلْكِ حَتَّى كُلُّ حَيَوَانِ الأَرْضِ. 11أُقِيمُ مِيثَاقِى مَعَكُمْ فَلاَ يَنْقَرِضُ كُلُّ ذِى جَسَدٍ أَيْضًا بِمِيَاهِ الطُّوفَانِ. وَلاَ يَكُونُ أَيْضًا طُوفَانٌ لِيُخْرِبَ الأَرْضَ». 12وَقَالَ اللهُ: «هذِهِ عَلاَمَةُ الْمِيثَاقِ الَّذِى أَنَا وَاضِعُهُ بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ، وَبَيْنَ كُلِّ ذَوَاتِ الأَنْفُسِ الْحَيَّةِ الَّتِى مَعَكُمْ إِلَى أَجْيَالِ الدَّهْرِ: 13وَضَعْتُ قَوْسِى فِى السَّحَابِ فَتَكُونُ عَلاَمَةَ مِيثَاق بَيْنِى وَبَيْنَ الأَرْضِ. 14فَيَكُونُ مَتَى أَنْشُرْ سَحَابًا عَلَى الأَرْضِ، وَتَظْهَرِ الْقَوْسُ فِى السَّحَابِ، 15أَنِّى أَذْكُرُ مِيثَاقِى الَّذِى بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ وَبَيْنَ كُلِّ نَفْسٍ حَيَّةٍ فِى كُلِّ جَسَدٍ. فَلاَ تَكُونُ أَيْضًا الْمِيَاهُ طُوفَانًا لِتُهْلِكَ كُلَّ ذِى جَسَدٍ. 16فَمَتَى كَانَتِ الْقَوْسُ فِى السَّحَابِ، أُبْصِرُهَا لأَذْكُرَ مِيثَاقًا أَبَدِيًّا بَيْنَ اللهِ وَبَيْنَ كُلِّ نَفْسٍ حَيَّةٍ فِى كُلِّ جَسَدٍ عَلَى الأَرْضِ». 17وَقَالَ اللهُ لِنُوحٍ: «هذِهِ عَلاَمَةُ الْمِيثَاقِ الَّذِى أَنَا أَقَمْتُهُ بَيْنِى وَبَيْنَ كُلِّ ذِى جَسَدٍ عَلَى الأَرْضِ».
18وَكَانَ بَنُو نُوحٍ الَّذِينَ خَرَجُوا مِنَ الْفُلْكِ سَامًا وَحَامًا وَيَافَثَ. وَحَامٌ هُوَ أَبُو كَنْعَانَ. 19هؤُلاَءِ الثَّلاَثَةُ هُمْ بَنُو نُوحٍ. وَمِنْ هؤُلاَءِ تَشَعَّبَتْ كُلُّ الأَرْضِ.
20وَابْتَدَأَ نُوحٌ يَكُونُ فَلاَّحًا وَغَرَسَ كَرْمًا. 21وَشَرِبَ مِنَ الْخَمْرِ فَسَكِرَ وَتَعَرَّى دَاخِلَ خِبَائِهِ. 22فَأَبْصَرَ حَامٌ أَبُو كَنْعَانَ عَوْرَةَ أَبِيهِ، وَأَخْبَرَ أَخَوَيْهِ خَارِجًا. 23فَأَخَذَ سَامٌ وَيَافَثُ الرِّدَاءَ وَوَضَعَاهُ عَلَى أَكْتَافِهِمَا وَمَشَيَا إِلَى الْوَرَاءِ، وَسَتَرَا عَوْرَةَ أَبِيهِمَا وَوَجْهَاهُمَا إِلَى الْوَرَاءِ. فَلَمْ يُبْصِرَا عَوْرَةَ أَبِيهِمَا. 24فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ نُوحٌ مِنْ خَمْرِهِ، عَلِمَ مَا فَعَلَ بِهِ ابْنُهُ الصَّغِيرُ، 25فَقَالَ: «مَلْعُونٌ كَنْعَانُ! عَبْدَ الْعَبِيدِ يَكُونُ لإِخْوَتِهِ». 26وَقَالَ: «مُبَارَكٌ الرَّبُّ إِلهُ سَامٍ. وَلْيَكُنْ كَنْعَانُ عَبْدًا لَهُمْ. 27لِيَفْتَحِ اللهُ لِيَافَثَ فَيَسْكُنَ فِى مَسَاكِنِ سَامٍ، وَلْيَكُنْ كَنْعَانُ عَبْدًا لَهُمْ».
28وَعَاشَ نُوحٌ بَعْدَ الطُّوفَانِ ثَلاَثَ مِئَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً. 29فَكَانَتْ كُلُّ أَيَّامِ نُوحٍ تِسْعَ مِئَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَمَاتَ.
10- 1وَهذِهِ مَوَالِيدُ بَنِى نُوحٍ: سَامٌ وَحَامٌ وَيَافَثُ. وَوُلِدَ لَهُمْ بَنُونَ بَعْدَ الطُّوفَانِ. 2بَنُو يَافَثَ: جُومَرُ وَمَاجُوجُ وَمَادَاى وَيَاوَانُ وَتُوبَالُ وَمَاشِكُ وَتِيرَاسُ. 3وَبَنُو جُومَرَ: أَشْكَنَازُ وَرِيفَاثُ وَتُوجَرْمَةُ. 4وَبَنُو يَاوَانَ: أَلِيشَةُ وَتَرْشِيشُ وَكِتِّيمُ وَدُودَانِيمُ. 5مِنْ هؤُلاَءِ تَفَرَّقَتْ جَزَائِرُ الأُمَمِ بِأَرَاضِيهِمْ، كُلُّ إِنْسَانٍ كَلِسَانِهِ حَسَبَ قَبَائِلِهِمْ بِأُمَمِهِمْ...".
أما فى القرآن العظيم فلعل أكثر ما ورد فيه من ناحية التفصيل هو ما نقرؤه فى سورة "هود" من قوله تعالى: "وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِى الرَّأْى وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّى وَآَتَانِى رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28) وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِى إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّى أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29) وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِى مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (30) وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِى خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّى مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِى أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِى أَنْفُسِهِمْ إِنِّى إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31) قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِى إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَى إِجْرَامِى وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35) وَأُوحِى إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آَمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِى فِى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آَمَنَ وَمَا آَمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40) وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّى لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَهِى تَجْرِى بِهِمْ فِى مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِى مَعْزِلٍ يَا بُنَى ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآَوِى إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِى مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِى مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِى وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِى الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِى وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِى مِنْ أَهْلِى وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّى أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) قَالَ رَبِّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِى وَتَرْحَمْنِى أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47) قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48) تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)".
