لن أنتظر أن يتوفى كبارُ الأئمة والقرّاء حتى يعلم الناس قدرهم ..
وها أنا ذا أشرع في عرض القمر السابع والاخير من أقمار قرّاء بلاد الشام ..
المقرئ المفسّر ، الفقيه اللغوي ، الشيخ محمد كريّم راجح ..
وكعادة منهجيّتي في سرد التراجم ؛ فإني أعمدُ إلى تجميع كل ما تقع عليه عينايَ من تراجم وأخبار عن الشيخ ، مستوثقاُ من بعضها بسؤال أهل الاختصاص ، مكتفياً باقتباس بعضها الآخر مما انتشر خبرها وتواتر وجودها على صفحات التراجم ...
وهذا جهد المقل ، فإن كان فيه تقصير أو نقص فهو مني وإليّ ، ومنه نطلب العفو والمغفرة ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ..
ولد الشيخ في مدينة دمشق عام 1926 م لوالد أمّيٍّ كان يعمل لحّاماً ، ولوالدة ( كانت متزوجة قبل أبيه ) مقرئة وتلقّن القرآن للأطفال والصغار ..
دخل الكتَّاب في عمر 5 سنوات ، وانتهى منه في عمر 8 سنوات ، ليلتحق بمدرسة ( وقاية الأبناء ) التي أنشأها الداعي الإصلاحي علي الدقر ، إلا أنه لم يبق فيها سوى سنة واحدة ، لشدة الضرّب والأذى فيها من المعلمين ..
ترك المدرسة ، وخرج لمشاقّ الحياة ، فوجد فرصة عمل في المطبعة الهاشمية ، وكان عمره لا يتجاوز 10 سنوات فقط .. هناك حيث وقع بين يديه نسخة من كتاب " تفسير الجلالين " لقوله : [ ولقد ءاتينا إبراهيم رشده من قبل وكنّا به عالمين ، إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون ] ..
فقرأها الشيخ مراراً ، وأعجب بالقصة وتعلّق بتفسيرها ..
عاد في المساء ليخبر والدته عن حبه لبلاغة القرآن ورغبته في حفظه كاملاً ..
كان يحفظ القرآن أثناء سيره إلى عمله .. فيقف تحت " عواميد الكهرباء " في المساء يقتبس من نورها لينظر إلى سطور المصحف بين يديه .. فختمه في سنة واحدة ..
وله طريقة في تمكين الحفظ : أن يراجع جزءاً في يوم ، ثم يراجع الثاني في اليوم التالي مع الأول وهكذا .. لا يراجع جزءاً إلا ويضم جميع ما راجعه من قبل ..
ولم يتجاوز عمر الشيخ آنذاك 14 سنة عند ختمه القرآن غيباً ..
وكان - حفظه الله - يقول : ( من قرأ خمس لم ينس ) ؛ أي من راجع كل يوم خمسة أجزاء يومياً لم ينسَ نصيبه الذي فضّله الله به من القرآن أبدا ..
( تذكر التراجم قصّة أخرى لحفظه القرآن ، أنه كان يحضر سينما مع اصحابه وعاد متأخراً، فقالت له أمه : أليس خيراً لك من السينما أن تذهب إلى الأستاذ الشيخ حسين خطاب تتعلم عنده القرآن وتتعلم منه الدين ؟ )
وكلاهما صحيح ذكرهما الشيخ كريّم راجح بنفسه في مقابلاته ..
تفرّس الشيخ خطاب رحمه الله أمارات الذكاء في الشيخ كريّم راجح ، فأخذه إلى الشيخ حسن حبنّكة وعرضه عليه ، فسرّ به سروراً شديداً ، واحتواه في مدرسته التابعة لجميعة التوجيه الإسلامي ليكمل تعليمه الشرعي ..
تاقت نفسه لتعلّم القراءات فحفظ الشاطبية في بضع أشهر ( كل يوم عشر ابيات ) ، وعرضها كاملة على الشيخ محمد سليم الحلواني ( شيخ قرّاء دمشق وقتها ) ..
أراد بعدها أن يقرأ على الشيخ محمد سليم الحلواني القراءات العشر الصغرى جمعاً من طريقي الشاطبية والدرّة .. فتوفّى الله الشيخ الحلواني ، وأخلفه بابنه المتقن الشيخ أحمد .. فتلقّى عنه القراءات العشر الصغرى ختمة كاملة ..
