إلى روح الدكتور عدنان درويش
أبي أحمد رحمه الله
في غرفة استقبال الضيوف بمنزله ، كم أمضينا من ليال وسهرات، أمات الأسفار المزينة الجدران تحيطنا، ووجهه وكلامه الناضحان أصالة يخلعان علينا بردة العبير نادرة المثال.
مناضل سياسي عريق أفنى شبابه في سبيل أمته ، ومحقق تراثي قلّ نظيره، وفوق هذا وذاك، رجل صادق كل الصدق، لا يعرف المداهنة ولا المواربة، ولخصلته هذه، اعتزل الدنيا كلها ولا سيما دنيا الثقافة والأدب أيامَه الأخيرة.
عمله في التحقيق والفهرسة نادر المثال، وهو من هذه البابة أستاذ بالمعنى الرفيع العميق للكلمة، لو بثّ خبرته وعلمه بهذين المجالين في الآفاق لأسدى للأمة خدمة لا تدانيها خدمة. وباحث عن الحقيقة أينما وجدها كان أولى بها، ولذا أعرض عن وجهته القومية العلمانية التي سار في ركابها فكان من المبرزين شبابَه كله، واتجه نحو التدين اتجاهاً واضحاً في فكره وعاطفته.
قيل فيه: إنه آخر المؤرخين العظام، وتاريخ ابن قاضي شهبة شاهد ظاهر على ذاك، وهو في هذا الباب أمة وحده، له دأب في العمل أي دأب، وجلد على البحث والمثابرة عجيب.
أيام تقضّت وهو يعمل ويعمل، لغرض نشر العلم لا لغرض آخر من متاع الدنيا، فنال تلامذته وتلامذة تلامذته حظوات ومكانات وباتوا من ذوي الثروات الطائلة، وهو ما يزال في طابقه الأرضي ذي الغرف الثلاث المسوّرة بخزائن الكتب، المعطرة بعبق التراث، يعيش من راتبه وراتبه التقاعدي من بعد موظفاً حكومياًً في وزارة الثقافة السورية.
لم تنل ولو ذرة مما تستحق أيها الكبير، فلعل جزاءك قد قُيِّض لك أن يكون كله كله هناك، في مقعد صدق عند مليك مقتدر، حيث تعنو الوجوه للحي القيوم، ولا يخيب من يحمل كحِملك من الخير.
ولا زال ريحان ومسك وعنبر ............... على منتهاه ديمة ثَمّ هاطل.