وجاء ذكر نوح عليه الصلاة والسلام كذلك فى سورة "يونس": "وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِى وَتَذْكِيرِى بِآَيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَى وَلَا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِى إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِى الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73)". كما أوردت الآية التالية من سورة "العنكبوت" تفصيلة لم تأت فى أى موضع آخر من كتاب الله: "وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آَيَةً لِلْعَالَمِينَ (15)". ومثلها فى ذلك آية "التحريم"، التى تقول: "ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10)". وفى سورة "الشورى" تقابلنا هذه الآية المهمة التى توضح أن ما أتى به نوح وغيره من الأنبياء وصولا إلى نبينا محمد، عليهم جميعا الصلاة والتسليم، شىء واحد فى خطوطه العامة، فهو التوحيد والإيمان بالآخرة والثواب والعقاب وما إلى هذا: "شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِى إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13)".
وإلى جانب هذا هناك سورة كاملة، ولكنها قصيرة نسبيا، تسمى باسم النبى الكريم، وتمضى على النحو التالى: "إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4) قَالَ رَبِّ إِنِّى دَعَوْتُ قَوْمِى لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِى إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّى كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِى آَذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّى دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّى أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20) قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِى وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آَلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24) مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25) وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27) رَبِّ اغْفِرْ لِى وَلِوَالِدَى وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِى مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)".
وفى العهد القديم أن لامك سمى ابنه: "نوحا" كى يكون عزاء وراحة. ونص الكلام هو: "وَدَعَا اسْمَهُ نُوحًا، قَائِلاً: «هذَا يُعَزِّينَا عَنْ عَمَلِنَا وَتَعَبِ أَيْدِينَا مِنْ قِبَلِ الأَرْضِ الَّتِى لَعَنَهَا الرَّبُّ»"، ولكننا لا ندرى متى لعن الله الأرض ولا السبب الذى جعله يلعنها. ثم كيف يكون نوحا تعزية عن لعن الأرض، وفى أيامه ثار الفيضان وهلك كثير من الناس؟ بل إنه هو نفسه قد لعن ابنه وحفيده وذريتهما، ودعا عليها أن يكون أفرادها عبيدا لأولاد سام ويافث! على أية حال هناك بين المفسرين المسلمين من يقول إن اسم"نوح" مشتق من النواح لأن النبى الكريم كان كثير النوح على ذنبه. أى ذنب يا ترى؟ لا ندرى. ولو افترضنا أنه اجترح ذنبا فهل يمكن أن يرتكب أى نبى ذنبا يحعله كثير النواح؟ ثم هل ينبغى أن ننظر إلى هذا التفسير على أنه صدى لما قاله مؤلف سفر التكوين عن نوح من أنه شرب خمرا وانطرح على الأرض فبانت سوأته ورآها ابنه؟ على أية حال فاسم "نوح" ليس عربيا حتى يفسره المفسرون على أنه من "النواح"، إذ أين نوح من لسان العرب؟ إن بينهما آمادا زمنية شاسعة جدا. لكن هل معنى هذا أن ما يقوله كاتب العهد القديم فى تفسيره صحيح؟ ولا هذا أيضا. ذلك أنهم يقولون إنه يعنى الراحة والعزاء فى العبرية، فهل كانت ثم عبرية فى ذلك الزمان؟ إن نوحا، كما يقولون هم أنفسهم، يمثل الجيل العاشر بعد آدم، أى أنه كان قريبا جدا من بداية البشرية، فأين هذا من لسان بنى إسرائيل، وقد سبقهم نوح بكل ذلك الزمن الطويل؟ وهكذا نرى أننا ندور فى حلقة مفرغة، فالأفضل أن نطوى كَشْحًا عن هذه المسألة وننشغل بما يفيد. ثم هل من المعقول أن كل أب فى العهد القديم لم يكن يُقْدِم على اختيار اسم لابنه إلا بعد روية وتفكير وتعمق فى اشتقاقات لفظ التسمية حتى يكون له معنى؟ ألا إن هذا لغريب، وبخاصة فى تلك الأزمان السحيقة فى تاريخ البشرية حيث لم يكن الناس ذوى وعى فكرى ولغوى حاد ونافذ على ذلك النحو المزعوم.
كذلك يقول مؤلف السفر المذكور إن الله قد أعطى نوحا وأولاده قوس قزح علامة على الميثاق الذى عقده مع البشر والذى بمقتضاه لا يقدم سبحانه على إغراقهم كرةأخرى، وإن كنا لا ندرى متى كان ذلك ولا أين لأن العهد القديم لم يقل شيئا عن هذا. وسؤالنا هو: أليس قوس قزح ظاهرة طبيعية تقع كلما توافرت شروطها وأسبابها؟ فكيف يكون علامة على ميثاق بين الله وعباده؟ وهل معنى هذا أن قوس قزح لم يكن له وجود قبل الطوفان؟ كيف؟ وهل الله بحاجة إلى ما يذكره بميثاق واثق به عباده؟ ترى هل هو ينسى أو يسهو؟ أما القرآن فليس فيه شىء من ذلك بتاتا!