ثم تلقّاها ختمة كاملة مرة أخرى تمكيناً على الشيخ محمود فائز الديرعطاني ..
وقد وهم البعض تلقيه القراءات العشر عن الشيخ محمد سليم الحلواني ، وليس بذاك .. وقد أوضح ذلك شيخنا المحقق : حسن مصطفى الوراقي في كتابه " تحفة الأخوان " فارجع إليه ..
ثم أراد القراءة بالقراءات العشر الكبرى من طريق طيّبة النشر ، فعرضها على الشيخ المقرئ عبدالقادر قويدر في قرية عربين بمضمّن تحريرات الإمام الإزميري ، وهي من أشد مدارس التحريرات وأصعبها في القراءات ..
- وقد أفرغتُ للشيخين ترجمتين كاملتين أنشرهما قريباً إن شاء ربي بذلك - ..
والقرية تبعد عن سكن الشيخ 10 كم ، يذهب إليها ماشياً لصعوبة المواصلات ، وكان الشيخ حسين خطّاب ( شيخه ) ملازماً له طوال هذه الفترة لم يتركه ..
تصدّر للإقراء بالقراءات العشر الكبرى من طريق طيّبة النشر ولم يتجاوز 30 عاماً ..
بعدها ، قرر العودة إلى المدرسة الشرعية لإكمال المتوسطة والثانوية فيها !
فتخرج منها ، ثم دخل كلية التربية في جامعة دمشق وتخرّج فيها أيضاً ،
ليعيّن إماماً في أحد مساجد دمشق .. وكانت له حلقات تدريس في المسجد ..
فدرّس تفسير القرطبي .. وشرح مسلم للنووي .. وإحياء علوم الدين للغزالي .. و " حاشية الشرقاوي على شرح التحرير " لزكريا الانصاري في الفقه الشافعي ، وغيرها ..
ولا يتوقف عن التلقين والتدريس حتى في بيته ، له صباح كل جمعة درس في صحيح البخاري يحضره كبار طلبة العلم ..
فلم تتجه همة الشيخ إلى التأليف لانصراف كل وقته بالتعليم ..
وكان محبوباً ، كثير الشفقة على الفقراء ، يتبّع حوائج طلبته ويسأل عنهم بنفسه ..
صريح في الحق ، اتعبته صراحته مع كثير ممن يؤثرون المجاملات الاجتماعية ..
تنقّل الشيخ إلى عدة مناصب عليا ، آخرها مفتياً في منطقة إذرع جنوب دمشق .. وتحسّنت حالته المادية بعد أن كان فقيراً معدوماً يقترض المال لأجل الطعام وتمر عليه الأيام دون أكل ..
توفى الشيخ حسين خطّاب رحمه الله عام 1987 م ، فأعلن الشيخ عبدالرزاق الحلبي مبايعة الشيخ كريّم راجح شيخاً لقرّاء دمشق خلفاً عنه بعد استشارة الشيخ ابي الحسن الكردي ، وأقر الجميع من علماء وقرَّاء ، ووافقت على ذلك وزارة الأوقاف بقرار من الوزير آنذاك..
ومعلوم أن منصب " شيخ القراء " ليس منصباً وظيفياً يتقاضى عليه أجراً ،
بل هو منصب تشريفي يُنصب صاحبه فيه بعد اعتراف القرّاء أنه الحجّة العليا في القراءات العشر ، يُرجَع إليه في الخلاف فيُرجع إليه عند الاختلاف ، ويعدّ مرجعاً في القراءات والتدريس ..
يقول الشيخ كريّم راجح متأثراً : [ ثق يا أخي أنني لا اصلح .. والله أنا لا أصلح لشيء .. ولكني أصلح لشيء واحد ، وهو أن يغفر الله لي ويتوفني مسلماً ، ويلحقني بالصالحين ] . أ.هـ ..
فالله يُكرم الشيخ ويبارك له في عمره وعلمه ، ويرزقنا لقاءه والقراءة عليه ...
مجرد فضفضة .. وخلوا كلامي للـــذكرى ،،
د. ماجد بن حسّان شمسي باشا .. 4/5/2016 م ،،