ثقب في بئر
(1)
اختار فؤاد مجموعة من الأشجار لتكون له مكمناً يستطيع من خلاله رصد حركة أحد عمال البساتين، كانت قبعته ونظارته الشمسية يبعدان عنه شبهة المراقبة، كما كانت أداة (الورنية) في يده التي يقيس بها سماكة الأغصان لمعرفة معدلات النمو السنوية وأثر كل سمادٍ على نسبة النمو.
علي محرم، أحد العمال التركمان الذين وقع عليهم اختيار دراسة انخفاض الإنتاجية لدى عمال البساتين، كان كأي عامل في ملابسه، يرتدي ملابس أكبر من حجمه قليلاً أو كثيراً، فهذا لم يكن مهماً، طالما أنه في النهاية سيحزمها بحزامٍ عريض صنعه من قطع من القماش القديم، يثبت فيه طرف ثوبه أثناء عمليات الري، كما يثبت فيه مقص التقليم. كان يرمي بحذائه بعيداً أثناء عمله، فيتسلق محلول الطين بالماء من خلال شعر ساقيه وبعض أجزاء القماش المنفلت من ثيابه، وكانت ألوان ملابسه تبدو وكأنها خريطة جغرافية تدلل بألوانها على تدرج الارتفاعات والصحارى فبين البني والأصفر درجات.
لم يكن علي محرم هو العامل الوحيد الذي يخضع لتلك الدراسة، فكان هناك مئات من العمال الزراعيين المختلفين في اختصاصاتهم وقومياتهم ودياناتهم وطوائفهم وأعمارهم. كما لم يكن فؤاد هو المهندس الزراعي الوحيد المكلف بتدوين دقائق (ساعات) العمل الفعلية، فكان معه عشرون آخرون، الذين قُسِمت أدوارهم في تلك الدراسة.
(2)
جلس علي محرم، على حافة الساقية، ولم يكن يخشَ حتى من أن يكون فؤاد مكلفاً بمراقبته، فقد كان يتقاضى اثني وعشرين ديناراً كراتب شهري، في حين كان يقوم بالمرور على عشر حدائق للأهالي مقابل خمسة دنانير شهرياً، مقابل أن يقوم بتشذيب النباتات وسقيها وإزالة الأعشاب من تلك الحدائق بمعدل ساعة عملٍ كل أسبوع.
كان علي يقنن وقته وجهده حسب ما يحصل عليه من راتبٍ وحسب ما يتناوله من طعام لصرف السعرات الحرارية كل سعرة في مكانها، فجهده اليومي الذي كان موزعاً بين دفع دراجته الهوائية من بيته الذي يبعد عن مكان العمل سبعة كيلومتر، وبين إدامة حدائق الأهالي وبين معاشرته لزوجه وبين عمله الحكومي!
كان يتلكأ في النهوض من على حافة الساقية، لتفقد انسياب الماء، وإن جاء وقت صلاة الظهر، حمل إبريق الوضوء وابتعد لمدة نصف ساعة ليختفي عن الأنظار، ويعود يقيم الصلاة صامتاً ويطيل في إقامتها أكثر من وقت الصلاة نفسها، ثم يجلس يتمتم بدعاءٍ طويل، وينهض ليخطو عدة خطواتٍ غير محددة، ثم يذهب الى جمع عيدان الأغصان لعمل (الشاي) استعداداً لاستراحة الغداء.
(3)
كان فؤاد يدون كل حركة من حركات العامل، ويسجل فقط تلك الدقائق التي يُبذل فيها جهدٌ حقيقي كضرب الفأس بالأرض، وطمر ثقبٍ لجرذٍ تهرب المياه من خلاله دون فائدة، وإزالة بعض الأدغال التي تعيق حركة المياه، وتشرب من المياه كأنها تأخذ ضريبة مرورها جنبها.
يتأمل فؤاد، فالدوام أوشك على الانتهاء وصاحبه الذي يراقب، لم يزد جهده عن ساعة عمل حقيقية إلا بدقائق قليلة.
يتساءل: هل الجهد الحقيقي هو أن تبقى عضلات العامل بشغل مستمر طيلة الثماني ساعات التي يحددها القانون؟ من يقول ذلك؟ وهل هناك أحدٌ يبذل جهداً كهذا؟ فمديره بالدائرة مثلاً، يوقع بعض الأوراق بجهد عدة دقائق، ويمضي وقته بالمكالمات الخارجية، أو أسئلة المجاملة لبعض من الموظفات والموظفين، أو في شرب الشاي والقهوة، والحديث عن الكيفية التي مات فيها أحد المذكورين في جلسات المدير مع زواره.
ثم يعود يتساءل: وهل اثنا وعشرون ديناراً كافيات لإجبار علي محرم على القيام بعمله بطريقة أكثر انضباطا؟ أليس من الظلم أن يأخذ علي راتباً أقل مما يتقاضاه طلاب الدول الشقيقة والصديقة الدارسون في جامعاتنا حيث يتقاضى أحدهم خمسا وعشرين ديناراً، إضافة الى كُلف التعليم والإسكان وغيرها؟
ولكن فؤاد لم يكن مستعجلاً، لاستخلاص النتائج قبل انتهاء البحث، فالاستنتاج السريع ليس من سمات البحث العلمي، فلا يجوز أن يُقال أن العمال التركمان أقل إنتاجاً من العمال الأكراد أو العرب، ولا يجوز أن يُقال أن العامل المسلم أقل إنتاجاً من العامل غير المسلم، فإن كان كذلك فلا داعي للدراسة.
ثم عاد لتساؤلاته: أليس ما أقوم به أنا (الآخر) مضيعة للوقت؟ فلو جمعت ما أراقب أنا وزملائي تلك الظاهرة، خلال ثلاث سنوات لفاق ساعات العمل لدى هؤلاء العمال الذين نراقبهم.
ضحك في سره وقال: إن هناك آلاف بل مئات الألوف من المواطنين من يقومون بأعمال كهذه، فالمخبر لا يؤدي عملاً إلا ما استقاه من المراقبة، والحراس لا يؤدون عملاً محدداً إلا المراقبة، ولو وضعنا الجيوش بأعدادها وعدتها فهي تتدرب وتأكل ويُصرف لها ملابس وتُعالج مجاناً، وقد يتقاعد معظم أفرادها دون أن يطلقوا طلقة واحدة، لكنهم يبقوا يراقبون علهم يطلقون!
يتبع