|
صورتان على جدار الوحدة
انسحب من وسط ضجيج العزف والأغانى ,أعطى ظهره لكل الراقصين والمهنئين , وذهب إلى مقعد فى زاوية غير مرئية فى آخر القاعة حيث يستطيع أن يرى الجميع ولا يستطيع أحد أن يراه .
جلس مسندا ظهره إلى المقعد ناظرا إليها فى انبهار وسعادة ممتزجتين بالحزن والألم .
إنه اليوم الذى يتمناه أى أب , اليوم الذى تصبح فيه إبنته عروس جميل تتغنى الدنيا بجمالها ويحسدها القمر على تألقها النورانى الربانى .
ولكن بدأت المشاعر تثور عليه , اليوم ستودع بيته , وحياته ودنياه وتنتقل إلى دنيا أخرى وحياة جديدة مع رجل اخر فى بيت اخر وحياة أخرى .
آه , زفرها عالية موجعة حارة حتى كاد الجمع الراقص والصاخب أن يسمعها .
- كم أحبك يا إبنتى الغالية
قالها بحروف غير مسموعة متمنيا أن تهب الرياح لتحملها إليها وهى هائمة مع حبيبها فى دنيا جميلة , ولكن للأسف تلك الدنيا لن يكون له دور فيها , دنيا لاتتسع إلا لإثنين فقط ..هى وحبيبها .
عزفت الموسيقى الختامية معلنة نهاية حفل الزفاف وعلى العريس أن يأخذ عروسه إلى منزل الزوجية , قام متثاقلا يجر قدميه الرافضتين الحراك راسما على شفتيه إبتسامة كاذبة محاولا أن يكفكف دموع عيناه التى يبكيها قلبه .
نظر إليها من بعيد قائلا :
- أحان وقت الفراق ؟
هطلت دمعة خائنة كشفت اللثام عن قوته المصطنعة , مسحها بيده مسرعا كأنها العار , وصل إليها كم هى متألقة , شعر بإرتعادة تسرى فى جسدها المرمرى الرائع , فتح ذراعيه لها كما كان يفعل عندما كانت صغيرة , لم تخذله فهى إبنته الصغيرة مهما كبرت , وحتى فى يوم زفافها ستظل إبنته الصغيرة .
ضمها إليه بقوة ناظرا بعينيه إلى زوجها الواقف جواره ينتظره أن ينتهى كى يحملها إلى الجنة المنتظرة , تمنى أن تعود طفلة مرة ثانية , وتمنى ألا تخرج من حضنه أبدا , ولكنه تركها .
شعر باختناق شديد , دموع ثائرة على باب عينيه تريد التحرر من تلك المقلتين المتحجرتين بحجارة لبنية مصطنعة .
أسرع إلى الخارج متعللا بأنه سيعد لهما السيارة , نظرت له وهمست فى أذنه :
- لاتتركنى مهما كان.. أريدك بجانبى حتى النهاية .
لم يستطع التحمل خارت كل قواه , حاول أن يصرخ قائلا :
- أرجوك لاتتركينى , ولكنه لم يستطع .
ضم يدها إلى يده ووقف على الجانب الآخر من زوجها , مشبكا يده بيديها بكل قوة ممكنة .
وسارت هى بين رجل يستعد لأن تدخل حياته , ورجل يستعد لأن تخرج من حياته .
وصلوا الثلاثة إلى السيارة , أصر على أن يفتح لها الباب , وأن يقود السيارة بنفسه .
صرخت رافضة قائلة :
- كيف تفعل ذلك ؟ أتقود السيارة بنفسك ؟
أجابها وهو يقبل يديها :
- أريد أن أوصلك بنفسى إلى المنزل .
نظرت فى عينيه ولم تتمالك نفسها فدخلت فى حضنه قائلة :
- كم كنت أتمنى أن تكون أمى معنا الآن يا أبى !!
إعتصرته الجملة غير المتوقعة نهائيا , ربت على رأسها قائلا وهو يتصنع الإبتسام :
- هيا يا حبيبتى زوجك ينتظرك .
نظرت متعجبة من إجابته , ولكنه لم يعطيها الفرصة للتعجب أو الإستفسار .
فتح الباب منحنيا إنحناءة خفيفة قائلا بلغة نوبية ضحك منها الجميع :
- إتفضلى يا هانم .
دخلت إلى السيارة وكأنها أميرة وبجوارها فارس الأحلام .
دلف إلى المقعد الأمامى ضابطا وضع المرآة بحيث يتمكن من رؤيتها .
فى الطريق مر شريط الذكريات أمام عينيه كما تمر السيارات المسرعة , كانت عيناه حائرة بين الطريق وبينها .
وصلوا إلى المنزل صعد معها , فتح لهما الباب , دخلا , وقف متسمرا أمام الباب ولم يتحرك .
سألته
- ماذا بك ؟ لماذا لم تدخل ؟
نظر اليها طويلا ممسكا بمقبض الباب قائلا :
- هنا ينتهى دورى , أحبك , وداعا .
أغلق الباب خلفه دون أن يترك لها المجال كى تجيبه , لم ينظر لها مع أنه متأكدا أنها فتحت الباب تناديه , كإبن العشرين أخذ يقفز على درجات السلم حتى وصل إلى الدور الأرضى , هنا أدرك أن عمره تعدى الخمسين بثلاث خطوات , شعر بألم حاد فى صدره , دلف إلى سيارته وأسرع إلى منزله .
أغلق بابه وكأنه يغلق على عمر وحياة مضت , شعر أن كل ركن فى المنزل غريب , ولكن الشىء الوحيد الموجود كان رائحتها التى تملأ المكان.
دخل إلى غرفتها , إقترب من فراشها مازال يحمل آثار جسدها .
استلقى مكانها محتضنا الوسادة الصغيرة وترك لدموعه العنان فروت خديه الجافين .
شعر بعطش شديد , دون أن يدرى نادى عليها !
إنصعق من جراء مافعله .
قام من على الفراش .. خلع صورتها الكبيرة , دخل غرفة نومه , علق صورتها جوار صورة والدتها التى رحلت منذ سنوات قليلة .
إستلقى على فراش الوحدة ناظرا إلى الصورتين المعلقتين فوق جدار الوحدة .
شعر ببرودة شديدة , ضم ركبتيه إلى صدره وراح فى سبات عميق .
يحيي هاشم
10/8/2005 |
|