حديث في الموت - د. زياد الحكيم
بالرغم من أن الموت حقيقة واقعة لا ينكرها احد وبالرغم من أن الحزن على وفاة عزيز لنا من أهل وأصدقاء ومعارف خبرة مؤلمة يمر بها الناس جميعا إلا أننا لا نتحدث عن الموت بالشكل الكافي. وإذا فتحت سيرة الموت في سهرة عائلية مثلا فان اصواتا تنطلق من هنا وهناك تطالب بتغيير الموضوع، والتركيز على ما هو مفرح وباعث على الانشراح. وهذا لا يغير من الحقيقة شيئا: فالموت حقيقة لا مفر من الاعتراف بها ويجب أن نتعلم كيف يكون عليه الحال عندما يموت عزيز لنا. وكلما كبرنا في السن يزداد عدد من يتساقطون من حولنا ممن نحبهم.
نحن نحزن بعد كل خسارة نتعرض لها. ولكن أعمق أنواع الحزن هو ذلك الذي نشعر به عندما يموت عزيز لنا. وهذا الحزن ليس شعورا من نوع واحد. بل هو جملة من المشاعر التي يجب أن نعطيها حقها من الوقت، ويجب عدم إخفائها وكأنها شيء يمكن تجاهله، وإذا تجاهلناه لم يعد له وجود.
نشعر بالفجيعة في الغالب على شخص عرفناه على مدى وقت طويل. ولكن في الوقت نفسه نعرف أمهات فجعن بطفل لهن ولد ميتا، أو حتى فجعن بجنين سقط أثناء الحمل. وتمر هؤلاء الأمهات بالحزن نفسه ويحتجن إلى العناية نفسها أثناء فترة الحزن.
في الساعات القليلة والأيام القليلة التي تعقب وفاة قريب أو صديق يشعر معظم الناس بالذهول وكأنهم لا يصدقون أن الوفاة قد حدثت. ويشعرون بهذا الشعور حتى وإن كانت الوفاة متوقعة. وقد يكون هذا الخدر مفيدا في المساعدة على القيام بالترتيبات اللازمة مثل الاتصال بالأقارب وتنظيم الجنازة. ولكن هذا الشعور بعدم التصديق قد يشكل مشكلة إذا استمر طويلا، وقد يكون من المفيد رؤية الجثمان لوقف هذا الشعور.
ومراسم الجنازة بما تستغرقه من وقت فرصة يستوعب فيها المرء ما حدث فعلا. وقد يكون من المؤلم أن يرى المرء الجثمان وان يسير في التشييع، ولكننا بهذه الطريقة نودع الأحباب، وإذا لم نفعل فإننا نشعر بأسف عميق فيما بعد عندما يغلب علينا الإحساس بأننا لم نقم بواجبنا نحوهم.
عندما تنتهي هذه المرحلة تبدأ مرحلة فيها شوق إلى المتوفى. ويتخلل هذه المرحلة إحساس بالغضب من الأطباء والممرضات الذين لم يفعلوا ما فيه الكفاية لإنقاذ حياته. وقد يتخلل هذه المرحلة أيضا غضب من المتوفى نفسه الذي آثر أن يتركنا ويذهب بعيدا. وفي هذه المرحلة نعاني من صعوبات في النوم والراحة. وقد يخيل إلينا أننا نرى المتوفى في كل مكان نذهب إليه في الحديقة وفي الشارع وفي البيت.
والمرحلة التالية هو مرحلة الشعور بالذنب. يراجع كثير من الناس في أذهانهم ما كانوا يحبون أن يقولوه للمتوفى قبل وفاته. وربما يشغلون بالهم بما كان يمكن أن يفعلوه للحيلولة دون حدوث الوفاة. ويشعر بعض الناس بالذنب إذا أحسوا بالارتياح للوفاة بعد مرض مؤلم وطويل. ولكن يجب أن نذكر هنا أن الإحساس بالارتياح شعور طبيعي وله مسوغاته وشائع بين الناس.
هذا الإحساس بالاهتياج يستمر إلى ما بعد حوالي أسبوعين من الوفاة. ويدخل المفجوع بعد ذلك في مرحلة من الحزن الهادئ أو الاكتئاب الهادئ. وتصل هذه المرحلة إلى ذروتها ما بين أربعة أسابيع وستة أسابيع. وقد ينفجر المفجوع باكيا بسبب رؤيته أشخاصا معينين ( كأولاد المتوفى) أو أماكن أو أشياء معينة تعيد له ذكريات المتوفى.