أما التسعمائة والخمسون عاما فإنها فى العهد القديم هى عمر نوح على حين يقول القرآن فى سورة "العنكبوت" إن نوحا قد لبثها فى قومه، وهو ما يُفْهَم منه أن تلك هى المدة التى استغرقتها دعوة نوح لا عمره كله. قال تعالى: "وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14)". وثم شىء آخر نخرج به من هذه الآية، ألا وهو أن رسالة نوح كانت محلية. ذلك أنها تقول إنه أُرْسِل إلى قومه، ولبث فى قومه تلك المدة لم يخرج عنهم ولا بعث نيابة عنه أحدا لتبليغ رسالته خارج قومه. ولم يرد فى القرآن عن أى نبى من الأنبياء أنه عالمى الدعوة حاشا سيدنا محمدا، الذى قيل عنه: "وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا"، "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين" وغير ذلك من الآيات، والذى روت لنا كتب السيرة والتاريخ أنه بعث برسائل إلى الملوك والأمراء من حوله يدعوهم فيها إلى اعتناق الإسلام. كما أوضحت الأحاديث النبوية أن رسالته عليه الصلاة والسلام هى الرسالة الوحيدة العالمية بين رسالات الأنبياء، ومنها هذا الحديث الذى رواه مسلم: "فُضِّلْتُ على الأنبياء بسِتٍّ: أُعْطِيتُ جوامع الكلم، ونُصِرْتُ بالرعب، وأُحِلَّتْ لى الغنائم، وجُعِلَتْ لى الأرض طهورا ومسجدا، وأُرْسِلْتُ إلى الخلق كافَّة، وخُتِمَ بى النبيون". وبالنسبة إلى نوح، الذى يذكر العهد القديم ذاتُه أنه كان لا يفصل بينه وبين آدم عدا عشرة أجيال، لا يمكن أن تكون رسالته من الناحية الواقعية والجغرافية عالمية، وإلا فكيف له بتبليغها إلى العالم كله فى ذلك الزمان السحيق حيث لم يكن العالم قد تقارب بعد، بل حيث لم تكن فكرة العالمية ذاتها مطروحة فى دنيا الأفكار والسياسات؟ ثم إن كاتب سفر "التكوين" نفسه لم يقل شيئا من هذا. فكيف تسول لبعض المفسرين المسلمين القدماء أنفسهم القول بأن نوحا كان صاحب رسالة عالمية؟ ومن أين لهم ذلك؟ وممن قال بذلك القاضى عياض: قاله على سبيل الافتراض حلا نظريا لمشكلة اختلقها المفسرون كان ينبغى أن يحتكموا فيها للتاريخ والمؤرخين لا للفكر الافتراضى النظرى، وإن كان عذرهم أن التاريخ فى عصرهم لم يكن قد تقدم إلى الحد الذى يستطيع عنده أن يجيب على السؤال التالى: مَنْ أسبق من الآخر: نوح أم إدريس؟ فهذا هو السؤال الذى كان من جرائه أن افترض القاضى عياض عالمية رسالة نوح وتغييها الناس كافة من كل جنس ووطن كنبينا عليه السلام رغم كل ما أشرنا إليه مما قاله القرآن والرسول والواقع التاريخى عن اختصاص سيدنا رسول الله بعالمية دعوته دون الرسل والأنبياء جميعا.
وفى تفسير الكتاب المقدس المسمى: "William Neil’s One Volume Bible Commentary" أن مقاسات الفُلْك الذى صنعه نوح وسعته من الداخل، طبقا لما ورد فى العهد القديم، لا تتناسب أبدا مع الأعداد الغفيرة والمتنوعة لركابه، الذين كان عليهم أن يعيشوا فيه ويأكلوا، وأننا لو أخذنا ما جاء فى سفر "التكوين" عن الفيضان على حرفيته لكان علينا أن نصدق أن هذا الفيضان قد غمر وجه البسيطة كلها بعمق خمسة أمتار، وهو ما لا علاقة له بالتاريخ البتة. ويُرْجِع التفسيرُ المذكورُ ذلك الاضطرابَ إلى أنه لم تصلنا أية سجلات مكتوبة لتاريخ بنى إسرائيل إلا بعد إبراهيم بألف عام ، وأن ما هو مكتوب فى سفر "التكوين" إنما كُتِب بعد ذلك بعدة قرون ، ولذلك لا ينبغى أن نتوقع الدقة التاريخية بمعناها الحالى فى هذه الأصحاحات لا فى الأحداث ولا فى الحوار.
أما القرآن فلا يذكر أبعاد السفينة ولا يفصّل القول فى الأجناس التى حملها نوح معه فى الفلك ولا فى أعدادها، ومن ثم لا توجد أدنى فرصة للقول بأنه قد أخطأ فى هذا أو ذاك مما يأخذه الآخذون على الكتاب المقدس. وهنا يحضرنى ما قاله د. جيفرى لانج أستاذ الرياضيات الجامعى الأمريكى المسلم فى كتابه: ":Struggle to Surrender النضال من أجل الاستسلام" عن زميل له بالجامعة متخصص فى مقارنة الأديان يقرّ بأن القرآن الكريم أدقُّ من الكتب المقدسة الأخرى فعلا، لكنه عَزَا ذلك إلى عبقرية محمد لا إلى كونه نبيا اختاره الله ليبلغ رسالته. أما وجه عبقريته صلى الله عليه وسلم، حسبما قال الزميل المذكور، فتتلخص فى أنه كان صاحب بصيرة نافذة جعلته، عند اقتباسه من الكتب السماوية السابقة، يتلافى الأسباب التى أدت إلى ما فيها من تناقضات، فكان حريصا على أن ينقّى القرآن من التفاصيل والمقادير والتواريخ والأماكن والأرقام وما إلى ذلك تجنبا للتناقضات التى وقعت فيها تلك الكتب. ويرد لانج على ذلك قائلا إن القرآن ليس مجرد إعادة لما قاله الكتاب المقدس عن الأنبياء السابقين، بل هناك اختلافات بين الروايتين فى كثير من الحالات، فضلا عن أنه يصحح بعض الأشياء فيما يحكيه الكتاب المقدس فى هذا الصدد. مثال ذلك ما قاله العهد القديم عن رحلة يوسف وإخوته إلى مصر عبر سيناء وأنها تمت على ظهور الحمير، تلك الدواب التى لا تصلح للصحراء، بينما يقول القرآن إنهم استخدموا الإبل، والجمل هو سفينة الصحراء كما هو معروف. ومن ذلك أيضا ما اتهم به الكتابُ المقدس سليمانَ عليه السلام من أنه عبد الأوثان وأغضب ربه عليه فى حين ينفى عنه القرآن ذلك تماما. وبالمثل نرى العهد الجديد يؤكد صلب المسيح عليه السلام فى الوقت الذى ينكر فيه القرآن ذلك إنكارا قاطعا... إلخ. فكيف يقال إن النبى محمدا قد اعتمد على ما يقوله الكتاب المقدس بعد أن حذف ما فيه من تفاصيل وأرقام وما إلى ذلك تجنبا للوقوع فى الخطإ؟ ولنفترض أن ما قاله الأستاذ الأمريكى صحيح أفليس غريبا أن يكون محمد، رغم بشريته، أذكى وأحرص وأدق من...؟ ممن؟ لا أريد أن أكمل، بل أترك الأمر للماحية القارئ.
