مجزرة مخيم برج الشمالي المنسية
د. غازي حسين
يجسّد ماضي وحاضر قادة «إسرائيل» والحركة الصهيونية العالمية التصميم على تهجير يهود العالم إلى فلسطين العربية وترحيل العرب منها ومسح الشعب العربي الفلسطيني من الوجود عن طريق الإبادة والترحيل والتوطين والوطن البديل والتذويب والتجويع والاضطهاد وعرقلة التنمية والتطور وسرقة أراضيه وتدمير أملاكه ومؤسساته وثرواته لإقامة إسرائيل العظمى من النيل إلى الفرات.
لذلك يتعرض الشعب الفلسطيني منذ تأسيس «إسرائيل» وحتى اليوم إلى الإرهاب والعنصرية والهولوكوست لتدمير وجوده وكيانه وحياة أبنائه لتحقيق هذا الهدف الشيطاني وتهويد فلسطين والمقدسات العربية فيها كمنطلق لإقامة إسرائيل العظمى الاقتصادية من خلال مشروع الشرق الأوسط الجديد.
وتأتي مجزرة مخيم برج الشمالي المنسية في مدينة صور في هذا السياق واستمراراً للهولوكوست الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني.
ففي السابع من حزيران في العام 1982، وفي خضم حرب «إسرائيل» العدوانية على لبنان وقعت مجزرة مخيم برج الشمالي التي ذهب ضحيتها أكثر من (150) من اللاجئين الفلسطينيين. وقام الباحث الفلسطيني جابر سليمان بتوثيق أسماء (141) من ضحايا المجزرة بمساعدة جمعة مشيرفة ومحمود الحاج.
فكيف وقعت هذه المجزرة الوحشية المنسية؟
قام الطيران الإسرائيلي في 7/6/1982 بقصف متعمد لملاجئ المدنيين في المخيم وأباد عائلات بأسرها، وبلغ عدد الضحايا في ملجأ نادي الحولة وحدة (94)، وفي مغارة على الرميِّص (أبو خنجر) (21)، وفي ملجأ روضة النجدة الاجتماعية (7) ضحايا. وجاءت المجزرة بحق المدنيين من الأطفال والنساء تطبيقاً للتعاليم التوراتية والتلمودية والصهيونية والإسرائيلية في الاستمرار بارتكاب الهولوكوست على الشعب الفلسطيني لمسحه من الوجود وإحلال المستعمرين اليهود محله.
وتكرر نفس الأسلوب في مجازر صبرا وشاتيلا وفي مخيم جنين والبلدة القديمة في نابلس، حيث قام جيش العدو الإسرائيلي منذ الساعة الثامنة من صباح السابع من حزيران وحتى الساعة الواحدة ظهراً بقصف جوي ومدفعي لمخيم البرج الشمالي ومداخله، وتقدمت الدبابات الإسرائيلية بعد القصف نحو مداخل المخيم.
وبدأ تنفيذ المجزرة الرهيبة بحق الأطفال والنساء في الملاجئ بشن الطيران الإسرائيلي الغارات الوحشية على وسط المخيم ومحيطه، وبشكل خاص على الملاجئ والمغاور التي لجأت إليها العائلات الفلسطينية.
وأدى القصف الإسرائيلي الوحشي والجبان إلى تدمير الملاجئ والمغاور على من فيها من الأطفال والنساء والشيوخ والرجال.
وتفحمت جثث اللاجئين الفلسطينيين جراء استخدام الطيران الإسرائيلي القنابل الفسفورية الحارقة وبشكل خاص في ملجأ نادي الحولة. وتحوّل الملجأ إلى مقبرة جماعية بالجثث المحترقة والمتفحمة.
وأكد شهود العيان أن الطيران الإسرائيلي دمر ملجأ روضة النجدة الاجتماعية، ومغارة على الرميِّص، ومغارة حي المغاربة، وأن العديد من المدنيين قتلوا في شوارع المخيم، وأنهم شاهدوا أماً حاملاً وضعت طفلها في الشارع خلال القصف الإسرائيلي واسمها آسيا كامل فياض، ونجا الطفل من المجزرة فسمّته أمه ناجي.
وقال مصطفى عبد الله أنه فقد زوجته مريم وطفليه رامي (6) سنوات ورانيا 4 سنوات في المجزرة وكانت زوجته حاملاً. ووصف ما شاهده قائلاً: «نزلت إلى ملجأ مؤسسة جبل عامل الواقعة في محاذاة المخيم بحثاً عن أسرتي، نزلت إلى الملجأ وكانت الجثث محترقة والضحايا عراة بعد أن احترقت ملابسهم، يعني شعري شاب مجرد ما شفت هيك منظر».
قالوا لي: نقلنا أختك أم العز إلى مستوصف جيش التحرير الفلسطيني من أجل إسعافها لأنها محروقة وعيونها ما بتشوف فيهن، وفقدت صوابي بعد أن علمت أن أختي الثانية زينب قد استشهدت في الملجأ ورحت في نوبة بكاء طويلة».
