1- باب ترتيب أحوال المبتدئ بالتفقه
أنا القاضي أبو عبد الله الصيمري، أنا عمر بن إبراهيم المقرئ، نا مكرم بن أحمد، نا أحمد بن عطية، نا منجاب، نا شريك، عن حصين، قال: جاءت امرأة إلى حلقة أبي حنيفة، وكان يطلب الكلام، فسألته عن مسألة، له ولأصحابه، فلم يحسنوا فيها شيئا من الجواب، فانصرفت إلى حماد بن أبي سليمان، فسألته فأجابها، فرجعت إليه، فقالت: غررتموني، سمعت كلامكم، فلم تحسنوا شيئا. فقام أبو حنيفة، فأتى حمادا، فقال له: ما جاء بك ؟ قال: أطلب الفقه! قال: تعلم كل يوم ثلاث مسائل ولا تزد عليها شيئا حتى يتفق لك شيء من العلم ففعل، ولزم الحلقة حتى فقه، فكان الناس يشيرون إليه بالأصابع " وينبغي له أن يتثبت في الأخذ ولا يكثر، بل يأخذ قليلا قليلا، حسب ما يحتمله حفظه، ويقرب من فهمه، فإن الله تعالى يقول: وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا.
2- باب القول في التحفظ وأوقاته وإصلاح ما يعرض من علله وآفاته
اعلم أن للحفظ ساعات، ينبغي لمن أراد التحفظ أن يراعيها وللحفظ أماكن ينبغي للمتحفظ أن يلزمها فأجود الأوقات: الأسحار، ثم بعدها وقت انتصاف النهار، وبعدها الغدوات دون العشيات، وحفظ الليل أصلح من حفظ النهار قيل لبعضهم: بم أدركت العلم ؟ فقال: بالمصباح، والجلوس إلى الصباح وقيل لآخر، فقال: بالسفر، والسهر، والبكور في السحر
3- باب: ذكر مقدار ما يحفظه المتفقه
اعلم أن القلب جارحة من الجوارح، تحتمل أشياء، وتعجز عن أشياء، كالجسم الذي يحتمل بعض الناس أن يحمل مائتي رطل، ومنهم من يعجز عن عشرين رطلا، وكذلك منهم من يمشي فراسخ في يوم، لا يعجزه، ومنهم من يمشي بعض ميل، فيضر ذلك به، ومنهم من يأكل من الطعام أرطالا، ومنهم من يتخمه الرطل فما دونه، فكذلك القلب من الناس من يحفظ عشر ورقات في ساعة، ومنهم من لا يحفظ نصف صفحة في أيام، فإذا ذهب الذي مقدار حفظه نصف صفحة يروم أن يحفظ عشر ورقات تشبها بغيره لحقه الملل، وأدركه الضجر، ونسي ما حفظ، ولم ينتفع بما سمع فليقتصر كل امرئ من نفسه على مقدار يبقى فيه ما لا يستفرغ كل نشاطه، فإن ذلك أعون له على التعلم من الذهن الجيد والمعلم الحاذق.
873 - أنا أبو بكر البرقاني، قال: قرأت على أبي العباس محمد بن أحمد بن حمدان، حدثكم الحسين بن محمد القباني، نا أبو الأشعث، نا خالد بن الحارث، نا حميد، قال: سئل أنس إن شاء الله عن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وصومه، فقال: " كان يصوم من الشهر حتى نقول: لا يريد أن يفطر منه شيئا ويفطر حتى نقول: لا يريد أن يصوم منه شيئا، وما كنا نشاء أن نراه من الليل مصليا إلا رأيناه، ولا نائما إلا رأيناه". قال بعض الحكماء: إن لهذه القلوب تنافرا كتنافر الوحش، فألفوها بالاقتصاد في التعليم، والتوسط في التقويم، لتحسن طاعتها، ويدوم نشاطها ولا ينبغي أن يمرج نفسه فيما يستفرغ مجهوده، وليعلم أنه إن فعل ذلك فتعلم في يوم ضعف ما يحتمل أضر به في العاقبة، لأنه إذا تعلم الكثير الذي لا طاقة له به، وإن تهيأ له في يومه ذلك أن يضبطه، وظن أنه يحفظه، فإنه إذا عاد من غد وتعلم نسي ما كان تعلمه أولا، وثقلت عليه إعادته، وكان بمنزلة رجل حمل في يومه ما لا يطيقه فأثر ذلك في جسمه ثم عاد من غد، فحمل ما يطيقه فأثر ذلك في جسمه، وكذلك إذا فعل في اليوم الثالث، ويصيبه المرض وهو لا يشعر ويدل على ما ذكرته: أن الرجل يأكل من الطعام ما يرى أنه يحتمله في يومه مما يزيد فيه على قدر عادته، فيعقبه ذلك ضعفا في معدته، فإذا أكل في اليوم الثاني قدر ما كان يأكله أعقبه لباقي الطعام المتقدم في معدته تخمة فينبغي للمتعلم أن يشفق على نفسه من تحميلها فوق طاقتها، ويقتصر من التعليم على ما يبقي عليه حفظه، ويثبت في قلبه.
874 - أنا علي بن محمد بن عبد الله المعدل، أنا الحسين بن صفوان، نا عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا، نا أبو خيثمة، ثنا ابن عيينة، عن عمرو، عن أبي العباس، عن عبد الله بن عمرو، قال: قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ألم أخبر أنك تقوم الليل وتصوم النهار؟" فقلت: إني أفعل ذلك، قال: "إنك إذا فعلت ذلك هجمت (غارت ودخلت في موضعها) عينك، ونقهت نفسك لعينك حق، ولنفسك حق فصم وأفطر، وصل ونم " قال ابن أبي الدنيا، قال أبي: نقهت نفسك عن الشيء: إذا ملت، فلم تشتهه وهجمت عينك: إذا سالت بالدموع وينبغي أن يجعل لنفسه مقدارا، كلما بلغه وقف وقفة أياما لا يريد تعلما، فإن ذلك بمنزلة البنيان: ألا ترى أن من أراد أن يستجيد البناء، بناه أذرعا يسيرة، ثم تركه حتى يستقر، ثم يبني فوقه، ولو بنى البناء كله في يوم واحد لم يكن بالذي يستجاد، وربما انهدم بسرعة، وإن بقي كان غير محكم، فكذلك المتعلم ينبغي أن يجعل لنفسه حدا، كلما انتهى إليه وقف عنده، حتى يستقر ما في قلبه، ويريح بتلك الوقفة نفسه، فإذا اشتهى التعلم بنشاط عاد إليه، وإن اشتهاه بغير نشاط لم يعرض له، فإنه قد يشتهي الإنسان، لما كان نظير له يحب أن يعلو عليه، ويرى من نفسه الاقتدار، وليس له في الطبع نشاط، فلا يثبت ما يتعلمه في قلبه، وإذا اشتهر مع نشاط يكون فيه ثبت في قلبه ما يسمعه وحفظه، فإذا أكل ضره ولم يستمره، وإذا اشتهى والمعدة نقية، استمرأ ما أكل وبان على جسمه.