وقد جاءت الآيات التى نحن بصددها من سورة "الأعراف" فى سياق سلسلة من القصص المتتالية عن بعض رسل الله صلى الله عليهم وسلم، تتحدث كل منها عن قوم رسول من الرسل فيفاجأ القارئ بأنهم يتصرفون ذات التصرف ويعاندون رسولهم على نفس النحو ويتهمونه نفس الاتهامات ويؤذونه نفس الإيذاءات، وتكون النهاية واحدة، وهى هلاك الكفار أو اندحارهم أمام طوفان الدعوة الجديدة التى وقفوا فى طريقها وعاندوا صاحبها وكفروا به وبالقيم الكريمة التى أتاهم بها. وهذه القصص كثيرا ما كررها القرآن على مسامع النبى صلى الله عليه وسلم، تثبيتا لفؤاده وتطمينا لقلبه ورفعا من معنوياته فى وجه عصيان قومه وقلة أدبهم، وتحطيما لروحهم الأدبية وتحديا لهم بأنهم لن يستطيعوا أن ينالوا من الدعوة الجديدة منالا مهما أنفقوا من جهد ومال لوقف تقدمها والحيلولة بين الناس وبين الإيمان بها. ومما يلاحظه الإنسان فى القرآن فى مثل هذا السياق أيضا أنه منذ وقت مبكر يلح على أن الدين الذى جاء به محمد منتصر لا محالة، ويدعو المشركين إلى العمل على مكانتهم، ويصكهم فى وجوههم وأنوفهم بأنهم منتهون إلى الفشل لا محيص عن ذلك. وقد انتهى الأمر بانتصار الإسلام على الأديان كلها وانتشاره فى أرجاء الأرض كما قال القرآن والحديث مرارا وتكرارا واندحار أعدائه اندحارا عاتيا رغم كل الإمكانات الجبارة التى كانوا يتمتعهون بها فى الوقت الذى كانت الإمكانات المادية الإسلامية صفرية أو تكاد.
وكثيرا ما تساءلت: لماذا لا يستجيب البشر لنداء الحق والعقل؟ وسرعان ما يواتينى الجواب باترا: لأن البشر ليسوا عقلا فقط ولا هم طلاب حق فقط. إنهم عقل وعواطف وشهوات وأهواء ونزوات وعادات وتقاليد. كما أنهم ليسوا أفرادا منفصلين مستقلين فحسب، بل هم كذلك مجتمع متصل متماسك يؤثر بعضه فى بعض. وبالمثل ليس البشر باحثين عن الحق ساعين وراءه دائما، بل كثيرا ما يجرون وراء الباطل والأوهام والأكاذيب. وفوق هذا قد يُغِذّون السير فى الطريق الخطإ وهم يظنون أنهم يحسنون صنعا وأنهم ماضون على الصراط المستقيم. وقد يكون ضيق الأفق هو السبب فى ابتعادهم عن الصواب وكراهية الحق. وقد يكون الخوف من أصحاب النفوذ هو السبب، وقد يكون الخوف من الجماهير الغاشمة هو السبب، وقد يكون التضليل الذى تمارسه السلطات المجرمة هو السبب، وقد يكون الخوف على المصالح هو السبب، وقد وقد وقد. ثم لا ينبغى أن يغيب عن بالنا الحقيقة المرة المتمثلة فى أن الحق يتطلب من أصحابه تضحيات هائلة مالية ونفسية واجتماعية، كما أنه كثيرا ما جر على ناشده ضروب الأذى والعدوان. وليس كل الناس قادرا على التضحية، ولا القادر عليها مستطيعا الاستمرار فيها. إن البشر بوجه عام ضعاف المُنَّة نافدو الصبر يكرهون ما يزعجهم وما يجلب لهم وجع الدماغ. وقليل ما هم المستعدون لتحمل تبعات المبادئ الراقية. على أن الأمر لا يقف عند هذا الحد، بل إن تراخِىَ الزمن حَرِىٌّ بتفكيك حماسة المتحمسين وإنسائهم واجباتهم ودفعهم إلى الإخلاد للأرض. إن الدنيا خضرة نضرة مغرية، والشهوات عارمة عاتية، والقادرون على الوقوف فى وجهها قليلون قليلون. والناس، حسبما وضح الرسول الكريم، كإبل مائة لا نكاد نجد فيها راحلة. وكاتب هذا الكلام لا يستثنى نفسه من ذلك، وكل ما يرجوه ويأمله هو ألا يكون بين أسوئهم، بل أن يكون فيه أَثَارَةٌ من الخير لنفسه وللنا س من حوله ولدينه ووطنه.