وقد لا يفهم الآخرون سببا لهذا الانفجار بالبكاء. وفي هذه المرحلة قد يكون من الأفضل الابتعاد عن الآخرين والبكاء في مكان بعيد عن الناس. ومن الأفضل في العادة أن يعود المفجوع إلى نشاطاته المعتادة بعد أسبوعين أو أكثر قليلا من تلك الفترة. وقد يبدو للآخرين أن ا لمفجوع يجلس دون أن يفعل شيئا. ولكنه في واقع الأمر يفكر بالمتوفى ويتذكر الأيام التي قضاها معه. ومراجعة هذه الذكريات ضرورية لاستيعاب الوفاة وقبولها.
ومع الأيام يخف الإحساس بالألم الذي خبره المفجوع بعد الوفاة مباشرة. وتخف حالات الاكتئاب. ويستطيع المفجوع أن يفكر في شؤون حياته العادية. ولكن الإحساس بأنه فقد جزءا من حياته قد يدوم إلى النهاية. فالذي فقد زوجته مثلا لا يستطيع أن ينساها في ظروفه الاجتماعية الجديدة وعندما ينظر حوله فيجد الأزواج مع زوجاتهم في صور أسرية سعيدة جميلة يشعر بالحسرة. ويمر الوقت، ويبقى الإحساس. ويشعر الزوج المفجوع انه يتحدث عن زوجته كما لو أنها لاتزال على قيد الحياة.
هذه المراحل من الإحساس بالفاجعة تتداخل أحيانا وتظهر بمظاهر مختلفة باختلاف الناس. معظم المفجوعين يستعيدون عافيتهم بعد عام أو عامين ويبدأون حياة جديدة. ويتحسن نومهم، ويستعيدون طاقتهم. ولكن يبقى هناك إحساس بأنهم فقدوا شخصا عزيزا لن يعوض.
وتختلف فكرة الموت باختلاف الثقافات. وأصحاب الثقافات المختلفة توصلوا إلى طقوس لمواجهة الموت. بعض الثقافات تعتبر الموت خطوة في الحياة المتواصلة، ولا يعتبرون الموت نقطة توقف. في بعض الثقافات فترة الحزن محددة. وفي بعضها الآخر لا حدود لها.
ومع أن الأطفال لا يستوعبون فكرة الموت قبل الثالثة أو الرابعة من أعمارهم. ولكنهم يشعرون بالحزن بالطريقة نفسها التي يشعر بها الكبار. وتشير دراسات إلى أن الأطفال في سن مبكرة جدا يشعرون بالحزن على المتوفى وان كانوا لا يعبرون عن ذلك بالكلام.
وفي حالة الانتحار، يشعر المفجوع بالغضب على المنتحر. ويشعر بان المنتحر رفضه. ويشعر بالارتباك حين يفكر بالأسباب الممكنة. ويشعر بالذنب عندما يغلب على ظنه انه قصر وان تقصيره ربما أسهم بوقوع عملية الانتحار. ويشعر بالذنب لأنه لم يتمكن من فعل شيء يحول دون وقوع الانتحار. ويشعر بالذنب إذا أحس أن المنتحر ربما أنهى حياة كان فيها عذاب كثير وألم ومرض.
وماذا يمكن للأصدقاء أن يفعلوه للمفجوع؟ بإمكانهم المساعدة بالوقوف إلى جانبه والتخفيف عنه بالكلمة الطيبة. وبإمكانهم المساعدة بمجرد الاستماع إليه وهو يتحدث مرة بعد مرة عن الأشياء نفسها وعن الذكريات نفسها. ومن المهم أن نتيح للمفجوع أن يعبر عن حزنه بحرية ودون حرج.
وهناك أشخاص لا يبدو أنهم يحزنون لفراق عزيز لهم. لا يبكون في جنازة. ولا يتكلمون عن إحساسهم بالفقد. ويعودون إلى حياتهم الاعتيادية بسرعة مذهلة. ولا ضير في ذلك. في الوقت نفسه هناك أشخاص تمتد فترة حزنهم سنوات ويترتب على ذلك أعراض صحية بدنية ونفسية.
وإذا تواصل الاكتئاب وتعمق، وفقد المفجوع شهيته للطعام، وواجه مشكلات في النوم وفقد طاقته فلا بد من الاستعانة بطبيب نفسي. فوفاة عزيز هي أقسى ما نمر به من خبرات مؤلمة. وفي بعض الحالات تقلب حياتنا رأسا على عقب. ومع ذلك فالموت جزء من الحياة واستمرار لها. ونواجهه في العادة دون مساعدة طبية.