النحو .. والقرآن
يعترض بعض الحداثيين والعلمانيين على القرآن الكريم، ببعض آياته التي أتت على غير الشائع نحوياً، ويظنون أن ذلك ينقص من شأن الكتاب العزيز.
ولئلا يلتبس هذا الاعتراض على بعض الناس يمكن القول بأنه عادة ما يلجأ المسلم إلى أقوال علماء النحو واللغة، وفيها تخريجات نحوية للإشكال المتوهم في الآية،وغالباً ما يشير ـ العالم ـ إلى أن الإشكال المتوهم هو لغة جائزة عند العرب.
لكن العلمانيين والحداثيين يحاكمون القرآن الكريم إلى منهج القواعدالنحوية !
ويظنون أن القواعد النحوية حاكمة على القرآن ! وهذا جهل فاضح بنشأة علم النحو.
إن علم النحو ليس علماً عقلياً، بمعنى أن سيبويه ـ مثلاً ـ لم يعتمد على التفنن العقلي في تقرير قواعد النحو، ولكنه علم مبني على الاستقراء.
فسيبويه ـ مثلاً ـ أخذ يحلل كل النصوص الواردة عن العرب، من شعر وخطابة ونثر وغير ذلك، فوجد العرب دائماً يرفعون الفاعل في كلامهم، فاستنبط من ذلك قاعدة " الفاعل مرفوع " .. وهكذا استنتج " قاعدة نحوية " سطرت في كتب النحو، ليتعلمها الأعاجم فيستقيم لسانهم بالعربية.
ثم إن العرب لم تكن لهم لهجة واحدة، ولم تكن كلها تسير على نفس القواعد النحوية ذاتها.
وليس معنى ذلك أنه كان لكل قبيلة " نحوها " الخاص بها، بل اشتركت كل قبائل العرب في معظم القواعد النحوية المشهورة الآن؛ لكنها لم تجتمع على كل تلك القواعد بعينها.
بقي أن نعلم أن أهم مصادر العلماء التي اعتمدوا عليها في الاستقراء هو القرآن الكريم نفسه!
لأن القرآن أصدق صورة لعصره، ليس فقط عند المسلم، ولكن عند جميع الناس، فحتى أولئك الذين لا يؤمنون بمصدره الإلهي، يؤمنون بأن القرآن أصدق تمثيل لعصره في الأحداث التاريخية والعادات الجارية واللغة وقواعدها.
فعلماء النحو يستدلون على صحة قاعدة نحوية ما بورودها في القرآن، ليس في قراءة حفص عن عاصم فقط، بل في أي قراءة متواترة أخرى، فالقرآن ـ عند النحاة ـ هو الحاكم على صحة القواعد النحوية وليس العكس.
أما العلمانيون فحينما يقرؤون ما أتى به المسلم من تخريجات نحوية للعلماء،يظنون أن أقوال العلماء هي مجرد محاولات للهروب وإخفاء الحقيقة !
والحقيقة الثابتة ـ عندهم ـ أن القرآن الكريم فيه أخطاء نحوية! وهذا ناتج عن جهلهم بنشأة علم النحو، وبكيفية تدوين العلماء للقواعد النحوية.
ومن الطريف في الأمر، أن العلمانيين يعترضون على المخالفات النحوية في الآيات القرآنية، ولا يدرون من رصد هذه المخالفات!
فكل ما يكتبه العلمانيون حول ما يسمونه " أخطاء نحوية في القرآن" ليس من كلامهم ولا من بنات أفكارهم، بل يجترون هذا الهراء كما كتبه المستشرقون الأعاجم أمثال " نولدكه" وغيره الحاقدين على الدين والقرآن؛ والجاهلين باللغة العربية.
وحتى هؤلاء المستشرقون الذي كتبوا ما أسموه " أخطاء نحوية في القرآن " لم يتأملوا القرآن ليدركوا أن فيه أخطاء، بل قرؤوا كتب التفسير وكتب النحو التي ألفها علماء العربية الأفذاذ، الذين كانوا يجرون على منهج علمي محكم سديد، فاستقرؤوا ما نقل عن العرب، وعاشوا بين الأعراب ونقلوا كلامهم وأشعارهم ، وحللوه تحليلاً مرهفاً ، ثم استنبطوا قواعد على لسان العرب.
قرأ المستشرقون ذلك، وأخذوا يتتبعون ما رصده " علماء المسلمين " أنفسهم، من ورود آيات قرآنية موافقة لقواعد نحوية لم تنل حظاً من الشهرة مثل غيرها، فظن المستشرقون أنهم بذلك قد وجدوا بغيتهم! فجمعوا ذلك ـ عدواً بغير علم ـ واقتطعوا من الكلام ما ظنوه يخدمهم، ساعدهم على ذلك جهلهم باللغة العربية، ثم حذفوا تعقيبات العلماء منها، وأطلقوا على ما جمعوه ( أخطاء نحوية في القرآن ) !
فجاء العلمانيون ليتبجحوا ويجتروا هذا الكلام بل زعموه " بحثاً علمياً " ! ووصفوه بالنزاهة والتجرد الموضوعي!