والغريب أن ينقلب الوضع فيهاجم الضالون المضلون أهل الخير والتقى والصلاح والاستقامة بالضلال، متهمين إياهم بما فيهم هم على طريقة "رمتنى بدائها وانْسَلَّتِ" بل على ما هو من هذه الطريقة لأن المشركين حين يرمون النبيين والمرسلين بدائهم لا ينسلّون مبتعدين عنهم بل يؤذونهم ويتآمرون عليهم ويضعون فى طريقهم العقبات ويعملون بكل سبيل على إفشالهم وإخزائهم، وكثيرا ما يخططون لقتلهم، وكثيرا ما ينجحون فى هذا التخطيط، وبدلا من أن ينظروا فى أنفسهم ليَرَوْا عيوبَهم ويصلحوا شأنهم ها هم أولاء يعيبون الصالحين ويقولون عنهم إنهم هم الضالون. ومن شأن هذا الوضع تعقيد الأمور والبعد عن طريق الحل. وأغرب من ذلك أن يجد الرسل أنفسهم فى وضع يتطلب منهم نفى هذه التهمة الظالمة الضالة عوضا عن أن يقوم الكافرون المنحرفون بنفض هذه التهمة عن أنفسهم. ولا ريب أن كثرة المعادين للرسل، وهم المجتمع كله تقريبا فى البداية، تصعِّب من مهمتهم أيما تصعيب. نعم إن الأمر قد تخف حدته مع توالى الأيام، لكنه يأخذ وقتا، ومع ذلك فإن نقص حدة المشكلة لا يعنى اختفاءها بل يعنى فقط أنها لم تعد بنفس الدرجة من الشدة والتعقيد، لكنها موجودة وتحتاج من الرسول إلى جهود غير عادية. إنها الكثرة والقوة المادية الغشوم. وهو عامل خطير لا ينبغى التهوين من شأنه، فهو سبب كثير مما يقع للرسل والأنبياء والمصلحين من مصائب وبلايا، وكوارث فى غير قليل من الأحيان حتى ليُقْتَل النبيون أحيانا كما أخبرنا القرآن الكريم فى بعض آياته، ومثلهم فى ذلك دعاة الخير والمتمسكون به. كما يثير العجب والاستغراب أن ينكر ويستنكر قوم نوح اصطفاء الله له للنبوة على أساس أنه واحد من البشر لا يفترق عنهم بشىء، وفاتهم أن يباركوا هذا الاصطفاء لأنه يبين أن الجنس البشرى، الذين ينتمون إليه ويشكلون جزءا منه، مؤهل للقيام بذلك الدور العظيم، وهو ما يعد تكريما لذلك الجنس ولهم أيضا بالتبعية. أم تراهم يريدون أن يقولوا: ولماذا اختار واحدا من البشر مثلنا، ولم يخترنا نحن؟ وهذا افتئات على الله لأنهم، بهذه الطريقة، يريدون أن يعترضوا على مشيئة الله ويعدّلوا اختياراته. فهل يحق هذا لمخلوق؟
ويلاحظ القارئ أن الكفار قد اتهموا نوحا بأنه فى ضلال مبين، بينما قال هو نافيا ذلك الاتهام الغاشم: "ليس بى ضلالة"، فاستعملوا هم "الضلال"، أما هو فقد استخدم "الضلالة". وأتصور أنه يريد بهذه الصيغة نفى كل أثر للضلال عن نفسه بأى مقدار وإلى أية درجة. فالضلالة فى تصورى هى القطعة الضئيلة من الضلال. وقد ألفيت بعض المفسرين، كالزمخشرى والرازى وابن الأثير والتفتازانى، يقولون عن "الضلالة" إنها للواحد من اسم الجنس، الذى هو "الضلال". فكلامهم إذن قريب مما فهمته من استعمال هذه الصيغة. والملاحظ أيضا أنه، عليه السلام، لم يصف الضلالة التى ينفيها عن نفسه بـ"المبينة" مثلما قالوا هم فى اتهامه إنه "فى ضلال مبين". ذلك أنه، بالطريقة التى رد بها عليهم، قد نفى كل ضلال عن نفسه، فى حين لو قال: "ليس بى ضلالة مبينة" لكان المعنى أنه ليس به ضلالة مبينة، ولكن قد يكون به ضلالة غير مبينة. أما بالأسلوب الذى استخدمه فإنه ينفى الضلالة عن نفسه تماما.
وكان ينبغى، لو عقل الكفار والمجرمون، أن يفهموا أن نوحا وأشباهه من الأنبياء والرسل ليست لهم أية مصلحة فى تعريض أنفسهم لغضب الجماهير والزعماء وأذاهم وتآمرهم الذى يصل أحيانا إلى حد القتل والاغتيال والمحاكمة الظالمة التى لا تستشعر الخوف من الله أو تحرج الضمير. ويوم تُصِيخ الجموعُ من متعلمين وغير متعلمين السمعَ للنبىّ أو المصلح ويصطفّون خلفه مستعدين للتضحية المُرّة تنقلب الأمور انقلابا سريعا يكون إيذانا باعتدال الأوضاع المائلة وعودتها إلى الانتظام. إلا أن وقوع ذلك صعب شديد الصعوبة، فغالبية الشعوب، وبخاصة فى الدول المتخلفة، عادة ما ينقصها الوعى، وهى مشغولة بغرائزها وحاجاتها الجسدية المباشرة، وكثير منها يكره التفكير ويبغض التضحية ولا يرغب فى مواجهة الظلم، ويخشى أشد الخشية مَنْ يملكون أدوات البطش والتنكيل ويتبعهم مغمض العين مغيب الذهن، ويهتف ملء حنجرته لهم ويقبل أقدامهم. وخى تجد فى هذا لذة وبهجة لا توصف، وكأنها قد حِيزَتْ لها الدنيا وما فيها، كل ذلك رغم ما تتقلب فيه من حرمان وهوان وإذلال ونكال على أيدى مالكى أدوات البطش والتنكيل. والأمل معقود على الصفوة: صفوة الوعى السليم والخلق القويم والكرامة العزيزة، تلك الصفوة التى لا تنكص عن المواجهة وتتحمل الأذى وتصبر على لأواء الطريق وتحتسب عند الله ما تلقاه فى ذلك من ألم وحرمان وفضيحة وتشهير وتعرض للسجن والقتل، إلى أن يحين الحين وتستنير عقول الجموع ويصحو إحساسها بإنسانيتها وكرامتها وتُفِيق من غشيتها وتعرف عدوها من صديقها وتستطيع التمييز حقا بين من يعمل لمصلحتها ومن يبغى بها شرا ومضرة، وهذا يحتاج إلى وقت طويل. ورغم أن الرسل والنبيين لا يطلبون من أقوامهم أجرا على دعوتهم، وهو ما كان من شأنه أن يفتح عيون أولئك الأقوام على حقيقة أمرهم وأنهم مخلصون فى دعوتهم لا يبغون من ورائها مصلحة لهم، فإن المشركين يركبون أدمغتهم ويظلون على موقفهم الرافض لدعوة الحق، المبغض لفتح الأذن والعين والاستماع المخلص لما يقال، بل يرفضون أن يعطوا النبى فرصة لتبليغ كلمته وتوضيح مرامه.
وقد كانت غاية رسولنا عليه السلام أن يخلى المشركون بينه وبين تبليغ دعوته حتى يفكر الناس فيما أتى به محكِّمين عقولهم نافضين عن أنفسهم ربقة التقليد الأعمى لما عليه مجتمعهم: "قل: إنما أَعِظُكم بواحدةٍ: أن تقوموا لله مَثْنَى وفُرَادَى ثم تتفكروا"، "لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها. أولئك كالأنعام بل هم أضلّ. أولئك هم الغافلون"، "قل: انظروا ماذا فى السماوات والأرض. وما تُغْنِى الآياتُ والنُّذُرُ عن قومٍ لا يؤمنون؟"، أى لا يريدون أن يفكروا فيؤمنوا، "اِيتُونِى بكتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أو أَثَارةٍ من علمٍ إن كنتم صادقين"، "قالوا: إنا وجدنا آباءنا على أُمَّة، وإنا على آثارهم مقتدون/ مهتدون"، "والذين لا يؤمنون فى آذانهم وَقْرٌ، وهو عليهم عَمًى". لكنهم كانوا يؤثرون العمى على الإبصار، والانغلاق على الانفتاح، والبقاء فى الظلام الدامس والعفن والروائح المنتنة على الخروج إلى نور الشمس والهواء الطلق والحياة الطاهرة الكريمة.