ويمضي في روايته: «بعد دفن زوجتي وأولادي كدت أفقد صوابي، معدش في إلي شي بهالدنيا، لكنني تجاوزت محنتي خلال إقامتي في صيدا ومخيم عين الحلوة حين رأيت المآسي التي مرّ بها غيري، بيوت بأكملها أغلقت، أُسر كاملة أبيدت، وساعدني والدي في تجاوز المحنة وقال لي يومها: يا ولدي إذا الشجرة ما زال قشرها أخضر بتبرعم وبتخلف، تزوجت وأنجبت خمسة أطفال».
وقالت مريم زوجة كمال جمعة (أبو العز) وهي إحدى الناجين من مجزرة ملجأ نادي الحولة أنها فقدت جميع أطفالها في المجزرة وعددهم خمسة: فدوى (8 أعوام)، فادي (6 أعوام)، فاتن (4 أعوام)، التوأم فراس وإيهاب (ستة أشهر) ومضت تقول: «لحظة قصف الملجأ كنت بداخله أرضع طفلي ولا أدري ماذا حدث بعد الانفجار، كل ما أتذكره أنني مشيت على جثث الموتى والجرحى».
وقال زوجها أبو العز: البيوت كانت مدمرة والركام يغطي الطرقات، سرت في الاتجاه الذي يقود إلى الملجأ وحاولت الدخول عبر ثغرة تركتها القذائف في جداره، المشهد في الداخل تقشعر له الأبدان: عشرات الناس اختلطت أشلاؤهم وتحولوا إلى أكوام من اللحم البشري المحترق، وكان جو الملجأ يعبق برائحة الكبريت والفسفور الناجمة عن القذائف الحارقة، حاولت أن انتشل امرأة من خلال الثغرة أمسكتها من ذراعها، فانسلخت الذراع في يدي، انتشلت طفلاً من مدخل الملجأ لكنه سقط ميتاً بعد أن تنشق الهواء، أخرجت أطفالاً آخرين بأجساد محروقة.
وفقد فايز حسن يونس (أبو خالد) زوجته وجميع أولاده الثمانية في مجزرة نادي الحولة وهم: خالد (12)، أوصاف (13)، وليد (8)، منى (6) دلال (5)، سهيل (4)، مازن (3)، وطارق (2).
وتحدث أبو خالد عن المجزرة قائلاً: «كنت من أوائل الذين وصلوا إلى الملجأ، وكنت أول من نزل إليه، شاهدت المنظر إشي ما بتصوره العقل، وأخذت أبكي وأصرخ بأعلى صوتي «ملجأ النادي انتهى والناس اللي فيه انتهوا، ولادي وعيلتي معاهن» وتابع يقول: فقدت أعصابي مسكت البارودة وبدي أطخّ حالي، انتزع الشباب مني البندقية وهدأوا من روعي، وظليت فترة أسبوع أو أكثر فاقد الذاكرة».
وفقد حسن الذيب المعروف بالمختار في مجزرة ملجأ نادي الحولة نحو 37 من ذويه منهم: زوجته، وثمانية من أولاده، ووالدته، وأخوه وزوجته وأولادهما الثمانية، وأخته وسبعة أولاد، وأخته العزباء، وزوجة أحد أبنائه وابنتان، وزوجه ابنه الثاني وابنتان، وخاله وزوجته وأولاده، وكان بيته وبيوت ذويه تقع بجوار الملجأ، السبب الذي دعاهم جميعاً إلى الاحتماء فيه.
إن إبادة اللاجئين الفلسطينيين في المخيمات في جنوب لبنان وفي بيروت، وفي الضفة الغربية وقطاع غزة مخطط صهيوني للتخلص من الشعب الفلسطيني ومسحه من الوجود لتحقيق الأكذوبة الصهيونية «إن فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض».
وتُظهر هذه المجزرة الرهيبة واستمرار الهولوكوست على الشعب الفلسطيني أن «إسرائيل» دولة مجرمة وحقيرة وتعمل على إبادة الشعب الفلسطيني، وتريد التوسع والاحتلال وتهويد الأرض والمقدسات العربية وكسر الإرادات الرسمية العربية والفلسطينية بالإرهاب والعنصرية والإبادة الجماعية.
إن ممارسات ومواقف «إسرائيل» وحروبها ومجازرها وأطماعها في الأرض والثروات العربية لا تقود أبداً إلى السلام وإلى الصلح والاعتراف وإنما إلى زوالها من فلسطين العربية، وتظهر أنه لا يمكن التعايش مع استعمار وإرهاب وعنصرية ووحشية واغتصاب «إسرائيل» للأرض والحقوق العربية.
وهي دخيلة على فلسطين غريبة عنها جاءت من وراء البحار باستغلال معزوفيي الهولوكوست واللا سامية ومصيرها إلى الزوال.