ومن هنا نجد القرآن الكريم يصف قوم نوح فى عنادهم وتحجر عقولهم وانغلاق عيونهم بأنهم "كانوا قوما عَمِين". و"عمين" صفةٌ مشبَّهةٌ من "عَمِىَ يَعْمَى"، مثلها مثل "أعمى". أى أن لدينا صيغتين للصفة المشبهة من هذا الفعل. وقد استخدم القرآن فى فاصلة الآية "عَمِين" (جمع "عَمٍ") بدلا من "عُمْى"، التى هى جمع "أعمى"، والتى تقابلنا فى سياقات أخرى فى درج الآية. وبعض المتنطعين من المستشرقين والمبشرين ومن يقفو آثارهم كالببغاوات يقفون إزاء استعمال القرآن لبعض الصيغ غير المشهورة فى فواصله زاعمين أنه قد تنكب الصواب من أجل القافية. وكنت أقول دائما إن هذا غير صحيح، وكل ما فعله القرآن هو أنه استغل إمكانية من إمكانيات اللغة ليواجه بها الموقف الجديد الذى لا تنسجم معه الصيغة المشهورة، والموقف هنا يستلزم صيغة تتناغم مع الفواصل التى تنتهى بـ"ـون" و"ـين"، مما يصلح له "عمين" ولا يصلح له "عُمْيًا". ومثلها فى ذلك مثل "أَرْذَل"، التى جُمِعَت فى درج الآية فى سورة "هود" على لسان الكفار من قوم نوح يحقرون من شأن متبعيه جمعا مكسرا: "أراذل": "وما نراك اتَّبَعَك إلا الذين هم أَرَاذِلُنا بادِىَ الرأى"، على حين أتت فى سورة "الشعراء"، وفى نفس السياق أيضا، بصيغة جمع المذكر السالم: "الأرذلون" حتى تتمشى مع فواصل الآيات هناك، وهى "ــون".
ومن ذلك ما رأيته فى بعض كتب المبشرين المتخلفين الجاهلين من أن القرآن قد حرَّف كلمة "سيناء" إلى "سِينِين" فى سورة "التين" كى تتماشى مع فواصل السورة، غافلين بحماقتهم أن كثيرا من الكلمات لها أكثر من ضبط، وبخاصة الأعلام الأعجمية. ولنا فى اسم "محمد" فى الإنجليزية مثلا أسوة، إذ له كثير من الصور والأشكال: إملائية ولفظية حسبما جاء فى "قاموس أكسفورد التاريخى": "Mahound, Mahond, Mahomet, Mehemet, Macamethe, Machamete, Macamete, maumet, Makomete, Makamete, Machomete, Machomet, Machamyte, Macomit(e, -yt(e, Mahomet(t)e, -ite, Mahumet, Mahone, mahume, mahoon, maon, mahonna, mahonne, mahona, maona, Mohamed, Muhammed, Mohammad, Muhammad, mahonnets ". أما الكلمة المذكورة فيصحّ فى العربية أن نقول عنها: "سَيْناء" و"سِيناء" و"سِينا" و"سِينِين". بل هناك من يقول إن "سِينِين" إنما تكون فى حالة النصب والخفض فحسب، أما فى الرفع فـ"سِينُون". وفاتهم فى غمرة عنادهم أنه لو كان هذا الاستعمال خاطئا ما سلم الرسول عليه السلام من الاستهزاء والتخطئة من قِبَل الوثنيين وأهل الكتاب الذين كانوا يتربصون به الغلط. لقد كانوا يشنعون عليه فى الحق الذى يبصره الأعمى، فكيف فاتهم أن يشنعوا عليه فى هذه الغطلة البلقاء طبقا لتساخف هؤلاء الأعاجم الجهال؟
وعلى أية حال ها هو ذا الأعشى الشاعر الجاهلى يستخدم هذه الصيغة بكل أَرْيَحِيَّة:
أَلَمَّ خَيالٌ مِن قُتَيْلَةَ بَعْدَما وَهَى حَبْلُها مِن حَبْلِنا فَتَصَرَّما
فَبِتُّ كَأَنِّي شارِبٌ، بَعْدَ هَجْعَةٍ، سُخَامِيَّةً حَمْراءَ تُحْسَبُ عَنْدَما
إِذَا بُزِلَتْ مِنْ دَنِّها فاحَ رِيحُها وَقَد أُخْرِجَتْ مِنْ أَسْوَدِ الجَوْفِ أَدْهَما
لَها حارِسٌ ما يَبْرَحُ الدَّهْرَ بَيْتَها إِذا ذُبِحَتْ صَلَّى عَلَيْها وَزَمْزَما
بِبَابِلَ لَم تُعْصَر، فَجاءَت سُلافَةً تُخالِطُ قِنْديدًا وَمِسْكًا مُخَتَّما
يَطُوفُ بِهَا ساقٍ عَلَيْنا مُتَوَّمٌ خَفِيفٌ ذَفِيفٌ ما يَزَالُ مُفَدَّما
بِكَأْسٍ وَإِبْريقٍ كَأَنَّ شَرابَهُ إِذَا صُبَّ في المِصْحَاةِ خالَطَ بَقَّما
لَنا جُلَّسَانٌ عِنْدَها وَبَنَفْسَجٌ وَسيسِنْبَرٌ وَالمَرْزَجوشُ مُنَمْنَما
وَآسٌ وَخِيرِيٌّ وَمَرْوٌ وَسَوْسَنٌ إِذا كانَ هِنْزَمْنٌ، وَرُحْتُ مُخَشَّما
وَشاهَسْفَرِم وَالياسَمِينُ وَنَرْجِسٌ يُصَبِّحُنا في كُلِّ دَجْنٍ تَغَيَّما
وَمُسْتُقُ سِينِينٍ وَوَنٌّ وَبَرْبَطٌ يُجاوِبُهُ صَنْجٌ إِذا ما تَرَنَّما
وَفِتْيانُ صِدْقٍ لا ضَغَائِنَ بَيْنَهُم وَقَد جَعَلوني فَيْسَحَاهًا مُكَرَّما
وبطبيعة الحال لم يكن كفار قوم نوح عُمْيًا بالمعنى الحقيقى، بل كانوا مبصرين، إلا واحدا هنا وآخر هناك مما لا يخلو منه مجتمع. لكن القرآن رغم ذلك وَسَمَهم جميعا بالعمى، وهذا مجاز، وإن أنكر بعض الناس وقوع المجاز فى القرآن تحت ذرائع شتى منها أن المجاز كذب، وحاشا لله أن يكذب. هكذا يقولون مسوغين إنكارهم ورود المجاز فى القرآن المجيد، ناسين أن المجاز ليس كذبا إلا بالنسبة للأغبياء المطموسى العقل والذوق، وإلا فهل إذا قلت إننى سودت وجه فلان، أى أخجلته وأخزيته، أو بيضت وجه علان، بمعنى أننى كنت عند حسن ظنه بى وأدخلت على قلبه البهجة والفخار باجتهادى ونجاحى وتفوقى، سوف يأخذ الكلام على محمله الظاهرى ويظننى قد أتيت بدلو فيه حبر فدهنت به وجه فلان، أو سَطْل جِير فطليت به وجه علان؟ إن هذا لا يمكن أن يخطر فى بال أحد إلا إذا كان أحمق حمقا ميئوسا من شفائه، ومثله لا يوضع فى الحسبان. ولتكتمل الصورة ها هم أولاء الذين سوف يُحْشَرون يوم القيامة عميا يقولون إنهم كانوا فى الدنيا مبصرين مع أن القرآن قال إنهم كانوا عميا على الأرض. وللخروج من هذا التناقض الظاهرى لا مجال أمامنا من القول بالمجاز، وإلا اضطربت الأمور كما نرى. إن كلتا الصيغتين صحيحة، واستعملها القرآن فى السياق المناسب لها، ولم يكسر قاعدة من أجل ذلك، وهذا هو رأيى، الذى أعلنه فى كل مناسبة من هذا القبيل.
ولمن يزعم أن المجاز كذب نقول له: إذن فالبشر كلهم كذابون حين يسترون عوراتهم ويجملون مناظرهم بارتداء الملابس، إذ الملابس تخفى حقيقة أشكال أجسادهم وتعطينا صورة عنهم غير صورتهم التى خلقهم الله عليها، وكذلك حين يقومون من النوم فيَشُوصُون أفواههم بالسواك أو بالفرشاة ومعجون الأسنان مغيّرين بذلك روائح فمهم المزعجة التى كانت لها عند النهوض من السرير، وأيضا حين يستحمّون متخلّصين من الوَضَر والتَّفَث الذى كان على أجسادهم، وكان ينبغى، استنادا إلى هذا الفهم السقيم، تركها بروائح عرقها وإفرازاتها. وبالمثل فإن النساء كذابات عندما يلبسن حليهن ويزلن الزغب النابت فوق شفاههن والشعر من بعض مواضع أجسامهن. كما يمكن، بهذه الطريقة، اتهام البشر بالكذب عندما يتعلمون وينسلخون من حالة الجهل التى خلقهم الله عليها إذ نزلوا من بطون أمهاتهم بِيضَ الأذهان لا يعلمون شيئا... وهكذا دواليك بما من شأنه أن يبقى الإنسان أبد الدهر فى مستوى العجماوات عقلا وذوقا وخلقا. ولو اتبع الناس فى مختلف نواحى الحياة هذا المنطق فقل: على الدنيا العفاء، ولما كانت هناك حضارة وفكر وخلق وذوق جميل. لكن ماذا نقول، وهناك قلوب تكره أن تنفك عنها أقفالها؟
كما أنهم يقولون إن واضع اللغة أراد فى الأصل كل المعانى التى ترتبط بالكلمة، فلا مجاز إذن، بل كل المعانى حقيقية. لكن فاتهم أن المعانى التى نسميها مجازية لم تكن موجودة منذ البداية بل تجدُّ مع الأيام، وقد تنجح وتشيع، وقد تفشل فلا تنتشر، وإلا فهل دار فى ذهن من اخترع كلمة "القرش" أن منه القرش الأبيض والقرش الأسود، وأن من تلفظ لأول مرة بكلمة "اليوم" أن هناك يوما أبيض وآخر أسود أو أحمر أو أصفر أو أخضر؟ ثم إذا كان أهل اللغة، ومنهم أهل لغة الضاد، يعتمدون المجازات فى كلامهم ولا يمكنهم الاستغناء عنها، وكان الرسل يُرْسَلون إلى أقوامهم بألسنة أولئك الأقوام، فكيف ننكر أن يكون فى القرآن مجاز، والعربية تفيض بالمجازات مثلها مثل سائر اللغات، بل وتزدان بها وتحلو وينتشى سامعها ويبتهج؟
وقد فات منكرى المجاز أن ألفاظ اللغات، مهما كثرت واستفاضت، متناهية فى حين أن حاجات أهلها غير متناهية، فيأتى المجاز ويسد هذه الفجوة على نحو ممتع جميل، فنجد أمامنا "عين" الماء، و"العين": الجاسوس، و"العين": الرجل ذا الحيثية فى المجتمع، و"عين" الإبرة، و"عين" السمكة، و"عين" الرضا، و"عين" السخط، و"العين": الشىء المادى فى مقابل قيمته النقدية، وفلانا "عينه"، بمعنى أنه هو الذى جاء مثلا بنفسه ولم يرسل نائبه ولا ابنه ولا شريكه... وهَلُمَّ جَرًّا. وعلى هذا نفهم قوله تعالى: "ومن كان فى هذه أعمى فهو فى الآخرة أعمى وأَضَلُّ سبيلا"، وإلا كان العُمْىُ مكتوبا عليهم الشقاء فى الدنيا والآخرة دون أدنى سبب من جانبهم بل ظلما وإجحافا إن فهمنا العمى على وجهه الظاهرى، ولم ندرك أنه مجاز.
وقد كنت أقول لبعض طلابى الذين ينكرون المجاز إننا لو لم نعترف به ونفسر اللغة فى ضوئه لتصادمت النصوص القرآنية، إذ نجد آية تنفى النسيان عن الله سبحانه، وأخرى تنسب النسيان إليه، وآية تصف الله بالغنىّ الذى يَرْزُق ولا يريد من أحد رزقا، وأخرى تغرينا بأن نقرضه، وكأنه محتاج إلى القروض مما انتهزه اليهود فى المدينة فسخروا قائلين: "إن الله فقير، ونحن أغنياء". وهذان مجرد مثالين لا غير. ولا مناص من اعتماد المجاز هنا، وتأويل النسيان الإلهى والقرض الذى ينبغى أن نقرضه الله سبحانه، وإلا فهذه الطامة الكبرى.
وأذكر مرة أننى قلت لبعض من يصرون على القول بأن الله فى السماء، وكأنه مخلوق يحتويه المكان: ماذا تقولون فى النص الكريم التالى: "وهو معكم أينما كنتم"؟ فيقولون: معنا بعلمه، فأقول لهم: بهذا تكونون قد أَوَّلْتُم النص وقلتم بالمجاز لأن القرآن يقول إنه سبحانه هو الذى معنا لا عِلْمه، فيُسْقَط فى أيديهم. كما لفتُّ انتباههم إلى ما فى القرآن من أنه تعالى "فى السماء إله، وفى الأرض إله"، وهو ما يخالف ما قالته الجارية فى الحديث المشهور من أن الله موجود فى السماء، ذلك الحديث الذى يقول فيه كعب بن مالك: "أتت جاريةٌ لى ترعى غنمًا لى، فأكل الذئبُ منها شاةً، فضربتُ وجهَ الجاريةِ فندمتُ فأتيتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، لو أعلمُ أنها مؤمنةٌ لأعتقتُها. فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ للجاريةِ: من أنا؟ قالت: رسولُ اللهِ. قال: فمن اللهِ؟ قالت: الذى في السماءِ. فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: أَعْتِقْها، فإنها مؤمنةٌ"، وإن كانت هناك رواية أخرى يفهم منها أنها جارية عكاشة الغنوى، وليست جارية كعب بن مالك. ثم أضفتُ قائلا: إذا كان الله فى السماء حسب الفهم الحرفى لهذا الحديث فماذا أنتم فاعلون مع قوله جل جلاله: "والأرضُ جميعا قَبْضَتُه يومَ القيامة، والسماواتُ مطويَّاتٌ بيَمِينِه"، فضلا عن أن القول بأن الأرض قبضته جل وعلا وليست فى قبضته هو أيضا مجاز؟ نعم كيف يكون سبحانه فى السماء، ثم يوم القيامة يكون الكون كله، أرضًا وسماواتٍ، فى قبضته ويمينه؟
وهل يعقل أن يكون الله خالق المكان والزمان موجودا بداخل أى منهما؟ وإذا كان الله فى السماء ففى أى مكان يا ترى؟ ولقد قرأت فى تفسير الطبرى خبرا مؤداه أنه لو دُلِّىَ أحدُهم بحبل لهبط على الله! وكأن للارض حافَةً كحافَة الجبل يستطيع الواحد منا أن يجلس عليها ويدلى رجليه على راحته وقد أمسك بحبل مربوط فيه رَجُلٌ ثم يتركه يكرّ نازلا إلى الأسفل! والمهم أن يكون الحبل طويلا بما فيه الكفاية حتى يصل من الناحية الأخرى، وهى الناحية السفلية، إلى الله. وتأمل الأدب مع الذات الإلهية! وعلى هذا النحو يتصور بعض الناس الألوهية التى لا يحدها حد لأن الله هو الأول والآخر والظاهر والباطن، ويريدون أن يتابعهم الآخرون على فهمهم هذا، وإلا كانوا مارقين خارجين من الملة. ومع هذا كنت أنتهى بالقول بأن من حقهم رغم ذلك البقاء على ما هم عليه، وإن كنت أستغرب منهم هذا أشد الاستغراب مع تَفَهُّمِيهِ فى ذات الوقت على ضوء الاختلاف الذى خلق الله دنياه ومخلوقاته والعقول البشرية عليه. وكل ما أريده منهم ألا تأخذهم الجلالة ويتهموا القائلين بالمجاز القرآنى فى عقيدتهم.
وهذا هو الخبر كما ورد أثناء تفسير الطبرى للآية الثالثة من سورة "الحديد": "حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: "هُوَ الأوَّلُ والآخِرُ والظَّاهِرُ والباطِنُ": ذُكِر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم بينما هو جالس في أصحابه إذ ثار عليهم سحاب، فقال: هل تَدْرُونَ ما هذا؟"قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: فإنَّها الرَّقِيع: مَوْجٌ مَكْفُوفٌ، وَسَقْفٌ مَحْفُوظٌ. قال: فَهَلْ تَدْرُونَ كَمْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَها؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: مَسِيرَةُ خَمْسِمِئَةِ سَنَةٍ. قال: فَهَلْ تَدْرُونَ ما فَوْقَ ذلكَ؟ فقالوا مثل ذلك. قال: فَوْقَها سَماءٌ أُخْرَى، وَبَيْنَهُما مَسِيرِةُ خَمْسِمِئَةِ سَنَة. قال: هَلْ تَدْرُونَ ما فَوْقَ ذلك؟ فقالوا مثل قولهم الأوّل. قال: فإنَّ فَوْقَ ذلكَ العَرْشَ، وَبَيْنَهُ وَبَينَ السَّماءِ السَّابِعَةِ مِثْلُ ما بَينَ السَّماءَيْن. قال: هَلْ تَدْرُونَ ما الَّتِي تَحْتَكُمْ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: فإنَّها الأرْضُ. قال: فَهَلْ تَدْرُونَ ما تَحْتَها؟ قالوا له مثل قولهم الأوّل. قال: "فإنَّ تَحْتَها أرْضاً أُخْرَى، وَبَيْنَهُما مَسِيرَةُ خَمْسِمِئَةِ سَنَةٍ" حتى عدّ سبع أرضين بين كلّ أرضيْن مسيرة خمسمئة سنة، ثم قال: وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ دُلِّيَ أحَدُكُمْ بِحَبْل إلى الأرْضِ الأُخْرى لَهَبَطَ على اللّه. ثُمَّ قرأ: هُوَ الأوَّلُ والآخَرُ والظَّاهِرُ والباطِنُ وَهُوْ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ".